بيروت | Clouds 28.7 c

قل آمنتُ بالله ثم استقم/ بقلم الشيخ أسامة السيد

 

قل آمنتُ بالله ثم استقم/ بقلم الشيخ أسامة السيد

الشراع 26 تموز 2024

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{إن الذين قالوا رَبُّنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملآئكة ألَّا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} سورة فُصِّلت.

وعن أبي عمرٍو وقيل أبي عَمْرَةَ سفيانَ بن عبد الله الثقفي قال: قلتُ يا رسول الله قل لي في الإسلام قولًا لا أسأل عنه أحدًا غَيْرَك. قال: "قل آمنت بالله ثم استقم". رواه مسلم.

لقد كان شأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الكرام الحرص على الخير واغتنام أوقاتهم وأعمارهم بما يكون ذخرًا لهم في أخراهم وهكذا دأبالمفلحين الذين عرفوا قيمة الوقت وحقيقة الدنيا وأهمية العمل الصالح في حياة المرء أمثال هذا الصحابي الجليل الذي سأل النبي صلى الله عليه وسلم هذا السؤال فقال: "قل لي" أي خُصَّني من بين الناس، وقوله: "في الإسلام" أي فيما يكمُل إيماني به قولًا كافيًا شافيًا، وقوله: "لا أسأل عنه أحدًا غيرك" أي واضحًا لا أحتاج بعد سماعه إلى استفهامٍ من أحدٍ فأعمَل به وأكتفي به فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"قل آمنت بالله" والمعنى: آمنت بالله وبما يلزم من ذلك ويتبعه من الاعتقادات أي آمنت بالله ربًا واحدًا أحدًا لا شريك ولا شبيه له، لا يحويه مكانٌ ولا يجري عليه زمانٌ، وبما جاء عن الله أي الإيمان بملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره. وقوله:"ثم استقم" أي على أداء المأمورات واجتناب المنهيات إلى الموت فإن الاستقامة امتثال كل مأمورٍ واجتناب كل محظورٍ، وربنا تعالى يقول:{واعبد ربك حتى يأتيك اليقين} سورة الحجر،معناه: دم على عبادة ربك حتى يأتيك الأمر اليقين حصوله وهو الموت. وحيث لا يدري أحدنا متى يفجؤه الموت فعليه أن يثبت على تقوى الله تعالى ما دام حيًّا،وتدخل في الاستقامة أعمال القلوب كما تدخل أعمال الأبدان من الإيمان أي التصديق الجازم بما جاء به النبي محمدٌ صلى الله عليه وسلم، والإسلام أي الانقياد لما جاء به النبي محمدٌ صلى الله عليه وسلم وذلك أن من كذَّب أو ارتاب في شىءٍ قد أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يكون من المؤمنين. قال تعالى:{إنما المؤمنون الذين ءامنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا} سورة الحُجرات. والريب هو الشك ومحلُّه القلب وقد بيَّنت الآية أن عدم الريب في الإيمان بالله ورسُوله شرطٌ لصحة الإيمان، وكذلك لا يكون مؤمنًا من أنكر فرضية الإقرار بما تضمنته الشهادتان من معنًى أو جحد فرضية الصلاة أو الزكاة أو الصيام أو الحج على المستطيع وهو يعرف ثبوت ذلك فيما بلَّغه النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العالمين، أما من ترك مثلًا الصلاة أو غيرها من الفرائض العملية كالزكاة والصوم والحج لغير عذرٍ مع اعتقاد وجوبها فلا ننفي عنه اسم الإيمان والإسلام إنما هو مؤمنٌ فاسقٌ عاصٍ يستحق عذاب الله الشديد إن مات من غير توبةٍ ومع ذلك لا نجزم أنه يصير إلى النار إنما نقول: إن شاء الله عذَّبه ثم أدخله الجنة وإن شاء سامحه فأدخله الجنة من غير عذابٍ. ويدخل في الاستقامة الإحسان وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك، فمن استحضر في قلبه دومًا هذه المعاني:"الله يراني الله مطَّلعٌ عليَّ الله لا تخفى عليه خافيةٌ الله عالمٌ بي الله قادرٌ عليَّ الله فعَّالٌ لما يريد" فالجدير به أن يحجزه ذكرُ هذا على مقارفة الموبقات لا سيما عند ثوران دواعي النفس الأمَّارة بالسوء إلى اقتراف الحرام.

طوبى للمستقيمين

ولقد قيل:

تفنى اللذاذة ممن نال صفوتها                     من الحرام ويبقى الإثم والعار  

تبقى عواقب سوءٍ من مغبَّتها                    لا خير في لذةٍ من بعدها النار

وفي الحديث أعلاه أمرٌ بالاستقامة على أداء أعمال الطاعات والانتهاء عن جميع المخالفات إذ لا تتأتى الاستقامة مع شىءٍ من الاعوجاج إذ هي ضد الاعوجاج،وإلى هذا المعنى أرشد القرآنُ الكريم كما دلَّت على ذلك الآية أول المقال وغيرها من الآيات فقوله تعالى:{إن الذين قالوا ربنا الله} معناه: آمنوا بالله الذي لا إله غيره، وقوله:{ثم استقاموا} أي بأداء الواجبات واجتناب المحرَّمات لأن الشخص قد يؤمن ولا يستقيم ولا يكون مستقيمًا بغير إيمانٍ فإن جمع في نفسه الإيمان والاستقامة كان على خيرٍ عظيمٍ جدًا، وقد روى الإمام أحمد في كتاب "الزهد"عن سيدنا عمر بن الخطَّاب أنه قال:"استقاموا واللهِ على طاعته ولم يَرُوغُوا رَوَغَانَ الثعلب" ومعناه: اعتدلوا على طاعة الله تعالى اعتقادًا وقولًا وفعلًا وداموا على ذلك فلم يتركوا واجبًا ولا قارفوا معصيةً.

والمستقيمون هم المرادون بقوله تعالى:{وقليلٌ من عباديَ الشكور} سورة سبأ.وعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"استقيموا ولن تُحصُوا" رواه الطبراني وغيره. يعني لن تقدروا إلا النادر منكم على الاستقامة كلِّها لكن اجتهدوا في ذلك قدر الوُسع. وفي "شعب الإيمان" للبيهقي عن جابرٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:" المؤمن واهٍ راقعٌ وسعيدٌ من هلك على رقعه" ومعنى "واهٍ" مذنبٌ، و"راقعٌ" مستغفرٌ، والسعيد من هلك أي مات تائبًا. وقوله تعالى:{تتنزل عليهم الملائكة}قيل: عند الموت فتبشِّرهم {ألَّا تخافوا} أي مما تقدمون عليه من الموت وأمر الآخرة {ولا تحزنوا} أي على ما خلَّفتم من أمر دنياكم ويُذهب الله من نفس هذا التقي الخوف الطبيعي الذي يكون في النفس من الموت فتبشِّره الملائكة بالرحمة والسلام، كما دلَّ عليه قوله تعالى:{وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون} أي التي وعدتم بها في كتاب الله وعلى ألسنة رُسله الكرام.

وعلى كل حالٍ فمن وفَّقه الله تعالى إلى التوحيد فنزَّه الله عن مشابهة المخلوقين وعرف جلال الخالق عزَّ وجلَّ وشُمول علمه وتمام قدرته وآمن بالأنبياء الكراموبرَّأهُم من كل ما لا يليق بهم فعليه أن يدور مع ما أمر الله به وأرشد إليه كيفما دار إقرارًا ورضًى وتسليمًا، فإن استقام في نفسه أثَّر في غيره فاستقام به الآخرون، فلقد قال الشيخ أحمد الرفاعي الكبير: "استقم بنفسك يستقم بك غيرك كيف يستقيم الظل والعود أعوج".

والحمد لله أولًا وآخرًا.