بيروت | Clouds 28.7 c

عداء لبنان لإسرائيل ليس مجرّد تضامن مع فلسطين/ كتب: الان علم الدين

 

عداء لبنان لإسرائيل ليس مجرّد تضامن مع فلسطين/ كتب: الان علم الدين

 ناشط في مبادرة "الدولة الديمقراطية الواحدة"

الشراع 14 ايار 2023

 

في الذكرى الـ75 لنكبة فلسطين، ما زال الموقف اللبناني من إسرائيل يتّسم بالضبابية. فلانعترف بوجودها، لدرجة رفض كتابة اسمها دون مزدوجين، لكننا نمضي على الاعتراف"بحقوقها" في اتّفاق الهزيمة، ونعلنه انتصاراً. نجرّم التعامل معها، لكننا نسكت حين يكتبصحفي لبناني (لا يعنينا ذكر اسمه) مقالة في الصحافة الإسرائيلية داعيا "للسلام" معالعدو. نعلن مقاطعتها، لكننا نسمح عمليًا باختراق قنواتها الناطقة بالعربية وبعرضأفلامها، ونتجاهل أبسط واجبات المقاطعة الاقتصادية والثقافية. وهي "عدوّ غاشم" و "خطردائملكن لا ميزانية لجيشنا، ولا تدريب لجنودنا، ولا خدمة عسكرية لشبابنا وصبايانا، ولاملاجئ لنا، ولا تحصين لمجتمعنا علميًا وتربويًا وصحيًا.

 

فهل العداء لإسرائيل مجرّد شعار؟ بكلمات أخرى، كيف يشكّل المشروع الصهيوني خطرًاحقيقيًا على مجتمعنا إلى حدّ يبرّر العداء، وما هو مآل هذا العداء؟

 

المشروع الصهيوني: خطر واقع، لا "معتدي سابق"

 

غالبا ما يقّدم من يكنّون العداء لإسرائيل حججًا غير كافية لتبرير هذا العداء. فمزارع شبعاوتلال كفر شوبا محتلّة، لكنّ هل يكمن العداء لإسرائيل "فقط" على احتلال 23 كم مربّع؟ تبرير آخر يقول أن إسرائيل اقترفت مجازر في لبنان، ولكن ألم يقترف غيرها المجازر فيلبنان أثناء الحرب الأهلية؟ فهل نعاديهم هم أيضا؟ تبرير آخر يقول أن إسرائيل مارستإبادات جماعية بحق الفلسطينيين، ولكن أليست الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وفرنساوالسعودية وسورية والعراق وأيران وتركيا وروسيا والصين مذنبين هم أيضًا بقتل الملايين؟ فهل نعادي العالم كلّه؟ تبرير آخر يقول أن إسرائيل تحتلّ المسجد الأقصى، ولكن ماذا عنالمسيحيين أو اللادينيين؟ هل يقاوم جزء من مجتمعنا إسرائيل فيما يطبّع الجزء الآخر أويبقى خارج الصراع؟ وماذا لو حصل اتّفاق يضع الأقصى تحت الوصاية الدولية ويفتحإمكانية الصلاة في القدس لكلّ من يستطيع إليها سبيلا؟ هل ينتهي الصراع هنا؟ وكيننقل بصراحة ما يصرّح به العديد من مواطنينا: "شو خص لبنان؟!"

 

لا بدّ بالتالي من استعراض اعتداءات إسرائيل على لبنان نفسه، لا الماضية منها بلالحاضرة، حتى أصبحت أمرًا معتادًا. فاعتداءات إسرائيل على مجالنا البحري والجوّيوالبرّي يومية، إضافةً لسرقتها غازنا، وهي سرقة حتى لو شرّعها زعماءنا (الممانعين منهمكما السياديين) من خلال اتفاق الهزيمة وتطبيلهم له. كما أن رفضها احترام حقّ اللاجئيينالفلسطينيين بالعودة إلى أرضهم يشكّل تعدّيًا، ليس عليهم فحسب، بل أيضًا على لبناننفسه. ولا ننسَ الإعلان المتكرّر لمسؤولين صهاينة، منذ أكثر من مئة عام حتى اليوم، نيّتهمتوسيع حدود كيانهم واعتبارهم لبنان (أو جنوب لبنان) جزء من كيانهم. فقد أعلن بن غوريونبصريح العبارة أن إقامة دولة يهودية في فلسطين "ليست سوى البدايةوقد ضمّت خريطة"إسرائيل" التي قدّمتها المنظمة الصهيونية العالمية في مؤتمر باريس "للسلام" عام 1929 مدن صور وصيدا وجزين وراشيا. والواقع هو أن إسرائيل لم تتخلَّ قط عن مساعيهاالتوسّعية هذه. فقد أعلن عدد من المسؤولين الإسرئيليين نيّتهم احتلال دمشق وضمّ أراضي سورية إلى إسرائيل خلال السنوات العشر الأخيرة. وقد قدّم وزيرهم سموتريشخريطة لإسرائيل تضمّ أراضٍ أردنية وسورية ولبنانية في مؤتمر عقده في شهر آذار من هذهالسنة. فلا عجب من رفض إسرائيل تبني دستور يقرّ بحدود نهائية لها. لذا، إن تجاهلجوهر إسرائيل العدواني والتوسّعي ليس سوى حالة نكران وانفصال عن الواقع، لا ترتقيإلى المسؤولية السياسية التي يتطلبها الظرف.

 

إلّا أن خطر إسرائيل على لبنان، لا بل على المنطقة والعالم، يتجاوز كل ما سبق. فالمشروعالصهيوني، بزعمه الهويّاتي أن يهود العالم يشكّلون قومًا أو شعبًا واحدًا، ويتمتّعونبالتالي بحقوق جماعية، ومنها حقّ إقامة دولة خاصة بهم، يشكّل خطرًا على تماسكمجتمعات المنطقة، المُصابة أصلا بآفة التفكّك الطائفي والانقسامات الهوياتية. فإذا كانمن حقّ اليهود إقامة دولة خاصة بهم، أليس من حق الموارنة في لبنان، والدروز في الجبل، والعلويين على الساحل السوري، والسنة والشيعة والأكراد في العراق، إقامة دول خاصةبهم؟ حقيقةً، إن خطر إسرائيل على لبنان لا يقتصر على احتلالها لمزارع شبعا وتعدّياتهاعلى أرضنا ومجازرها السابقة وسرقتها لغازنا ونيّتها التوسّعية. فتأثيرهاالإيديولوجي-الثقافي، من خلال منطقها الهوياتي التفكيكي وتقديمها لنموذج دولة-قلعةوأداة حرب خاصة بـ"أبناء الدين الواحدأشدّ فتكًا بمجتمعنا من تعدّياتها "الملموسة" المذكورة أعلاه. فظهور إيديولوجيات وحركات طائفية، ومنها المسيحية الإنعزالية والإسلاميةالدينية، في المنطقة وتحديدًا لبنان، ودورها في حربيّ الـ58 والـ75 الأهليتين وفي نظامالطائف وفي التفكّك الذي نشهده حاليا، ليسا منفصلين عن مشروع الفصل العنصريوالاستعمار الاستيطاني الاحلالي الصهيوني، بل يشبهونه على نحو لافت وهم نتيجةمباشرة لوجوده وتأثيره الثقافي.

 

على هذا النحو، ليست الأزمة اللبنانية الاقتصادية-الاجتماعية الحالية منفصلة عنالأيديولوجية الصهيونية الهوياتية. فلا محال من الإفلاس في وجود نظام عاجز عن بناءاقتصاد منتج، وهو عاجز تحديدا لأنه يخضع لمنطق طائفي هويّاتي. فالمجتمع مكوّن فيواقع الحال من فئات متضاربة المصالح، وإدارته تعني تغليب مصالح فئات على فئاتأُخرى. وهذا ما تستطيع الدولة فعله، إذ تختار، على سبيل المثال، تغليب مصالح الطلّابعلى مصالح المدارس والجامعات الخاصة من خلال تأمين التعليم المجّاني، أو دعم قطاعالسياحة بدل قطاع الصناعة (أو العكسأو تغليب مصالح المستأجرين على مصالحأصحاب البيوت من خلال سياسات من شأنها رفع الأجارات، أو تغليب مصالح الأفقر علىمصالح الأغنى من خلال ضرائب تصاعدية. أما زعيم الطائفة، فعاجز عن اتخاذ قرار يغلّبمصالح أية فئة من "طائفته" على مصالح أية فئة أُخرى، صونًا لزعمه "تمثيل الطائفة" و"حقوقها". فلا سياسات، ولا انتاج، ولا تصدير؛ لا شيء سوى الاستهلاك والهجرةوالتهجير، حتى الانهيار المحتوم. فالنظام الطائفي القائم على التمايز عن الآخر هو نظامعنفي بجوهره.

 

بالتالي، الأمر ليس ببساطة "فلنطبّع ونرتاح". فالتطبيع قد يوقف الحرب العسكرية كمافعل في حالة مصر والأردن، لكنه لن يضع حدّاً لتعرّضنا للمنطق الصهيوني الهوياتيالتفتيتي، لا بل سيفتح باب هذا التأثّر على مصراعيه. الخطر موجود شئنا ام أبينا. فإماأن نتجاهله ونطبّع مع وجوده ونرضخ له ونقع (أو بالأحرى نستمرّ في الوقوع) في المزيدمن التفكّك والعنف، أو أن نعيه ونختار مواجهة المشروع الصهيوني وكافة المشاريع الهوياتيةحتى إفشالها، ارتقاءً لمسؤوليتنا بإنقاذ مجتمعنا وحتى باقي مجتمعات الإقليم من دوامةالتفكّك والعنف.

 

مواجهة المشروع الصهيوني من خلال الانتقال من نظامنا القبائلي لدولةقادرة

 

غالبًا ما يُقدَّم مفهوم مواجهة المشروع الصهيوني على أنه يقتصر على المقاومة العكسرية. طبعًا، مقاومة العدو حق، وتحرير بيروت والجبل والبقاع الغربي والجنوب شاهد علىجدواها. فلو كان زعماء الطوائف على قدر المسؤولية التي يفرضها وجود هذا المشروعالعدواني لكانوا اقرّوا السياسات المذكورة في المقدّمة وهي بناء جيش قويّ من خلالتخصيص ميزانية له وتسليحه وتدريب جنوده وعدم إلغاء التجنيد الإجباري وبناء ملاجئوغيرها. وفشلهم في الانتقال من مقاومة محصورة بطائفة لمواجهة مجتمعية شاملة ليسسوى دليل إضافي على عجز النظام الطائفي بسبب انقسامه المجتمعي البنيوي.

 

لكنّ مواجهة العدوّ تشمل مجالات أُخرى عدّة، ومنها: قيادة حملة عربية وعالمية لمقاطعةإسرائيل اقتصاديا وثقافيا، وتأسيس اقتصاد صلب يحمي المجتمع ويحدّ من الهجرةفيمتّن علاقة اللبنانيين بأرضهم وينافس الاقتصاد الإسرائيلي (ربّما في القطاعات نفسهاالتي نقود حملة مقاطعة العدو فيها، كالتكنولوجياوتمتين مجتمعنا من خلال سياساتاجتماعية كالتغطية الصحية الشاملة والتعليم المجاني، والمواجهة الإعلامية "الدفاعية" منخلال تثقيف شعبنا عبر المناهج الدراسية وتقوية الإعلام اللبناني (والرسمي منه) والمواجهةالإعلامية "الهجومية" من خلال حملات في البلاد العربية والغرب وحتى حملات في اللغةالعبرية تستهدف الإسرائيليين أنفسهم، وسياسات ترسّخ مفهوم المواطنة، وغيرها.

 

يتطلّب إقرار كل هذه السياسات انتقال من سلطة نظامنا القبائلي العاجز إلى سلطة دولةقادرة على مواجهة الخارج بغية تحصين الداخل، ممّا يذكرنا بمقولة القائد الفلسطينيجورح حبش الشهيرة: "خير ما تقدمونه للقضية الفلسطينية هو نضالكم ضدّ أنظمتكمالرجعية". كما أنّ مواجهتنا لنظامنا الرجعي في لبنان هو مواجهة مباشرة للزعم الهوياتيالصهيوني؛ وطرحنا بناء دولة تكون أداة لإدارة شؤون مجتمعها الفعلي دون تمييز ديني أوعرقي أو ثقافي، لا آلة حرب في يد فئة بوجه أُخر، يشكّل النقيض الجوهري للفكر والمشروعالصهيوني ويخاصمه في أساس زعمه. كما يشكّل خشبة خلاص لبلدنا، إذ أنه لا بدّ منالانتقال من نظام الموت إلى دولة قادرة على توزيع الخسائر وبناء اقتصاد يُخرجنا منأزمتنا المالية وينقذنا من خطر التفكّك العنفي.

 

ختامًا، الدعوة للبنانيين صريحة: لنَعي مدى خطورة المشروع الصهيوني، ولنرفض المنطقالقبائلي المشترك بين نظام الاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي والنظام الطائفي اللبناني، ولننخرط في عمل سياسي منظّم من أجل الانتقال من مزرعة الطوائف لدولة قادرة، فلاتكتسب السيادة والممانعة معناهما الكامل إلا في إطار دولة. والدعوة للفلسطينيين، المقيمينفي فلسطين كما المبعدين قسرًا منها، مماثلة: أدركوا قصور مقاربات القيادات الفلسطينيةعن مواجهة الخطر الصهيوني. فمواجهة المشروع الصهيونية لا تكون بالاعتراف بشرعيةكيانه من خلال طرح الدولتين، ولا من خلال مشروع هوياتي معاكس يضفي هو أيضًاشرعية على زعمهم (فإن كان للمسلمين حق بدولة إسلامية، كيف ننكر الحق نفسه لليهود؟)، بل بالعودة للثوابت الوطنية الفلسطينية وللطرح الفلسطيني التاريخي: دولة ديمقراطيةواحدة، من النهر إلى البحر، تميّز بين المحتلين وأصحاب الأرض لكنها لا تميّز علىأساس عرق أو دين أو هوية المرء. وليكن نضالنا، ضد النظام الطائفي في لبنان وضدالنظام الاحتلالي الاستيطاني في فلسطين، نموذجًا تاريخيًا في نضال شعوب المنطقةضد أنظمتهم القمعية وفي تحرير البشرية من المشروع الاستعماري.

 

 

 

الان علم الدين، ناشط في مبادرة "الدولة الديمقراطية الواحدة"