ملاحقة اليهود وطردهم من جميع دول أوروبا/ عبد الهادي محيسن...
كاتب وباحث
الشراع 2 كانون ثاني 2023
مات الملك هنري الثالث عام 1272 وخلفه على عرش انكلترا الملك ادوار الأول الذي أصدر امرا حرم بموجبه على اليهود ممارسة الربا ، ثم استصدر من البرلمان قوانين خاصة جعل لهم بموجبها أوضاعا خاصة وسميت هذه القوانين " الأنظمة الخاصة باليهود " وكان الهدف من هذه القوانين تقليص السيطرة التي يمارسها المرابون اليهود على كافة مدينيهم ليس فقط من المسيحيين بل من الفقراء اليهود أنفسهم .
ولعل الأنظمة الخاصة باليهودية هذه هي القوانين الأولى في التاريخ البرلماني الانكليزي الذي لعب مجلس العموم دورا فعالا في وضعها واقرارها ، ولا يمكن وصم هذه الأنظمة بأنها معادية للسامية لأنها حمت فيمن حمت اليهود المتقيدين بالقوانين ، وقد ظن المرابون اليهود أنهم في هذه المرة أيضا وكما حدث سابقا مرات عديدة سيتمكنون من تحدي أوامر الملك كما تحدوا من قبل قرارات المجمع المسكوني .
وكان خطؤهم كبيرا اذ أن الملك عمد الى اصدار قانون بطرد جميع اليهود من انكلترا وكان ذلك بدء المرحلة التي يسميها المؤرخون " الاجلاء الأكبر " وبعد أن خطا الملك ادوار الخطوة الأولى سارع ملوك أوروبا ورؤساؤها الى الاقتداء به ففي عام 1306 طردت فرنسا اليهود وتبعتها سكسونيا م 1348 وهنغاريا 1360 وبلجيكا 1370 وسلوفاكيا 1380 والنمسا 1420 والأراضي المنخفضة 1444 وأخيرا اسبانيا 1492 .
ويتخذ طرد اليهود من اسبانيا أهمية خاصة اذ أنه يلقي لضوء على محاكم التفتيش الاسبانية ، اذ يعتقد عديد من الناس في أوروبا أن محاكم التفتيش انما أنشئت من قبل الكنيسة الكاثوليكية لاضطهاد البروتستينيين المنشقين عن الكنيسة ، ولكن الواقع هو أن هدف البابا اينوسنت الثالث من انشاء هذه المحاكم كان فضح بعض الهراطقة والكفار الذين يتسترون بالتظاهر بالمسيحية بهدف تخريبها من الداخل .
ولم يكن القائمون على هذه المحاكم يفرقون بين اليهودي وغير اليهودي أو بين الأبيض والأسود وكان الاحتفال الرهيب معدا خصيصا للمحاكمات وعمليات الاعدام والحرق التي شملت المحكومين من الهراطقة والكفار ، وفي الحقيقة في القرن الرابع عشر تمكن المرابون اليهود للمرة الأولى من جعل الحكومة الاسبانية تمنحهم حق جباية الضرائب من الشعب مباشرة باعتبارها ضمانا للقروض التي كانوا يقدمونها للحكومة .
استغل المرابون اليهود هذا الوضع أبشع استغلال ، وأبدوا من القسوة والوحشية في طلب "أوقة لحم" من جسد المدين من الأهالي اذا تخلف عن دفع الدين حين الاستحقاق ما ملأ أفئدتهم بالحقد والغضب بحيث أضحت شرارة واحدة كافية لتفجير النقمة فكانت هذه الشرارة في الخطابات اللاهبة التي ألقاها فرناندو مارتنيز والتي هب على أثرها الشعب لارتكاب واحدة من أكثر المجازر المعروفة دمويا وهولا .
وقد طرد اليهود من ليتوانيا عام 1495 ومن البرتغال 1498 ومن ايطاليا 1540 ومن بافاريا 1551 وتجدر الاشارة هنا الى أنه خلال هذه الاجلاءات كان بعض المتمولين والمتنفذين من اليهود يتدبرون أمر الحصول على ملاجئ وسكن لهم في بوردو وأفينيون .
وجدت جماهير اليهود نفسها تَنصّب ثانية في طريق الشرق وعلى الأخص في الأمبراطورتين البولونية والعثمانية ، أما الجاليات الضئيلة التي فضلت معاناة البقاء في الغرب فقد كانت خاضعة لكافة القيود التي كانت مفروضة عليها في المرحلة السابقة .
وهكذا يمكن القول أن العصورالمظلمة لدى اليهود بدأت مع بشائر عصر النهضة في أوروبا وهذه الحقيقة تدعم صحة النظرية التي يقول بها بعض المؤرخين والتي فحواها أن أمم أوروبا لم تستطع البدء بعصر النهضة والازدهار الا بعد أن تمكنت من تحرير نفسها من براثن السيطرة الاقتصادية اليهودية .
حُصرت الجاليات اليهودية في أوروبا بعد حركات التهجير الكبرى داخل أحيائها التي سميت بالغيتو حيث فرض على اليهود أن يعيشوا معزولين عن جماهير الشعوب يحكمهم حاخاماتهم الذين كانوا بدورهم خاضعين لتوجيهات النورانيين وكبار المرابين اليهود الذين لبثوا في مراكزهم التي تمكنوا من الحصول عليها في بعض المدن الأوروبية .
كان عملاء النورانيين منبثين في أحياء الغيتو ينفثون سموم الحقد والكراهية وروح الانتقام في قلوب الجماهير اليهودية من أولئك الذين هجروهم وعزلوهم كما كان الحاخامون بدورهم يلقنونهم أنهم شعب الله المختار وأن يوم الانتقام آت من دون ريب وسيرثون الأرض ومن عليها ، وتجدر الاشارة هنا الى أن معظم اليهود الذين انتقلوا الى أوروبا الشرقية فرض عليهم بدورهم العيش في مناطق الاقامة التي سمح لهم بها .
والواقعة بصورة عامة على الحدود الغربية لروسيا وكان معظمهم من الخزر المشهورون بثقافتهم المعروفة باليديش وهو اسم لغتهم التي يتكلمون بها كما يعرفون بخبثهم وبخلهم الشديد وأساليبهم المنحطة في الأمور المالية وأخلاقهم الدنيئة .
كان عملاء النورانيين داخل أحياء الغيتو يذكون نار الحقد والرغبة في الانتقام وأخذوا بتنظيم استغلال هذه الظروف حتى تحولت الى حركة ثورية عالمية هدفها الرعب والتخويف ، وكانت هذه الحركة منذ نشأتها تحت سيطرة بارونات المال العالميين وكهانهم الكبار الذين كانوا يمدونها بالأموال ويحركونها كما يشاؤون وكانوا يستعملونها أداة للانتقام من الكنيسة المسيحية ومن الملوك في أوروبا .
عبد الهادي محيسن .... كاتب وباحث .