قدِّم الأهم فالمهم
بقلم الشيخ أسامة السيد
الشراع 21 تشرين الثاني 2024
الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسُوله والمؤمنون وستُردُّون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون} سورة التوبة.
كم وكم نرى من خطباء أو مُحاضرين لا يُصيبون الهدف الأول في ندواتهم أو خطاباتهم فلا يُقدِّمون للناس العلم الأهم وهو علم العقيدة ثم الأحكام فترى شيخًا يخطب ويُحاضر الساعات في السيرة والغزوات والتاريخ أو يتكلم في السياسة أو غير ذلك من مواضيع ربما كان السامع أعلم بها من المتكلم، وترى كثيرًا من أفراد المجتمع لا يعرفون الضروري من علوم الدين لأن أكثر أصحاب العمائم تركوا وظيفتهم الأصلية التي هي تعليم الناس أمور دينهم وحوَّلوا المنابر إلى ما يشبه نشرة الأخبار وكأن الناس بعيدةٌ عمَّا يجري على الساحتين العربية والأوروبية، وكأن البيوت تخلو من وسائل التواصل وشاشات التلفزة وما إلى ذلك من أدوات التكنولوجيا التي غزت الدنيا، وجديرٌ بهؤلاء أن يهتموا لإنقاذ الناس من الفساد وتصحيح المفاهيم في صدور المنحرفين بدل إقحام الناس في زواريب ضيقةٍ لتأييد سياساتٍ مزعومةٍ، وترى هذا الشيخ اليوم في أقصى اليمين ثم تراه غدًا في أقصى اليسار وكثيرٌ من الناس ما بين مطبِّلٍ ومزمِّرٍ لهذا الشيخ راضٍ عنه لموافقة هواه لهواه أو غاضبٍ ساخطٍ عليه لمخالفة هواه لهواه وربما انقلب راضٍ بالأمس إلى ساخطٍ اليوم والعكس بحسب اختلاف أراء الشيخ التابعة لسياساتٍ مزعومة، وانطلاقًا من هذا الواقع المؤلم نرى التخبُّط والتناقض وليت التائهين من أدعياء العمل الإسلامي وما أكثرهم يقفون على حاجات الناس المهمَّة ويتوجَّهون إلى إصلاح ما ينبغي إصلاحه فيقدمون الأهم وهو معرفة التوحيد المتضمن تنزيه الله عن مشابهة المخلوقين وتبرئة الأنبياء مما لا يليق بهم على المهم فقد قال الإمام الأشعري في كتاب النوادر:"أول ما يجب على العبد العلم بالله ورسوله ودينه" وكم من شيبٍ وشُبَّانٍ لا يعرفون الله ومن لم يعرف الله لا تصح له عبادة قال تعالى:{وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} سورة الذاريات. قال أبو حيَّان في "البحر المحيط:"قال المفسرون معناه ليعرفون (أي ليعرفوا الله) فسمَّى الله تعالى المعرفة به عبادة" وقال الغزالي رحمه الله:"لا تصح العبادة إلا بعد معرفة المعبود" والاشتغال بهذا أولى من دخول الشيوخ فيما لا ينبغي صونًا لمقامهم
ومن هنا فإننا نقول:
إن أولى من ينبغي أن يُقتدى بهم في العمل الدعوي بل وفي كل شؤون الحياة هم الأنبياء الكرام عليهم السلام قال الله تعالى:{أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} سورة الأنعام. فقوله فبهداهم اقتده أمرٌ بالاقتداء بهم فإنه لا سبيل أهدى من سُبلهم وبالنظر إلى ما قصَّ الله تعالى من خبر نبيه يوسف عليه السلام مع اللذين سألاه عن تعبير ما رأياه في النوم نجد عبرةً عظيمةً لمن يعتبر حيث سألاه عن شىءٍ فأرشدهما إلى الأهم قبل أن يُعبِّر لهما رؤياهما المنامية قال تعالى:{ودخل معه السجن فتيان قال أحدهمآ إني أراني أعصر خمرًا وقال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزًا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين} سورة يوسف. فقد طلبا منه تعبير رؤياهما المنامية فانظر بماذا خاطبهما النبي الكريم يوسف عليهما السلام ابتداءً قال تعالى:{قال لا يأتيكما طعامٌ ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي إني تركت ملة قومٍ لا يؤمنون بالله وهم بالآخرة هم كافرون واتَّبعت ملة ءابآءِى إبراهيم وإسحاق ويعقوب ما كان لنآ أن نُشرك بالله من شىءٍ ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون ياصاحبي السجن ءأربابٌ متفرقون خيرٌ أم الله الواحد القهَّار ما تعبدون من دونه إلآ أسمآءً سمَّيتموهآ أنتم وءابآؤكم مآ أنزل الله بها من سلطانٍ إن الحكم إلا لله أمر ألَّا تعبدوا إلا إيَّاه ذلك الدين القيِّم ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون} سورة يوسف. فلاحظ كيف دعاهما يوسف عليه السلام إلى التوحيد وعبادة الله الواحد وترك الإشراك به والدخول في دين الإسلام الذي هو دين جميع الإنبياء عليهم السلام فقدَّم الأهم ثم عبَّر لهما رؤياهما قال تعالى إخبارًا عن يوسف عليه السلام بعدما دعاهما إلى الإسلام:{ياصاحبي السجن أمآ أحدكما فيسقي ربَّه خمرًا (أي يسقي مالكه لأنه كان عبدًا مملوكًا وكان الرِّق معروفًا في الماضي) وأمَّا الآخر فيُصلب فتأكل الطير من رأسه قُضي الأمر الذي فيه تستفتيان} سورة يوسف.
فقد رأى نبي الله يوسف عليه السلام إقبال هذين عليه فَحَرِص على هدايتهما فنبَّههما على ما هو أهم من تعبير رؤياهما وحريٌ بكل داعٍ يُقبل الناس عليه أن يُقدِّم ما هو الأنفع والأصلح للناس بدل إشغالهم بما لا يُسئلون عنه يوم القيامة وقد كان كذلك من نبينا محمدٍ صلى الله عليه وسلم كل الحرص على الأهم قبل المهم فعن عمران بن الحُصين أن ناسًا من أهل اليمن أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا:"أتيناك لنتفقَّه في الدين ولنسألك عن أول هذا الأمر (أي أول المخلوقات) كيف كان؟ قال صلى الله عليه وسلم: كان الله عز وجلَّ ولم يكن شىءٌ غيره وكان عرشه على الماء الحديث" رواه البخاري والبيهقي واللفظ له وغيرهما. فقد سأل أهل اليمن عن أول ما خلق الله تعالى فأجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن شىءٍ آخر قبل أن يُجيب عن سؤالهم فقدَّم الأهم وهو تنزيه الله عن البداية وبيان أنه تعالى أزليٌ كان ولا مكان ولا زمان وكل ما سواه مخلوقٌ له بدايةٌ ثم أجابهم عمَّا سألوا أن أول المخلوقات الماء الذي تحت العرش ثم العرش وهو أكبر جسمٍ خلقه الله تعالى وعن عليٍ عليه السلام قال:"إن الله خلق العرش إظهارًا لقدرته ولم يتَّخذه مكانًا لذاته" رواه أبو منصورٍ البغدادي في كتابه "الفَرقُ بين الفِرق"
إنطلاقًا مما سبق ننصح كل العاملين في مجال الدعوة الإسلامية تقديم الأهم للناس فإنه ليس من الحكمة تضميد خَدشٍ بسيطٍ قبل علاج رأسٍ أخترقه الرصاص وقد روي عن سيدنا عليٍ عليه السلام "العلم بحرٌ زاخر فقدم الأهم فالمهم" والحمد لله أولًا وآخرًا.