رسائل وبصمات مشاهير الزمن الجميل
غادة السمان سيدة الرواية العربية / بقلم عرفان نظام الدين
الشراع 11 كانون الثاني 2025
إنها الأديبة المبدعة غادة السمان، سيدة الرواية العربية من دون منازع. أطلقتُ عليها لقب "ياسمينة الشام" المنتشرة في أرجاء المعمورة، بعدما تُرجمت رواياتها إلى عشرات اللغات وحققت شهرة عالمية.
من دمشق إلى بيروت، ومنها إلى باريس، تزوّجت مرتين: الأولى من زواج تقليدي، والثانية أحبّته وهو اللبناني بشير الداعوق صاحب دار الطليعة للنشر ، لكنه توفي وترك آثار الحزن على عينيها، لم يخفف منه إلا وجود ابنهما الوحيد حازم. حصلت على الجنسية اللبنانية، لكن عشقها الأول كان سوري الهوى، مع أنها لم تُكرَّم من وطنها الحبيب، وأنا على ثقة بأنها لو كانت في غير هذا الوضع لانهالت عليها جوائز التكريم، وصولاً إلى "نوبل" للآداب، وهذه هي ضريبة من سميتهم "المبدعون الأيتام".
عرفتُ أديبتنا الكبيرة على مدى السنين، من بيروت إلى باريس ولندن، ووجدتُ فيها كل معاني الأصالة والطيبة والإبداع. والكتابة عنها وعن رواياتها تحتاج إلى مجلدات، لكني آثرت أن أقدم عنها لمحات سريعة لأن تفاصيلها تحتاج إلى مجلدات.
ففي كل مرة، كانت غادة تختفي لتعود مع رواية من إبداعها وعاصفة تثيرها بسبب جرأتها وتحرّرها من دون التخلي عن القيم والأصالة. وقامت الضجة الكبرى بعد نشرها رسائل الأديب الفلسطيني المظلوم غسان كنفاني إليها، بعض القراء أيدها لأن حياة المشاهير هي ملك للناس. وبعضهم الآخر انتقدها لأنها نشرت تفاصيل حميمة عن حبه لها، فيما لم تنشر أي رسالة من رسائلها إليه، وهذا حق وواجب لإثبات الموضوعية والصدقية.
هذه هي غادة المبدعة، فإما أن نقبلها أو نرفضها، وهذا ما حصل من ضجة وجدل منذ انطلاقتها الأولى :من بيروت التي تبنّتها وعنوانها "لا بحر في بيروت" لترسم طريق إبداعها وشهرتها باعتماد آراء جريئة ودعوات إلى التحرّر. وسارت غادة على طريق الإبداع من "رسائل الحنين إلى الياسمين"، وهي باقة نصوص شعرية، إلى "أعلنتُ عليك الحب" و"الحب من الوريد إلى الوريد" وعشرات الروايات التي خصصت بعضها لمسقط رأسها دمشق.
وقد كرّمتني بإهداء إلى كتابي "آخر كلمات نزار" تحدثت فيه عن علاقتها مع الشاعر الكبير نزار قباني، وتضمنت رسالتها ما يلي:
"في هذا الكتاب لا نلتقي فقط نزار قباني ،الذي رحل قبل أكثر من عقد ونصف العقد، بل وأيضاً بالإعلامي عرفان نظام الدين. ونبحر هذه المرة مع عطائه في فن "رواية السيرة الذاتية" في قالب التكريم.
وهذا القلم الجميل لعرفان قدم "آخر كلمات نزار" في كتاب يكاد يكون أليماً لأن معظم أبطاله رحلوا عن عالمنا، أمثال الدكتور غازي القصيبي وعبد الله الجفري وحتى هدباء الابنة الكبرى للشاعر وصديقة الصبا في الشام فبيروت. ولا ننسى توفيق الفارس الدمشقي الابن البكر لنزار الذي كان يخاف عليه من وخز شوكة الخسّ!
وأذكر حين رحلت إلى القاهرة لمتابعة دراسة الدكتوراه هناك، بدلاً من لندن، تركت له سيارتي الـ"سبور"، فغضب نزار وثار خوفاً على توفيق ابن العشرين. ولم نكن ندري أن الموت كان يتربّص به وبزرقة عينيه وشقرته وعلمه، وهو تلميذ في كلية الطب. وفقدنا توفيق لا بسيارتي في بيروت، بل على سرير المستشفى في لندن!
وهناك أيضاً الرائعة بلقيس، زوج نزار وصديقتي الحميمة ،منذ اليوم الأول الذي عرّفني عليها. ولم يدرِ أن صداقتي معها، رحمها الله، هذه النخلة العراقية المنسية، ستسرقني من صداقتي إياه، وهو قريبي، وأنها ستؤلمني أكثر يوم مقتلها وبعده.
... وتأثر نزار بمصرع شقيقته الصبية وصال، التي انتحرت لظلم القبيلة في حكاية الزواج بالإرغام ممن لا تحب، وهو حزن على مصير النساء أيضاً في قصيدته في رثاء أمي، التي رحلت وهي في الثلاثين من عمرها، وكانت أديبة تكتب باسم مستعار. كتب نزار غاضباً على أبي ومجتمع الذكور. ولمجرد أن أبي كان يريد ولداً ثانياً غيري... ماتت أمي بحمى النفاس. وهي قصيدة موزونة ومقفاة نشرتها كاملة بخط نزار في مجلة "الحوادث" بتاريخ 24/9/2010، ومما جاء في مطلعها قوله الاتهامي القاسي في موت سلمى (والدتي):
سوف تبكي العيون سلمى لو أن الصخر ذو دمع لكان يبكيني
أمهات يُذبحن في مفرش الوضع قرابين من أجل جنين
وأعود إلى عرفان نظام الدين الذي يسلط الضوء كروائي على هذا الوجه، حليف النساء نزار، من دون أن ينفي إمكانية الرمادي (بين الأبيض والأسود) وتدرجات النفس البشرية مع الضوء ومن دون أن ينفي أيضاً بعض ما كان موضع انتقادات حول جلد النساء وهم الحلمات! وذلك ينطبق على بقية أبطال "رواية الحياة" في كتابه، وهو لا يحاكم أحداً ولا يدين أحداً، بل يترك للقارئ أن يختار موقفه.
الشاعر نزار كان يكرّر دائماً أنه "لا توجد منطقة وسطى ما بين الجنة والنار". ولكن عرفان الروائي المنطقة الوسطى الأصدق إبداعياً، إذ يترك للقارئ الخيار، مثلاً: هل هو مع نزار في خلافه مع القصيبي حول السيريلانكيات أم لا؟ فالروائي البارع يحتوي وجهات النظر كلها، ويترك للقارئ أن ينحاز إلى ما يجده صواباً. وذلك ينطبق على حكاية نزار مع قناة الـ "أم بي سي"، و"طلع – كما يقول المثل الشامي – لا مع ستي بخير ولا مع سيدي بخير" حين اختلف مع الإدارة حول حقوق إعادة البث. والجميل أن عرفان ذكر وجهات النظر المختلفة كأي روائي متمرّس ،ومن دون رضاه عن قوله أنه سيلجأ إلى المحاكم. وهنا يقول عرفان: "هل هذا جزائي يا أخي؟".
ويكشف عرفان أن نزار حين يغضب ينقلب إلى "أسد هائج"، ويغضب كما يشاء. وذكرني بقول العمة أم معتز (والدة الشاعر): إن "نزار مثل الحليب قلبه أبيض، إذ قد يغلي ويفور فجأة ثم يهدأ خلال لحظات".
وبهذه اللقطات... وغيرها، يكشف عرفان وجهاً حميماً للشاعر لا يعرفه الناس ،ويجهله حتى بعض المقرّبين. وفي مفاجأة أخرى في الكتاب، يكشف عن وجه آخر وهو أن نزار لم يكن حقاً "زير نساء"، كما يتوهّم الكثير من القراء. وهو ما كشفته هدباء أيضاً، وهذا صحيح. وقد خبرته في مناسبات كثيرة أذكر نموذجاً منها:
حينما زارت المطربة الكبيرة نجاة الصغيرة بيروت أيام ضجّت الدنيا بأغنية "أيظن" من كلماته، دعاها نزار إلى العشاء، واتّصل بي هاتفياً طالباً أن أرافقه، وكنت طالبةً في الجامعة الأميركية أعد أطروحتي حول مسرح "اللا معقول". وقلت له أن لا وقت لدي للعشاء، وأن عليّ أن أعمل طوال الليل في "البستاني هول" (القسم الداخلي للبنات في الجامعة) حيث كنتُ أقيم، لكنه أصرّ خوفاً من محرّر فضائح في إحدى المجلات يشاهده بمفرده مع الجميلة نجاة. فلبّيت الدعوة ليس ضناً بسمعته! بل شوقاً إلى التعرّف عليها. ولي تجارب مماثلة مع نزار واصطحابه لي في الكثير من لقاءاته الحرجة له، خوفاً من شائعة ما حتى صرتُ أنا موضوع الشائعات؟!".
غادة كنز شامي في إنتاجها وشخصيتها الرائعة ،المعطّرة بالطيبة والوفاء والمواظبة على تمتين العلاقات مع الأصدقاء والصديقات، وتنشر حولها في كل مكان ياسمين الحنين والحب والتقدير لكل كلمة رومانسية، ما دعاها إلى تسميتي في رسالتها "ملياردير الخلجات".
بعد غد:
عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري...
حكيم العرب ورجل الحوار والإبداع الأدبي