بيروت | Clouds 28.7 c

رفيق الحريري عشق لبنان وجنوبه ورعى العلم... فقتلوه / بقلم عرفان نظام الدين

 

  • رسائل وبصمات مشاهير الزمن الجميل

رفيق الحريري عشق لبنان وجنوبه ورعى العلم... فقتلوه / بقلم عرفان نظام الدين

الشراع 5 كانون الثاني 2025

 

لم يحدث في التاريخ المعاصر وربما القديم، أن قامت ضجة عالمية كبرى لاغتيال مسؤول سابق أو رئيس وزراء سابق وحتى حالي، كا جرى لرفيق الحريري، إذ انشغلت الدنيا لفترة طويلة بمصرعه في عملية إرهابية ضخمة في 14 فبراير/ شباط 2005 وتحولت إلى زلزال كبير كانت له تداعيات على صعيد لبنان والمنطقة وأدت إلى انسحاب القوات السورية من لبنان في أواخر أبريل/ نيسان من العام ذاته.

 

شكّل الحدث المفجع نقطة تحوّل كبيرة في تاريخ لبنان المعاصر، فقد أدى غياب أبي بهاء عن الساحة اللبنانية إلى تغيير أمور كثيرة، في ما يُشبه المعجزة التي فسّرها بمعظم الناس بأنها جاءت نتيجة لما قدمه هذا الرجل من خير وتدريس آلاف الطلاب المحتاجين في الجامعات وحصلوا على شهادات عليا، بالإضافة إلى أعمال الخير الأخرى ومساهمته في إعادة إعمار لبنان.

 

كان الحريري مجرد رجل أعمال لبناني في السعودية بدأ يلمع اسمه، وكنتُ رئيساً لتحرير "الشرق الأوسط". كنا نتواصل عبر بعض الأخبار الاجتماعية أو الاقتصادية والمناسبات العابرة، وبدأ الحديث عنه يتجدد إبان انعقاد مؤتمر القمة الإسلامي في مكّة المكرّمة والطائف حيث أبدى القادة إعجابهم بقصر المؤتمرات وفخامته والفندق الملحق به، وكيف نجح رجل أعمال ناشئ في إنجازه خلاف فترة قياسية بعدما رفضت كبريات الشركات العربية والعالمية خوض غمار هذه المغامرة. وبقية القصة معروفة.

 

ودارت الأيام وعاد التواصل خلال اجتماعات جنيف ولوزان الرامية إلى إنهاء حرب لبنان، حيث تعرفت عليه أكثر ولفتني في هذا الإيمان الراسخ بقيامة لبنان وخروجه من محنته وتفاؤله بإيجاد حل يحقن الدماء. كان لولب الحركة والاتصالات وساعي الخير بين القوى المتحاربة ومحل ثقة الجميع واحترامهم، ولكن عمله كان في الغالب يجري ف يالظل ومن وراء الستار. كل ما كان يدعونا إليه: "أرجوكم كونوا إيجابيين، لا تصبّوا الزيت على النار ولا تُبرِزوا السلبيات، لعلنا ننجح في قطع الطريق على من يسعى إلى إفشال الاجتماعات".

 

وكان بعض الإخوان من الزملاء العاملين معي يلجأ طلباً لوساطة معه بعدما شاع أنه أنشأ مؤسسة تعليمية ترعى تعليم آلاف الشباب وتخصصهم الجامعي في شتى المجالات العلمية وفي أرقى الجامعات العالمية. وكنتُ أشعر بالحرج لطلب أمر ما من أي إنسان، ولكني هذه المرة تشجّعت. وكنتُ عندما أتصل به لا يترك لي مجالاً لإكمال ما أريد قوله: "أبو بهاء، عندي أخ على قد حاله عنده ابن يريد أن يكمل تعليمه في..."، ويقاطعني بأسلوبه المهذب: "حاضر حاضر، أرسله إلى (فلان) في باريس وإن شاء الله كل شيء سيكون على خاطرك".

 

وأغلق السماعة وأنا متشكّك (وأعترف بذلك)، فقد تعوّدت الكثير من الوعود الكاذبة من البعض. استغربت أنه لم يسألني عن دينه ولا عن طائفته أو عن جنسيته. أيام قليلة تمضي وأفاجأ بأخ أو بزميل يعانقني ويشكرني ويفاجئني بأن طلب ابنه قد قبل بيسر وسهولة ودون سؤال ولا استفسار، اللهم إلا من شرط واحد: أن يكون جدياً ومجتهداً وينجح في الامتحانات.

 

وتكرّرت الطلبات والنتيجة واحدة والحصاد: شباب مسلّح بالعلم وتخرّج في أرقى الجامعات لا داعي لذكر أسماء، ولكني أشهد بأنهم من أنجح الأطباء والجراحين والمهندسين حسب ما علمت من متابعتي لنشاطاتهم. والفضل لله عز وجل ثم للشهيد الإنسان الذي وضع يده على جرح الأمة وسبب تراجعها: التعليم والتخصص والعلم  لقهر الفقر والتخلّف.

 

كما تعرّفت على الجانب الوطني والقومي والإنساني للشهيد الكبير، فقد كنتُ في بيروت خلال العدوان الإسرائيلي الوحشي على قانا والجنوب الصامد عام 1996. وبعد يومين زرته لألقاه في حالة حزن شديد وغضب عارم. لكنه كان رافضاً الاستسلام للحزن والغضب، فحوّل مكتبه إلى خلية عمل في جميع الاتجاهات: اتصالات خارجية مع الدول الكبرى لتأمين دعم لبنان في وجه إسرائيل وشجب المجزرة الوحشية، واتصالات دخالية لتأمين الإجماع الوطني وإعادة بناء ما تهدّم والتعويض على أهالي الشهداء وصمود لبنان وجهود شخصية لتبنّي الأيتام ونصرة المنكوبين ورعاية المتضررين. وسألته عن سرّ هذه الحماسة ما لم نشهده لدى كثير من السياسيين والمسؤولين العرب، فقال: "يا أخي، أنا ابن الجنوب وأفتخر بذلك، وأعشق وطني ومستعد لبذل أي جهد في سبيل نصرة لبنان وأهله. وقد عملت في مطلع حياتي في بساتين الجنوب في قطف البرتقال لقاء أجر لمتابعة تعليمي. ولهذا، بدأت فوراً في بناء مؤسسات تخدم المواطنين صحياً ومادياً وتربوياً، وكان لدي مشاريع أكبر، لكن بكل أسف حاربوني وأجهضوا أحلامي الوطنية".

 

وكنتُ أعرف شخصية الرئيس الحريري المتماهية مع شخصية الإعلامي وديناميكيته، فاقترحت عليه أن ننظم في mbc يوماً تلفزيونياً طويلاً (تليثون) بالتعاون مع تلفزيون "المستقبل" لنصرة جنوب لبنان وأهالي ضحايا وشهداء وجرحى قانا وجمع التبرعات لهذه الغاية.

 

قفز الرئيس الحريري من مقعده وهتف مرحّباً، مبدياً الاستعداد لدعم هذا الاقتراح وإنجاحه، وطلب الزميل نهاد المشنوق (مستشاره الإعلامي آنذاك، ووزير الداخلية لاحقاً) وقال له: "نسّق مع الأخ عرفان، وخير البر عاجله...".

 

وبالفعل، غادرت إلى لندن لأعرض الاقتراح على الشيخ وليد الإبراهيم، رئيس مجلس الإدارة، والدكتور عبد الله المصري، المدير التنفيذي، فرحّبا به بحرارة وأصدرا توجيهاتهما بتقديم كل التسهيلات لإنجاحه. وهكذا كان، فقد نجح اليوم الطويل بشتى المعايير: فضح العدوان الصهيوني وتجييش الرأي العام العربي لنصرة لبنان وحشد رموزه للمشاركة في البرنامج. وتم جمع ملايين الدولارات من المشاهدين بينهم الملك والأمراء ورجال الأعمال، كما كان الحريري في طليعة المتبرعين مع أنجاله وشركاته.

 

بعد لحظات من انتهاء اليوم التلفزيوني الطويل، اتصل بي شاكراً معبّراً عن سعادته وغبطته بهذا الإنجاز لنصرة أهالي الشهداء، وكأنه كان يتمنى أن ينضم إليهم في يوم من الأيام. ولم يكتفِ الرئيس الشهيد بالاتصال، بل أتبعه برسالة رقيقة كرّر فيها مشاعره النبيلة، وهنا نصّها:

 

"حضرة الأستاذ عرفان نظام الدين ورفاقه العاملين في محطة تلفزيون mbcالمحترمين،

أشكركم على برنامج (اليوم اللبناني) الذي بثته محطة الـ mbc وركّزت خلاله على معاناة اللبنانيين مع الاحتلال الإسرائيلي وعدوانه المستمر على الأرض والناس، خصوصاً عدوان شهر نيسان الماضي والمجازر التي ارتكبت في قانا وغيرها من البلدات اللبنانية. إن اللبنانيين سيذكرون دائماً الجهود الكبيرة التي بُذلت لإنجاح هذا البرنامج الحافل بالنداءات من أجل التضامن مع لبنان، وسيذكرون أيضاً الذين سارعوا مشكورين إلى التبرّع لمساعدة إخوتهم اللبنانيين الذين يتصدون لعدوان إسرائيل نيابة عن الأمة العربية كلها.

وفقكم الله تعالى وسدّد خطاكم ومتعكم بموفور الصحة لتتابعوا عملكم في خدمة القضايا العربية وكل قضية محقة".

                                                                  رفيق الحريري

                                                           رئيس مجلس الوزراء

 

وخلال زياراتي المتكررة لبيروت، كنتُ أشهد مدى التطور الحاصل، ليس بين عام وعام بي بين كل شهر وشهر. وفي عام 1997 زرته في مكتبه ليرحّب بي كعادته مع كل ضيف بكل مودة ورعاية ويسألني عن أحوالي ثم بادرني بالقول: "لماذا لا تأتي إلى هنا، فأنا أريد أن أستفيد من خبرتك الإعلامية الطويلة...".

 

شكرته على لفتته الكريمة وأجبته ممازحاً: "يا دولة الرئيس أنا لم آت لزيارتك إلا لمحبتي لك. فأنا والحمدلله بخير لا أطلب وظيفة ولا مالاً"، فاستغرب ردي وكأنه امتعض منه وهو يقول: "معاذ الله. فأنا أعرفك منذ زمن ولم أقصد سوى التعاون". شكرته مجدداً واعتذرت لارتباطي بأعمال في لندن.

 

كان الحريري يزور لندن باستمرار، وفي آخر زيارة له إلى العاصمة البريطانية، قبل عامين من استشهاده، استقبلني بحرارة مع عقيلته في حفلة استقبال أقامها السفير اللبناني جهاد مرتضى وعقيلته. وعندما انتحيت به جانباً بادرني بالقول: "لماذا لم تعد تأتي إلى لبنان؟ أم أنك تأتي ولا تزورني؟".

 

ولما أكّدت له أنني انقطعت عن الزيارة لانشغالي بكتابين جديدين، ردّ قائلاً: "يا أخي شو بطّلت تحلم. أين وعودك بالعودة إلى لبنان للاستقرار مع العائلة وتحقيق أحلامك؟".

 

قلت: "ما زلت عندها، ولكني يا دولة الرئيس بتّ أشتكي من كوابيس تقضّ مضاجعي ليس بشأن لبنان وحسب، بل بشأن أمّتنا وأوطاننا من المحيط إلى الخليج".

 

أطرق الرئيس الحريري مفكّراً، وبدا مهموماً وهو يرد بإيمانه المعهود: "نعم صحيح، إن أوضاعنا لا تبشّر بالخير. لكني ما زلت متفائلاً مؤمناً بأن المستقبل لنا، فالمؤمن لا ييأس".

 

وكان الوداع الأخير إلى أن التقيته على وقع الأحزان عند ضريحه في قلب العاصمة التي أحبّها وأحبته.

 

واليوم، بعد مرور نحو عشرين عاماً على استشهاده، غدراً وظلماً، أتأمّل في أسماء الأشخاص الذين وُجِّهت إليهم أصابع الاتهام في اغتياله، تخطيطاً وتنفيذاً، سواء في سوريا أو لبنان، فأرى كم أن العدالة الإلهية تعلو فوق كل محاكم الأرض الدنيوية، إذ إن هؤلاء إما قُتِلوا أو جرى تصفيتهم بأشكال وأساليب مختلفة، وإما سقطوا عن "عروشهم" أذِلّاء، وكأنه تجسيدٌ واقعي للآية القرآنية الكريمة التي تقول: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾.

 

بعد غدٍ:

استشهاد "المعلّم" كامل مروة

شكّل بداية نهاية الزمن الجميل