بيروت | Clouds 28.7 c

بين فيتنام وغزة / بقلم العميد غسان عزالدين

 

بين فيتنام وغزة 
الأحد ١١ آب ٢٠٢٤
بقلم العميد غسان عزالدين 

الشراع 12 اب 2024

 

كان العالم كله الغربي والشرقي يعتبر الشعب الفيتنامي مضرب مثل في التضحية والاستشراس في الدفاع عن ارضه وكرامته … وهذا حق لا لأحد ان ينكره على ذلك الشعب الذي حكمه اليابانيون ثم غزاه الفرنسيون بدعوة من بريطانيا   ،الذين اظهروا فشلاً و قصر نظر وجهل عميم  في ادارة البلاد التي حاولوا حكمها بواسطة جنرالات خدم معظمهم في مستعمرات فرنسا الافريقية، ولم يخوضوا معارك حقيقية ،وكان واحدهم يشبه الملاكم الذي يتمرن بكيس الرمل المتدلي امامه  فيسدد له اللكمات دونما خشية او خوف من احتمال  تلقي اي رد بالمقابل … أخذ  جنرالات الفرنساوية الأمر وكأنه الانتصار الحاصل المحصل والمؤكد اي كما يقولون بالانكليزية :
They just took it for granted .,,,
قبيل نهاية الحرب العالمية الثانية حرص البريطانيون على تقديم وجبة دسمة ملغومة للفرنسيين ،وهي فتح الطريق امامهم لإستعمار الهند الصينية !!!
كانت الشهية الاستعمارية الفرنسية مفتوحة كعادتها ،على لهط اي بلد مثل الفيتنام ،فتلقفت الهدية البريطانية بنهم شديد، وباشرت في احكام سيطرتها على البلاد، من خلال اقامة قواعد عسكرية تشبه القلاع ،وكانت مواقع حصينة جرى ربطها بشبكة من المواصلات البرية والجوية، عبر الاستعمال الكثيف للطوافات .
كان  الحلفاء  قد وعدوا الفيتناميين انه بعد ان تتم هزيمة اليابانيين سيتم منحهم حق تقرير المصير ،ولكن على الرغم من انتهاء الحرب العالمية الثانية كانت كل تصرفات الفرنسيين :من تعزيز قلاعهم العسكرية وتثبيت وجودهم الاقتصادي وانتشار شركاتهم الاحتكارية.. تشي انهم يعملون وكأنهم باقون في البلاد الى الابد ،فأنفجرت في وجههم ثورة مسلحة عام ١٩٤٦ بقيادة السياسي "هوشي منه "والعسكري المحنك الجنرال "فو نيغوين جياب ".. شيوعيان صمما على طرد المستعمرين الجدد ،وارثي الامبراطورية اليابانية  ،وكان لهما ما ارادا عندما انزلا  هزيمة ساحقة بالقوات الخاصة والمظليين الفرنسية في ايار من عام ١٩٥٤ في موقعة "ديان بيان فو "الشهيرة .. التي تدخل على اثرها الاميركيون لإنقاذ الشرف الفرنسي !!! تدخلوا ولكن بعد ان تلطخت سمعة الجيش الفرنسي ووصلت الحضيض .تجسد ذلك بمشاهدة العالم كيف يستسلم رجال النخبة الفرنسية لبضعة شراذم من فلاحي فيتنام … يسوقونهم في طوابير طويلة برؤوس مطأطأةواياد مرفوعة … استحقتها باريس وايقنت انها فيتنام 
وليست افريقيا !!
من سخرية القدر ان يقوم الاميركيون بإنقاذ "الشرف الفرنسي " المهدور عام ١٩١٧ عندما كانت باريس  على وشك السقوط بيد الالمان … ثم حاولوا انقاذ  الشرف نفسه عام ١٩٤٥ عندما حرروا  باريس ،واعادوا "للمارسيليز "( النشيد الوطني الفرنسي )بعضاً من الألق الذي تخضب  بشحوب داكن لكثرة من اصابته هزائم عسكر فرنسا من مقتل  .. ولكن تبقى الهزيمة الفرنسية التامة في "ديان بيان فو" ،عصية على النسيان ويظل يوم ٧ أيار من سنة ١٩٥٤ يوماً اسوداً في تاريخ العسكريتاريا الفرنسية المثقل بالهزائم،  لأنه كان يوم استسلام الجيش الفرنسي في فيتنام .
خرجت فرنسا مهزومة وحل مكانها الاميركيون الذين تحاصصوا مع الروس  ،واتفقوا على تقطيع اوصال الشعب الفيتنامي واختراع دولتين لشعب واحد !!! يفصلهما خط العرض ١٧ ….
 ولكن همة الفيتناميين لم تبرد ولم يفت الاتفاق الاميركي السوفياتي من عضدهم ،فإمتصوا الضربة وقرر زعيمهم "هوشي منه  "اكمال مسيرة النضال  …اتفق وشلة من رفاقه المخلصين ومنهم الجنرال "فو نيغوين جياب "على تحويل  مجتمعهم الى مجتمع حربي بكل ما في الكلمة من معنى ،وكذلك اسسوا اقتصاداً حربياً يحاكي متطلبات تحرير البلاد واعادة توحيدها … قدموا  التضحيات التي تكللت بإنتصارهم التاريخي في نيسان عام ١٩٧٥ واعادوا توحيد بلادهم بالقوة .
ان التجربة الفيتنامية عظيمة ولكن ظروفها كانت ايسر من تجربة فلسطين وغزة تحديداً .. واذا شئنا ان نجري مقارنة سريعة بينهما يمكننا القول ان 
غزة كسرت الرقم العالمي في الثبات والمقاومة  ..
غزة ارضاً  مسطحة .. صحراوية.. اي لا تتمتع بموانع طبيعية وبالتالي تسهل عمليات اجتياحها ..
لا جبال فيها ولا وديان ولا غابات  ..بالكاد تبلغ مساحتها ٣٦٠ كلم مربع بطول  ٤١ كلم وعرض بتراوح بين ٨ و١٢ كلم .. انها مجرد شريط رفيع   يطل على البحر  فنطلق على هذه الرقعة الجغرافية الضيقة اسم قطاع Sector ولكن في اطلس الجغرافيا يسمونها  Gaza Strip اي الخط او الشريط نظراً لضيقه  ..لا عمق جغرافياًولا استراتيجياًولا مدى حيوياً .. قطاع مقطوع من كل الكرة الارضية .. اكبر سجن على مر العصور والأزمنة … يضم اكثر من مليوني سجين او رهينة .. من دون  مطار او مرفأ .. 
الشيء الوحيد الذي تسمح به اسرائيل لأهل غزة هو التوجه غرباً  الى كورنيش البحر، واطلاق المخيلة فيما يكونه شكل ونوع العالم الآخر الواقع خلف الافق .. او في التوجه شرقاً والتطلع الى كثبان الصحراء وتخيل ما يجري خلف أديم الارض !!!
علاقة الغزاوي مع العالم محصورة بمعبري "أريتز" الاسرائيلي ورفح المصري .. بوابتان يقف عند الاولى جماعة الشاباك والشين بيت ،وعند الثانية جماعة العسس والمخابرات المصرية .. يتحكمون في حركة الناس والبضائع ..
معتقل يحاول حارساه المصري والإسرائيلي كبح جماح ساكنيه !! هكذا  يعيش اهل غزة ولعقود طويلة بين شدقي الوحش !!! 
ان اكثر من ثمانين بالمئة من المليونين والثلاثمئة ألف فلسطيني يعيشون في غزة هم لاجئون وفدوا اليها من فلسطين التاريخية بعد نكبة ١٩٤٨ ..وجاءت موجة التهجير الثانية بعد سقوط الضفة الغربية اثر هزيمة عام ١٩٦٧ … انها "ماسادا "مفروضة فرضاً على اهل غزة كربلاء العصر من قبل اليهود والانظمة  العربية .

غزة محاصرة بالكامل منذ اكثر من عقدين  ،حتى المعبر المنفذ الوحيد الجنوبي عند رفح اسفرت اجتماعات المسؤولين المصريين مع آخرين من العدو تحت اشراف اميركي مباشر على اقفاله ،وتسليم السيادة عليه للإسرائيليين  الذين اطلقوا على الحدود المشتركة بين القطاع ومصر اسم  محور فيلاديلفيا وسيطروا  عليه عسكرياً بالكامل بعدما كان المصريون قد بنوا جداراً اسمنتياً بإرتفاع ستة امتار فوق الارض مغطى بأطنان من الاسلاك الشائكة والعوائق المعدنية وبثلاثة امتار تحتها لمنع الغزاويين من اعادة وصل قطاعهم بالأراضي المصرية ..ناهيك عن تصريحات احد كبار الامنيين المصريين الذي تفاخر بأن مصر قد هدمت اكثر من ثلاثمئة نفق قبل ان يتم تسليم جيش العدو السلطة والريادة على كامل منطقة رفح ومحور فيلادلفيا تحديداً .وكما ذكرت آنفاً تُضاف قضية استجرار مياه البحر واغراق الانفاق وتداعياتها البيئية الكوارثية الى سلسلة مأسي غزة الكثيرة .

غزة تعاني ..لا كهرباء لا ماء لا مواد غذائية لا مواد طبية ..أحد الاطباء النرويجيين بكى وهو يصرخ لا مواد تخدير اننا نجري عمليات جراحية 
للأطفال من دون تخدير !!!!
هذا عدا عن تدمير العدو لكافة البنى التحتية من طبية او غذائية او مائية .. ثلاثون مستشفى مدمرة ولا محطات توليد للطاقة ولا مياه صالحة للشرب ..
المجاعة تفتك بمئات الآلاف … بإختصار ان غزة اليوم هي اشبه ما تكون بجحيم يوم الدينونة ..
وعلى الرغم من ذلك ما تزال صواريخ الكاتيوشا تنطلق من قلب المناطق التي يحتلها العدو ،لتضرب ليس "سيدروت "والغلاف بل مدينة  عسقلان التي تبعد ٢١ كلم عن الحدود مع القطاع … اليس في الأمر اعجوبة ؟؟
بل اكثر من ذلك ان رؤية الشاب النحيف الذي يتأبط 
متفجرة صنع محلي، ويركض  ليضعها على وحش فولاذي ثم يرجع مسرعاً وهو مكشوف بالكامل ليفجرها مع رفاقه … منظر قلب كافة المقاييس العسكرية .. شجاعة تقارب التهور والجنون .. هذه امور لا يمكن ان يتعلمها العسكري المحترف لا في معهد او كلية بل هي تنبع بالسليقة من قلب حديدي ،وليس غير الأيمان هو محركها ومبعثها .

غارات العدو الجوية غير مسبوقة في العالم وقال ضابط اميركي واعتقد انه الكولونيل سكوت ريتر ان الحلفاء عندما احرقوا مدينة دريسدن الالمانية عام ١٩٤٥ وقتلوا مئة الف مدني في ليلة واحدة لم يستعملوا كميات القنابل التي استعملتها اسرائيل ضد غزة .
ان تضحيات غزة هي اضعاف تضحيات فيتنام الشمالية فالمسألة 
هنا تراعي النسبية في كل الامور :

مساحة فيتنام الشمالية ١٥٨ الف كلم مربع … غزة ٣٦٠كلم مربع 
عدد سكان فيتنام الشمالية ١٧ مليون نسمة .. غزة مليونا نسمة 
طبيعة فيتنام جبلية والغابات الإستوائية الكثيفة تغطي ثلثي اراضيها وهي مثالية لحرب العصابات  … بينما قطاع غزة مجرد ارض صحراوية مكشوفة مسطحة بالكامل …اي مثالية للمناورة بالمدرعات اي لصالح العدو .
وهكذا نجد ان مساحة الفيتنام وطبيعتها الجغرافية  الكبيرة  تسمح للجنود والمقاتلين بحرية المناورة والتخفي وتحقيق عنصر المفاجأة ضد المحتلين ،واتباع التكتيكات المرهقة لهم ويكون للثوار ميزة اختيار مكان وزمان المعركة ..وكلها عوامل اساسية وحاسمة في فن قتال الغرية في الادغال .. 

ان  العمق الاستراتيجي لفيتنام منحها اولى ميزات القوة والسيطرة التي كانت مفتاحاً رئيساً في هزيمة الفرنسيين ثم  الأميركيين من بعدهم .. فهي تتشارك بحدودها الشمالية مع الصين والصين متصلة بالاتحاد السوفياتي وهما كانا اكبر داعمين لها ،والامدادات لم تكن تتوقف على مدار الساعة من الجبارين المذكورين …. كان الفيتناميون قد بنوا طريقاً من قلب هانوي الى الحدود الصينية ثم وصلوه عبر اللاوس غرباً ثم انزلوه الى فيتنام الجنوبية .. أطلقوا عليه اسم :  (طريق هوشي منه ) طوله اربعمائة كلم ٤٠٠ كلم  ومموه جداً …
الهدف من بنائه كان لجلب المساعدات على انواعها 
من الصين والاتحاد السوفياتي وتوزيعها  وايصال ما يلزم الى ثوار الجنوب الشيوعيين الفيتكونغ  المتحالفين مع جيش فيتنام الشمالية .. كان الطريق ناشطاً على مدار الساعة .. فهو  شريان الحياة لفيتنام .. كان يتعرض للقصف الجوي الاميركي ولكن كانت فرق الاصلاح والصيانة تتدخل فوراً لإصلاح  كل ما يُقصف . ( معظمها كان مؤلفاً  من الفتيات المجندات ).

وهكذا نجد ان فيتنام كانت تتمتع بصفات ذاتية كثيرة تمنحها القوة والاستمرار  .كما ان نظام الحكم في فيتنام الجنوبية  وهو الغريم المحلي كان ضعيفاً وغارقاً في الفساد والانقلابات والاعدامات التي لم توفر رئيسها الجنرال "دينه ديم" الذي قُتل بإنقلاب عسكري  دموي عام ١٩٦٣. 

لا مجال هنا للمقارنة بين فيتنام وفلسطين … غزة كسرت الرقم العالمي في الصمود والبطولة ولو قُدر لها من الشروط المساعدة ربع ما حظي به الفيتناميون يوماً لتغير تاريخ المنطقة برمتها .
ان الفيديوهات التي يشاهدها العالم عن كيفية مهاجمة مقاتلي حماس 
لمدرعات العدو لا تُصدق ….
تخال نفسك تشاهد فيلماً هوليودياً ..فن قتال الدبابات يقول ان عدو الدبابة الاول هو الدبابة .. ولكن مع غزة تغيرت المباديء وصار العدو الاول للدبابة مجرد شاب شجاع جداً قرر ان يموت ولكن ليس بمفرده بل ساحباً معه "الميركافا" وسدنتها فيواجه الوحش الفولاذي بصدر عار ،ولا تبدو عليه اية آثار تردد او خوف ..شيء لم يتعود عليه العالم بعد .

عندما بدأ العدو بعمليته البرية عند تخوم حدود القطاع حيث مزارع الخضار والارض المكشوفة البعيدة عن المناطق المبنية لم يواجه مقاومة كافية تمنع مدرعاته من تحقيق خرق وسط القطاع لتقطيعه وقسمته ثم الوصول الى شاطيء البحر لتنفيذ مناورات التفاف شمالية وجنوبية .ولكن عند محاولته احتلال مدينة غزة فتح المقاتلون ابواب الجحيم عليه .
كنت اراقب الفيديوهات واتابع العمليات لحظة بلحظة وقد لاحظت عدة امور غريبة منها تخبط الدبابات التي لم تكن محاطة بعناصر حماية من المشاة .

لا ادري ما كُنه هذا الجيش الذي يختبيء  جنود مشاته داخل ملالاتهم ،ويتركون الدبابات تواجه مصيرها المحتوم ولا يقومون بتأمين حمايتها وهذا من صلب واجباتهم ؟؟ 
الدبابة  ثقيلة الحركة وحركة مناورتها في الاماكن المبنية بطيئة ومحدودة ،وتظل شبه عمياء على الرغم من ان الميركافا ٤ مزودة بحمايات استثنائية : 
تدريع مزدوج ،اضافة الى دفاع تفاعلي ،والاهم من كل ذلك نظام تروفي Trophy لحماية المدرعات .
اصول معارك الدبابات خصوصا ًفي الاماكن المبنية تقضي بأن يركز السدنة بداخلها على الهدف ،بينما 
يتولى المشاة المواكبون لها تأمين حمايتها التوية خصوصاً الجنبين والمؤخرة .
في غزة تنقلب الصورة : جنود مشاة 
الجيش الاسرائيلي لا يخرجون من عرباتهم المدرعة … صار من عليه ان يحمي بحاجة هو للحماية ….
شجاعة الفلسطينيين لا تصدق، يركض  المقاتل باللحم  الحي صوب آلية العدو ويلصق بها المتفجرة هكذا وبكل بساطة !!!!!!الشجاعة الفائقة لا يمكن تعليمها في المعاهد العسكرية انها فطرة وقد تُكتسب بعد طول معاناة فتولد 
 من رحم القهر ورفض الظلم وكل موبقات الإحتلال  .
غزة تقاتل وحدها …. وفعل شعبها ما فعل لأن المرجل عندما تُغلق صماماته سينفجر حكماً .. انه قانون طبيعة الأشياء .
الشراع