العقل السليم شاهدٌ على صحة ما جاء به الشرع/ بقلم الشيخ أسامة السيد
الشراع 18 تموز 2024
الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقًا لأصحاب السعير} سورة الملك.والمعنى أن الكفار يقولون لخزنة جهنم يوم القيامة: لو كنا نسمع أي سماع طالبٍ للحق مقبلٍ عليه أو نعقل أي عقل متأملٍ عرف الهدى فاعتقده لم نستوجب الخلود الأبدي في النار.
لا شك أن العقل السليم يشهد بصحة ما جاء في الشرع الشريف ولم يأت الشرع إلا بما يُقرُّ به العقل السليم فلا تعارض بين مقتضى العقل الصحيح وما جاء في الشرع الكريم، ومن ادَّعى خلاف ذلك فقد افترى على الدين وزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى ما لا يُعقل، والعجب كيف ساغ لأدعياء السلفية اتهام أهل الحق بأنهم يُقدِّمون العقل على النقل وإذا ما احتج عليهم السنيُّ بدليلٍ عقليٍ ينقض مذهبهم زعموا أن العبرة بالنقل وأن العقل لا وزن له إزاء ذلك، وهذا معناه أن الدين فيه ما لا يُعقل وهو من أكذب الكذب ولهم نقول: كيف عرف الأوائل من هذه الأمة صدق ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم أول ما دعاهم؟ ألم يعرفوا ذلك بالنظر العقلي؟ فإنهم لو دُعوا إلى ما لا يُعقل لأقاموا الحجة على من يدعوهم وقالوا له إن الإيمان بما تدعو إليه غير متأتٍ، ولكنهم أذعنوا للحق حيث عرفوا صحة الدعوة المحمدية فأقروا عند ذلك بنبوته عليه الصلاة والسلام وحقِّية ما جاء به من القرآن والسنة، وهذا معناه أن العقل السليم له اعتبارٌ كبيرٌ في الوصول إلى النتائج المحمودة. وما دعوى أدعياء السلفية إلا محاولة لضرب العقيدة السنيَّةالحقة التي صار يُعرف مؤيدوها اليوم في الأرض بالأشاعرة والماتريدية فإنهم يوفِّقون بين العقل والنقل فأثبتوا تنزيه الله عن المكان والجهة والجسمية وكل ما كان من صفات المخلوقين إذ النقل والعقل يدلَّان على أن شبيه الشىء لا يُوجِد مثلَه، فوجب اعتقاد أن الله لا يُشبه شيئًا ولا يُشبهه شىءٌ خلافًا لعقيدة التجسيم المتمثلة اليوم بأدعياء السلفية زورًا والتي تُخالف العقل والنقل حيث سار أصحابها بالنصوص مسارًا يؤدي إلى وقوع التناقض فيما بينها، ومن هنا فإنه لا ينبغي لنا إهمال العقل والإعراض عن الدليل العقلي.
مناظرة مفترضة
وهنا نقول:كفى دليلًا في بيان بطلان عقيدة التجسيم أنها تُناقض صريح العقل زيادةً على صحيح النقل وبيان ذلك: لو فرَضنَا مناظرةً بين عابد الشمس والمجسم فلو طالب عابدُ الشمس المجسمَ بدليل على عدم استحقاق الشمس الألوهية فإن غاية ما يقوله المجسم مثلًا: قال الله تعالى:{الله خالق كل شىء} سورة الزُّمر. فيقول عابد الشمس: أنا لا أؤمن بكتابكم أعطني دليلًا عقليًا على عدم استحقاق الشمس الألوهية، فينقطع المجسم ويسكت، ولربما قال له عابد الشمس: أنت تعبد جسمًا تزعم أنه فوق العرش وأنا أعبد جسمًا مُشاهَدًا نفعُهُ ظاهرٌ فما الفرق بين ما أنا عليه وبين ما تدعوني إليه وما الذي يدلُّ على بطلان مذهبي وصحة مذهبك من حيث النظر بحكم العقل؟ وإذا ما كان المجسم خاليًا من الحجة العقلية فكيف سيدعو الملاحدة وغيرهم من المخالفين لعقائد الإيمان ممن لا يُقرُّون بالقرآن إلى الإسلام؟ وحيث أهمل المجسمُ العقلَ فماذا يقول في قوله تعالى:{وما يذَّكر إلاأولوا الألباب} سورة البقرة، وقوله أيضًا:{أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوبٌ يعقلون بها} سورة الحج، وقوله:{إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ} سورة ق. والقلب هنا أي العقل، وماذا يقول في آياتٍ أخرى كثيرة. بل لو كان التجسيم حقًا لاعترض كفار قريشٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقالوا له: إنما تدعونا إلى مثل ما نحن عليه، تدعو إلى عبادة جسم والأصنام جسمٌ فما الفرق بيننا وبينك؟ وحيث دلَّ العقل على بُطلان اعتقاد الجسمية في حق الله تعالى فنقول: الجسم ما له طولٌ وعَرضٌ وسَمْكٌ، وما كان كذلك كان مُحتاجًا لمن جعله على هذا الحدِّ وهذا المقدار، والمحتاج عاجزٌ والعاجز لا يكون إلهًا، ولا يصح أن يحُدَّ الشىء نفسه لأن معنى ذلك أنه خَلق نفسه، ومُحالٌ أن يخلق الشىء نفسه.
ونظرًا لأهمية الاحتجاج بالدليل العقلي وقوة البرهان عند مواجهة الخصم به وتأثيره في النفس كثيرًا ما استُعمل في مناظرة المجسِّمة، وأذكر في هذا المقام مناظرتين قصيرتين فيهما دلالة باهرةٌ على تأييد مذهب الحق ونسف مذهب المجسِّمة بالنقل والعقل الشاهد لصحة الشرع فأقول:
المناظرة الأولى
جرى حوارٌ يومًا بيني وبين وهابيٍ مجسِّمٍ فقلت له: لا تصح الألوهية للجسم ويجب تنزيه الله عن الجسم فالجسم محدودٌ والمحدود محتاجٌ لمن جعله على هذا الحدِّ والمحتاج عاجزٌ والعاجز لا يكون إلهًا ثم يستحيل أن يحُدَّ الشىء نفسه لأن معنى ذلك أنه خلق نفسه ومستحيلٌ أن يخلق الشىء نفسه لأن هذا معناه أنه كان قبل نفسه باعتباره خالقًا وبعد نفسه باعتباره مخلوقًا وهو مستحيل. فقال لي: كلامك بالعقل صحيح ولكن توجد آياتٌ وأحاديث. فقلت له: وهل توافق هذه الآيات والأحاديث العقل أو تخالفه؟ فسكت هنيهةً ثم قال: اترك العقل، فقلت له: إذًا أنا أناقش مجنونًا فغضب وانتفض وانتهى النقاش.
المناظرة الثانية
وجَّهت مرةً سؤالًا لأحد أدعياء السلفية فقلت له: كيف تُقيم الحجة العقلية على عدم استحقاق الشمس الألوهية؟ فقال لي: الشمس موجودةٌ وكل موجودٍ لا بد له من مُوجِدٍ، فقلت له: الله موجودٌ فهل تقول: لا بد له من مُوجد؟ فقال: الله استثناء، فقلت له: الاستثناء يصح في القواعد النقلية لا العقلية لأنه لو صح في القواعد العقلية لكان معنى ذلك أن نفس الشىء يقبله العقل ولا يقبله العقل وهو مستحيل، ثم لو قال لك عابد الشمس إن صح أن معبودك استثناء فالشمس أيضًا استثناء فماذا تقول؟ فبُهت ولم يجد جوابًا فتأمل أيها القارئ فإن الله تعالى يقول:{ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يُبصرون بها ولهم ءاذانٌ لا يسمعون بهآ أولئك كالأنعام بل هم أضلُّ أولئك هم الغافلون} سورة الأعراف.
والحمد لله أولًا وآخرًا.