تنافس الإرساليات التبشيرية اليسوعية والبروتستانتية والكاثوليكية في بلاد الشام / عبد الهادي محيسن
الشراع 12 شباط 2024
يرجع تاريخ وجود الإرساليات الأوربية في بلاد الشام الى القرن السابع عشر حيث اقتصرت جهودها الأولى على رعاية الطوائف المسيحية الموالية لكنيسة روما نظرا لفقر السكان المدقع وجهلهم المطبق ، وبالرغم من هذه الظروف الصعبة استطاع اليسوعيون أن يحققوا بعض النجاح الىأن عُطلت جمعيتهم في عام 1773 ، فأغلقوا معظم مؤسساتهم من دون أن يتركوا أي أثر في تطو الحياة الفكرية للبلاد .
إلا أن وصول بعثات تبشيرية بروتستانتية أميركية الى بلاد الشام عام 1820 وتحويلها اتباعا من الطوائف الكاثوليكية الى المذهب البرتستانتي جعلت اليسوعيين يعودون الى استئناف نشاطهم عام 1831 متشجعين بسياسة ابراهيم باشا التسامحية ، ولهذا أخذ التنافس يشتد بين الإرسالات البروتستانتية والكاثوليكية ، خاصة في مجال التربية والتعليم ، فأنشأوا المدارس وأسسوا الجمعيات والمجلات العلمية والأدبية ودور النشر والطباعة ما أفضى الى انتعاش اللغة العربية وتجديدها ونشر تراث الفكر العربي .
ورافق هذا الانتعاش حركة فكرية انتقلت خلال فترة وجيزة من الأدب الى السياسة ، واستعانت هذه الإرساليات في تحقيق أهدافها بنفر من مثقفي لبنان البارزين في ذلك العهد الذين تلقوا العلم في مدارسها وكلهم من المسيحيين ، أمثال بطرس البستاني 1818- 1893 الذي ألف معجمي محيط المحيط ، وقطر المحيط ، ودائرة المعارف ، وترجم التوراة الى العربية بالتعاون مع القس البروتستانتي إيلي سميث .
وأحمد فارس الشدياق 1804- 1887 وأديب اسحاق 1801 – 1857 وابرهيم اليازجي وفرانسيس مراش وسليمان البستاني 1856- 1925 الذي ترجم إلياذة هوميروس الى العربية شعرا ، وكان للمبشرين البروتستانت الدور الرائد في هذا المجال إذ أحلوا اللغة العربية مكان الصدارة في عملهم التعليمي بالمدارس والمعاهد التي أنشأوها في بلاد الشام ، وزودوها بالكتب المطبوعة في مطابعهم بأنماط جيدة من الحروف التي أصبحت تعرف بالحروف العربية الأميركية ما سهل عملية الطباعة وتنشيطها .
انتقلت عدوى التنافس بين هذه الإرساليات الى الميدان الجامعي بعد الحوادث الطائفية في لبنان عام 1860 فأسس البروتستانت عام 1866 الكلية السورية الإنجيلية في بيروت التي ضمت كلية الآداب والعلوم والطب والصيدلة والتجارة ، وكانت العربية لغة التدريس في جميع الكليات ودوائرها حتى عام 1880 حيث حلت اللغة الإنجليزية مكانها .
وفي المقابل افتتح اليسوعيون الجزويت عام 1875 جامعة القديس يوسف في بيروت بمعهد اللاهوت والفلسفة ، وأنشأوا بعد ذلك كليات الطب والصيدلة والحقوق والهندسة ، ومعهدا للدراسات الشرقية فكانت الفرنسية واللاتينية لغتي التدريس في جميع الكليات باستثناء معهد الدراسات الشرقية الذي اعتمد اللغة العربية .
وكانت الحكومة الفرنسية تنفق عليها وتشجعها وقد بقي الطابع العام للجامعة اليسوعية لاهوتيا ، بينما غلب الطابع العلمي على الكلية السورية الإنجيلية ( الجامعة الأميركيةمنذ عام 1920 ) ولهذا السبب كان تأثيرها في انبعاث الفكر العلمي في لبنان والبلاد العربية الأخرى أكبر من تأثير الجامعة اليسوعية ، وقد شرع بعض الأدباء والهيئات الدينيةالمحلية في إنشاء مدارس وطنية ذات أنماط أوروبية تحت التأثير المباشر لما أحدثته الإرساليات في حقلي التربية والتعليم ، وتأتي في طليعة هذه المدارس : المدرسة الوطنية لبطرس البستاني 1863 التي كان ناصيف اليازجي مدرسا أولا للغة العربية فيها .
ثم المدرسة البطركية للروم الكاثوليك 1865 ومدرسة الحكمة للطائفة المارونية التي أنشأها يوسف الدبس 1865 ومدرسة الأقمار الثلاثة للروم الأرثوذكس 1866 ومدرسة المقاصد الخيرية الإسلامية 1880 وقد تخرج في هذه المدارس رعيل من الرجال الذين لعبوا دورا كبيرا في نشر الروح الوطنية والعلمية في بلاد الشام .
وعلى الرغم من أن معظم هذه المدارس كانت دينية التوجيه ، إلا أن نظامها التدريسي بشكل عام كان عقلانيا ، ما مهد الطريق الى نوع جديد من الإدراك العلمي وخلق ظروف خففت من قبضة نمط التفكير الديني التقليدي على العقول ، فاهتمت جميع هذه المدارس خصوصا المسيحية منها بتعليم الأدب العربي وقواعد النحو العربية ، ويرجع اهتمام رجال الدين المسيحي باللغة العربية الى القرنين السابع عشر والثامن عشر بعد أن أصبحت هذه اللغة منذ القرون الوسطى لغة الطقوس الدينية في الكنائس الشرقية .
وكان لهذا الحدث الثقافي اثر بارز في بعث الأدب العربي الكلاسيكي ونشر تراثه ، وفي استعمال العربية الفصحى في نقل المعارف الحديثة وتكيفها مع المفاهيم الجديدة ، وتحولها الى أداة فعالة للتخاطب الفكري ، وبذلك كان المسيحيون في سوريا ولبنان أول من استعملها في كتاباتهم ، وفي المقابل ركزت المدارس المسيحية التي تديرها الإرساليات الأجنبية الى اللغات الأوروبية وخاصة الفرنسية والإنجليزية ما أمد الطلاب المسيحيين بأداة فكرية أخرى لم يمتلكها مواطنوهم المسلمون إلا في عهود متأخرة .
وقد فتحت معرفة هذه اللغات أمامهم آفاقا جديدة عندما وضعتهم في اتصال مباشر مع الفكر الأوروبي وعلومهم وجعلتهم يضطلعون بدور خاص في المجتمع العربي ، إذ أصبحوا الوسطاء بين أفراد هذا المجتمع والحضارة الأوروبية الحديثة في المجالات الثقافية والسياسية ما أحدث تبدلا جذريا في مركزهم الاجتماعي واتجاهاتهم الفكرية التي غلب عليها الطابع العلماني منذ الربع الأخير من القرن التاسع عشر ، كما أثرت في التيار التوفيقي الإسلامي الذي قاده جمال الدين الأفغاني ومحمد عبدو في مصر .
عبد الهادي محيسن .... كاتب وباحث .