شذرات من أزمنة سورية المعتقلة..
حتى لا نتراجع عن الحريّة.. إلى سلامة كيله / كتبت: نداء عودة
الشراع 25 كانون الأول 2024
كتب المفكر العربي الاشتراكي سلامة كيله عن وضع السجن. . حينها روى عن رحلة اعتقاله ثماني سنوات في سجون الأسد الاب ،عاود النظام اعتقاله أسابيعاً بعد اندلاع اندلاع الثورة السورية صيف ٢٠١٢ ،وكثيرا ما تحدث عن الفارق بين الاعتقالين في التعاطي معه كسجين سياسي ،حيث القاسم المشترك بين اعتقالين، وفي زمنيّ حكم الأسد الاب والأسد الإبن هو العقل الأمني الذي يزداد شراسة عندما يتطلب الزمن ضرورات التغيير والتحديث على كافة المستويات السياسية والاقتصادية وسواها، على الرغم من انه لا يمكن لنظام استبدادي ان يواكب اية حداثة.
في العام ٢٠١١ سقط النظام السوري بالمعنى العملي للكلمة، لكن بقيت الدولة كعصابة أمنية محصنة بين اشلاء الشعب السوري ،المقيم و اللاجيء في اصقاع الأرض في آنٍ معاً.
ولعلّ كتابات سلامة والذاكرة الشفهية التي جمعتنا، تدلّ على قراءته لحكم آل الأسد المازوم وذي الأفق المسدود، على الرغم من مساندة قوى كبرى له لسنوات.
فجر الثامن من ديسمبر الفائت، تمنيت لو كان سلامة حياً ليرى هذه اللحظات التاريخية التي عاش من أجلها، حين سقط حكم الأسد الى الابد، فهو الفلسطيني الذي ابعده الاحتلال عن وطنه عام ١٩٧٦ ،وهو السوري الذي عشق الشام حتى ذاق عذاب سجونها والنفي خارجها صيف ٢٠١٣، حيث يبدأ الارتحال إلى عمان ثمّ القاهرة حيث عاش في بيت وديع في حيّ المنيرة، وسط احتضان رفاقه ومحبّيه ودور الكتب والنشر. وكان يقول لصديقه الصعيدي الشاب عصام شعبان، انه كان مثله في صغره شاباً اسمراً، لكن عرف عصام فيما بعد أن سلامة لم يكن أبيضاني ، ولكن مرض البُهاق الذي أصابه في السجن هو مرض جلدي يجعل لون البشرةمتلوناً ، كان سلامة يمزح ويقول "صرت اشقر" وعلى الرغم من صراعه مع مرض السرطان ،ظل نشاطه واسفاره وإنتاجه الفكري غزيراً ما كان يثير إعجاب كل من حوله.
لم يتغيّر وضع السجون السورية بين فكّي زمنيّ الأسدين، ، هو الأسلوب العصابي الإجرامي نفسه، في قمع الحريات وزج الناس داخل الاقبية المظلمة العَفنة ، واكتظاظ الزنازين، وروائح الدم والفضلات البشرية، و حيث وجبة الطعام الفاخرة هي قليل من الارزّ مع المرق وكثير من الديدان، "مسالخ بشرية" كما وصفها سلامة لوكالة اسوشييتد برس
لكن كل الروايات لسلامة وغيره من المعتقلين والمعتقلات، لا تكفي لنقل الصورة الحقيقية لابشع جرائم الإبادة الممنهجة بحقّ السوريين و ايضاً اللبنانيين والفلسطينيين وغيرهم من المُخفيّين قسراً ، فما ان كُسِرَت الاقفال الفولاذية وجدران الفصل العنصري التي إقامها حكم ال الاسد. ضدّ الشعب ، حتى فاق المشهد الكلام.، كنت أرى سلامة في كل معتقل ، وكل معتقلة في ناهد حبيبته التي تزوجها في السجن، ، تلك المشاهد تساوَت مع ،وحشية مجازر العدو الصهيوني المستمرة بحق الفلسطينيين والتي صارت، بكثير من الأسف، اخباراً جانبية نسبة لصيدنايا ، وقعلياً لا يمكن لنظام استعبادي استبدادي ان " يحرص" على فلسطين كما يدّعي "علناً"، في حين يسوّل لنفسه استخدام قدسية العنوان لارتكاب ابشع الجرائم في "فرع فلسطين" وغيره من مقابر جماعية تحت الارض ،الأحياء فيها امواتاً، والاموات ارقامَاً مرمية في أكياس مهملات.
أثر اندلاع الثورة، كان "طبيعياً" لهذا النظام ان يستشرس دفاعاً عن بقائه ضد شعبه بكل الوسائل الحربية وبشن حملات اعتقال واسعة شملت مؤثرين و مثقفين وفنانين، مثل الراحلة مي سكاف ، ( شكّل رحيل ميّ لسلامة عاصفة من الحزن وقد رحل بعدها بعدة اشهر ) . أعود لسلامة الذي اقتحمت المخابرات منزله في حي برزة بدمشق بعد منتصف الليل ،وصادرت أوراقه و هواتفه وحواسيبه، وكانت تهمته طباعة منشور يدعو لاسقاط النظام، لان ذلك هو الطريق لتحرير فلسطين. وعن اسابيع اعتقاله، قال انها في قسوتها كانت تعادل الثماني سنوات التي قضاها في سجون الأسد الاب منذ العام ١٩٩٢ حتى ٢٠٠٠، حيث عامله النظام البعثي حينها معاملة المواطن السوري كما استطاع ان يضع عددا من الكتب الفكريّة، اما في سجنه الثاني، فقد عومل معاملة الفلسطيني الأردني المواطنة اي ( الغريب) من هنا كان ابعاده إلى عمان مخرجاً لامتصاص الضغط من حول العالم للإفراج عن سلامة، وحَزِن سلامة لانه لم يتساوَ في المظلومية مع الشعب السوري كما كان في مطلع التسعينيات بزمن الأسد الاب، ، وتم ترحيله عن بيته واحبائه ووطنه الذي اختاره سورية ،، مثلما ابعده الاحتلال قبلاً عن أهله و بلدته الفلسطينية بيرزيت.
اتذكّر المخطوطة التي كتبها سلامة بخط يده في سجن الأسد الاب "الاشتراكية او البربرية" ، وقد وصلتني إلى بيروت، عبر شاب عشريني كان تخفّى وراء زائر صديق للعائلة، ويبدو ان الصديق قام بتدبير الأمر بحيث لا تنتبه اعين المخابرات من حولنا، الحَحْت عليه ان استبقيه لاعرف ما يطمئنني أكثر عن سلامة، لكنه صمت ولم يفصح حتى عن اسمه، قال وكانه يحتفل "تفضلي هذا الكتاب الفه سلامة في السجن" وانصرف كملاك تاركاً لي فرحاً، ورسالة طمانة من سلامة الذي كان لا يكفّ عن الكتابة .وسرعان ما تطير أفكاره خارج الجدران المظلمة يتبادلها الشباب بالخفاء.
كان علينا أن نفرح ونتالم سرّاً، حتى عند الإفراج عن سلامة وعدد من رفاقه بعفو عام سنة ٢٠٠٠، حينها زفّ لي الخبر
المعجزة احد الأصدقاء في دمشق إلى مكتبي في الصحيفة، أراد أن يقول لي شيئا شرط ان لا يلاحظ المحيطون بي فرحتي، فمكالمة الصديق كانت مخاطرة، وسألته كيف يمكن أن اصل اليه؟، أجابني انه سيؤمن رقم الهاتف فور ان يتمْ توصيله، عندما سمعت صوته اجهشت بالبكاء، ويكون جوابه نحن لا نبكي نحن اقوياء، هم الذين يجب أن يبكوا"، وكانت ناهد بالصلابة نفسها، واعتقدت ان ناهد وسلامة لن يعتقلا مرة أخرى، لان الماكينة الدعائية التي هلّلت للرئيس الشاب القادم من بريطانيا وهو طبيب الخ وعد بالديمقراطية و الإصلاحات الخ" ، لكن" سرعان ما سحب بشار طرحه من السوق"كما تقول ناهد، حينها امتلات دور دمشق بالمنتديات الثقافيه والمقاهي بالنقاشات فالشارع السوري فتيّ وعَفي وهو يغلي بتطلّعاته نحو الحرية والتطور، وكان بديهياً ان يخاف الأسد و يستعيد قادة الأجهزة الأمنية من حكم والده وعلى رأسهم ابن خالته عاطف نجيب، وهو الاسم الذي لا انساه لانه كان أول من حقق مع سلامة وكسر نظارتيه على وجهه بقبضته. خاف الأسد لانه احضر الدبّ إلى كرمه، وفي صباح يوم مشمس قرأت خبر اعتقال ناهد مع مجموعة من رفاقها كمانشيت في الصفحة الرئيسية بجريدة النهار، وبعدما افرجوا عنها، ايضاً سمعت صوتي اجهش بالبكاء، فاجابتني لا تبكي ما في شي "هاي شوية غلاظة وخلصت"
سألتها، وماذا كنت تفعلين أثناء هاي الغلاظة؟
اجابت اغني لهم بسخرية "انا سوري اه يا نيالي"
تتردّد حكايا ناهد والاصدقاء في الاعتقال أثناء لقاءاتنا، مثل الفنانة المتهمة دعارة ومخدرات والتي اقامت محاضرة للسجينات عن فن الماكياج، قُلن لي ان النظام يقصد مع اهانة سجينات الرأي واحتقارهن بدمجهنّ مع سجينات الدعارة والمخدرات، سمعت كثيراً عن البير الفتى المسيحي الذي كان سعيدا بأن نبت شعر ذقنه فاعتقل بتهمة انتسابه لجماعة الاخوان المسلمين، لكن بعد سنوات مريرة في السجن، صار البير اخوانياً. كنا نضحك لقصص ونتحسر لاخرى.
الى سلامة ابن العم جورج كيله والخالة غزالة علوش باقة حب وذكريات ،حاولت أن اعزلها بالمعنى العائلي عن هذا النصّ، لأن حق الصلة الفكرية أقوى وهو حق سلامة ورفاقه علينا بتوثيق مسيرتهم ونشر نضالاتهم، على ان لا يُقع الشعب السوري في فخّ عقد اجتماعي اشبه بصيغة التحاصص الطائفي اللبناني حتى لا تعيد نموذج الصراع الاهلي المستمر، وفي دولة تحدّد موقفها الواضح من الكيان الصهيوني ونهبه للارض والمقدّرات.
نداء عودة
.