بيروت | Clouds 28.7 c

قراءة "سنية" ليوم الغدير / بقلم الشيخ الدكتور محمد النقري - الشراع 26 حزيران 2024

 

 

قراءة "سنية" ليوم الغدير
بقلم الشيخ الدكتور محمد النقري
الشراع 26 حزيران 2024

 

يجنح كثير من الحاخامات والمتشددين إلى الإعتقاد بأنه كلما زرعوا الفتن وجعلوا الصراخ يرتفع في الحروب ونشروا الرعب والقتل والفتك بأبناء إسماعيل (العرب) فإن ذلك سيكون سبباً بأن يسرع الله في إرسال مسيحهم الذي سوف يقودهم إلى النصر.

....وكأن هذه المنهجية ابتدأت تشق طريقها بين المسلمين السنة والشيعة، فما من مناسبة أو حدث أو ذكرى أو خاطرة الا ويتم استغلالها لنبش الماضي وتسعير الخلافات والتفرقة والاختلافات والخلافات بين هذين المكونين الاسلاميين....كل ذلك في جو يشبه ما اعتمده كثير من الحاخامات والمتشددين في ادعيتهم للتعجيل بظهور المسيح، غير أنه هنا يتم استبدالها بالحديث عن استعجال خروج المهدي المنتظر.

أيها العقلاء من السنة والشيعة لا تسعروا هذه الخلافات التي حصلت في حقبة من حقب التاريخ، ومن تسبب بها وبمقتل إمامينا علي والحسين عليهما السلام أصبح المتسببون بذلك  جيفاً نتنة في باطن الأرض. 
ازرعوا المحبة وقاربوا وسدوا الفرج بينكم فإن عدوكم يتربص بكم ويخطط بذكاء وخبث لقهركم واخضاعكم لسيطرته. طوبى لأصحاب الكلمة الطيبة من سنة وشيعة فإنهم أحباب الله يدعون.

هذه القراءة ليوم الغدير هي محاولة " سنية" لفهم هذا الحدث الجلل الذي أجمع السنة والشيعة على تدوينه ولكن بمنطقين مختلفين. هذه القراءة هي عبارة عن مقال كتبته ونشرته عدة صحف محلية وخارجية بعنوان :" رسالة مفتوحة إلى أخي الشيعي" :

في ملاعب الصبا نشأنا وترعرعنا سوياً في أحياء بيروت فكنّا نتسامر ونلهو معاً، لا شيء يخلفنا أو يفرّقنا مطلقاً سوى مغادرتك حيّنا لقضاء العطلة الصيفية في ربوع الجنوب. عندما كبرت على مقاعد الدراسة الشرعية لم يدهشني البتة أن يكون مَن يماثلك في المذهب ناظراً أو مديراً أو موظفاً أو حتى طالباً في هذه المدرسة المهيأة لإعداد علماء الدين السنّة. لم أكن أعتبر مذهبك إلا مذهباً فقهياً من مذاهب العائلة الإسلامية الكبيرة، بل كنت كثيراً ما أندهش لأنّ محبّتك للإمام علي جعلت منك شيعياً وحبي المتيم به وبأهل بيت النبوة الأطهار جعلت مني سنّياً. كنت دائماً أراك وأرى مشايخَ وسياداً من مذهبك في مساجد أخوتك السنّة تصلي وتدعو الله مبتهلاً لجلاله وعظمته، وتقرأ القرآن والفاتحة وتصلي على النبي محمد وآل بيته الأطهار وتصوم رمضان وتؤدي خُمس زكاتك وتذهب إلى الحج. جلّ ما كنت ألاحظه وضعك القرص أثناء سجودك للصلاة ودعوة الشيخ السنّي لك وللمشايخ والسيّاد للانضمام إلى جموع المسلمين للصلاة معنا داخل المسجد.
عندما كنّا نجوب أنا وأنت بلاد العالم العربي والإسلامي كنا نتوقف دائماً على كون مسلمي هذه البلاد لا يعرفون ما معنى أن تكون شيعياً، فهم لم يكونوا ليعرفوا حتى أنّ الشيعة مختلفون عنهم في بعض المسائل الفرعية في أمور الفقه وسياسة الحكم، فحتى بين المذاهب الفقهية السنّية يوجد مثل هذا الاختلاف، ولا يعرفون إلاّ كونهم مسلمين، بل كانوا ينأون بأنفسهم عن الحديث عن هذه التفرقة التي يكاد مثقفوهم أن يسمعوا بها.
كنّا أنا وأنت نعيش بوئام ومحبّة وحسن جوار وطمأنينة وسكينة، بل كنّا لباس بعضنا بعضاً يسوؤك ما يسوؤني ويفرحني ما يفرحك، إلى أن دخلت إلينا شياطين الأنانية وإرادة السطوة ومظاهر غلبة السلاح والكتب الصفراء الحاقدة وبعض رؤوس الجهلة من الحاقدين والمتمسكين بالنصوص والآراء والحوادث التاريخية التي كتبت ودارت أحداثها في عصور الظلام والتشكيك والتحريض والتخوين.
عدت إلى الوراء لأفهم الحدث الجلل الذي افترقنا منه في البداية دون عراك وتصارع خلال ردهة من الزمن، ولكن باختلاف في فهم المعاني ومجريات الأمور، فإذا بي أصل إلى حجّة الوداع حيث خاطب النبي المسلمين قائلاً: “مَن كنت مولاه فعليّ مولاه”، فأنت وأنا فهمناها وفق منطوق لغوي صحيح، أنا فهمتها بأنّ الولاية هي التأييد والمناصرة، فحيث تكون موالاة لأهل الحق والعدل تكون معارضة لأهل الجور والباطل، فكان كلام النبي إشارة تأييد للإمام عليّ في وجه مَن جاءه من أصحاب اللين والرخاء شاكياً شدّة الإمام عليّ في أمور الدين والفكر والمنهج، وطلباً نبوياً للمسلمين كافة في تأييد الإمام علي لإظهار الحق وعدم معارضته في تشدّده بمواجهة الباطل، فالتزمت بقول النبي نصّاً ومعنى فكان بالنسبة إليّ الإمام علي مرجعاً وسنداً وملاذاً في أمور الدين إلى أن وُلِّي أمور المسلمين فكان مرجعاً دينياً وحاكماً لكافة الناس. وأنت فهمت الولاية من مستلزمات الحكم والقيادة العليا للمسلمين فناديت بالإمام علياً حاكماً ورئيساً، وأردت أن يكون لك الإمام علي منذ وفاة النبي مرجعاً وسنداً وملاذاً في أمور الدين والدنيا. ثم جرت بعد ذلك المقادير وتوالى على الحكم قبل وصولها إلى الإمام علي خلفاء راشدون ثلاثة، وفي كل مرّة كانت غصّة في نفس الإمام علي ليس مردها إلى الطمع والجشع والوصول إلى الحكم عن طريق معارضة الحاكم أو التأنّي في مبايعته، ولكن إلى فهم عميق في معنى الأمانة المؤدية إلى تحمّل الرسالة التي جاء بها النبي محمد إلى الناس كافة، والخشية على ضياعها في حال التهاون بها، وهو من هو أقرب المقرّبين إلى بيت النبوة. ولكن هذه الغصّة لم تثنه في كل مرة عن مبايعة الخليفة الذي ارتضاه الناس لأمور دنياهم ولإدارة شؤون دولتهم.
أنت وأنا نتفق على أنه حين اعتلى الإمام علي كرسي الإمامة والإمارة حكم الناس بمقتضى أمانة النبوة التي تلقاها من النبي محمد، مع الفارق بأن عصر النبوة كان مفعماً بالإمان والإيثار والأريحية، بينما كان عصر الإمام علي مليئاً بالشحناء والجور والجشع والمداهنة والأنفعية، فكان مقتله ومقتل ابنه الحسين سيد شباب أهل الجنّة فاجعة بالنسبة للمسلمين جميعاً، لا يتحمّل وِزرَ مقتلهما إلا من قتلهما، ولا تنجر تبعات إثم من قتلهما إلى الأمم التي عمرت بلاد المسلمين فيما بعد… وكانت بمقتلهما فتنة مظلمة أريقت فيها دماء المسلمين وأغرقت بظلامها العالم الإسلامي كافة.
لم يكن في حينها كما تعلم، سنّة ولا شيعة، بل أنفعيون في الأكثر الأعم يقاتلون في صفوف معاوية ومن بعده يزيد، وأريحيون في الأكثر الأعم يقاتلون مع الإمام علي ومن بعده الإمام الحسين… وكثر الحديث والنقاش في الفترات الزمنية التي تلت هذه الاحداث بمواضيع الفتنة فتأجج الصراع عاماً بعد عام وجيلاً بعد جيل، واحتدم الخلاف بين جموع المسلمين، وزادهم الحديث في موضوع الفتنة تفرقاً وانشقاقاً وتحزباً لفريق ضد فريق. فتداعى العلماء والفقهاء الأوائل للإتفاق فيما بينهم على عدم الخوض في مواضيع الفتنة وعدم كتابة أحداثها واستنساخ كتبها ومفرداتها ونقل بياناتها وصورها، فتشكل رويداً رويداً على مرّ السنين والعصور وعلى اختلاف مشارب وأفكار وتوجهات المنضوين تحت هذا المبدأ، ما بات يعرف فيما بعد بأهل السنّة والجماعة، فكان اجتماع كلمتهم وأفكارهم في إطار مقولة أساسية هي: “تلك دماء طهر الله منها أيدينا أفلا نطهر منها ألسنتنا”. فمن كان مشربه محبة الإمام علي وأهل بيته، ظل كذلك في محبته ومناصرته الصادقة لهم بل إن بعض أصحاب المذاهب الفقهية السنّية مثل الإمام أبي حنيفة والشافعي سجن وخون بسبب آرائه المناصرة للإمام علي وأهل بيته. ومن كان مشربه مواكبة معاوية وحاشيته بقي كذلك دون تغيير وتبديل في موقفه. مع الإشارة لما قد يكون في هذه المواكبة الظاهرية لمعاوية أو يزيد ما تخفيه بعض النفوس من المحبة للإمام علي ولإبنه الحسين تصديقاً لما ذكره الفرزدق في حينها للإمام الحسين: “قلوب الناس معك وسيوفهم عليك”. المهم أن ما كان يجمع الفريقين هو اتفاقهما على هذا المبدأ الأساسي والمحوري وهو عدم الخوض لا مشافهة ولا كتابة في مواضيع الفتنة وعدم تناول الصحابة الذين شاركوا بها بأي سوء وتجريح، خشية الفرقة والإنقسام ورغبة في حقن دماء المسلمين، فكان أولئك الموقّعون على هذه الإتفاقية أوائل من أسس مذهب أهل السنّة والجماعة.
ولا ريب فإن محبتي ومؤازرتي للإمام علي وآل بيت النبوة جعلت مني سنياً وفق منهج أهل السنّة والجماعة، ومحبتك ومؤازرتك للإمام علي وآل بيت النبوة جعلت منك شيعياً وفق منهج الإمامية الاثني عشرية، فكنت أنا من خلال ممارسة منهجيتي السنّية مرجحاً للسلم الأهلي حقناً لدماء المسلمين وطلباً لوحدتهم وعدم تفرقهم ولو أدى ذلك إلى التغاضي لبعض الوقت عن مبدأ العدل الاجتماعي، بينما كنت أنت في ممارسة منهجيتك الشيعية الإمامية مرجحاً للعدل الاجتماعي في إيصال الحق إلى أهله ولو كان ذلك على حساب السلم الأهلي. ولعمري كم هو صعب على المرء أن يختار بين هذين المبدأين عندما يريد أن يقيس الأمور في موازين الحكم وإدارة شؤون البلاد فيما يرضي الله تعالى وشؤون العباد.
سؤال أطرحه علينا أنا وأنت: كيف وصلنا إلى هذا الدرك والانحطاط في مستوى العلاقة التي تربطنا مع بعضنا البعض؟ كيف وصلنا إلى عدم التفاهم وازدراء الآخر ومحاربته، بل كيف وصلنا إلى تكفير بعضنا بعضاً ورمي التهم والأحقاد وبث الكراهية في ما بيننا. كيف وصلنا بعد أن أكرمنا الله بالإسلام إلى بث روح التعصّب الأعمى في ما بيننا إلى درجة أن نعود إلى عصور الجاهلية وإلى مثل ما عانته يثّرب طويلاً في معاداة الأوس والخزرج لبعضهما بعضاً، أو ما حصل فيما بعد في فترات الحكم الاسلامي الأولى في المناداة بالشعوبية وتفضيل عرق على عرق. كم من مرة وقف النبي محارباً هذه الأفكار حيث روي أن أبا ذر الغفاري وقعت بينه وبين بلال الحبشي مشاحنة فعيَّر أبو ذر بلالاً بأمه وكانت عجمية فعلم النبي بذلك فقال لإبي ذر “إنك امرؤ فيك جاهلية”، فما زالت هذه الكلمة تفعل فعلها في أبي ذر حتى شوهد في البادية يسير ماشياً ومعه خادمه وقد ألبسه من ثوبه وأمطاه راكبته، ألم يقل النبي كلمته المشهورة في حجة الوداع: “يا أيها الناس، ان ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على اعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا لأسود على أحمر إلا بالتقوى، إن أكرمكم عند الله أتقاكم”.
فكيف وصلنا بعد أن عمت تعاليم الاسلام السمحة أرجاء الأرض أن يعيّر العربي الفارسي ويعيّر الفارسي العربي، وينشر كل منهما رايات التفرقة والتمذهب المقيت على حساب وحدة الكلمة ومواجهة العدو المشترك وكلاهما أنعمهما الله بالاسلام وأمرهما بنبذ التعصب. كيف نسمح لأنفسنا بالاقتتال تحت هذه الراية أو تلك وشحن الأنفس في كل مرة نمسك السلاح ونتعالى على الآخر. ألم نتعلم من التاريخ شيئاً، ألم نتعلم بأن إراقة الدماء الزكية والبريئة وحمل السلاح على بعضنا بعضاً لا يورثان الا الحقد والعداوة ولا يمنحان البتة الانتصار والغلبة. ولكننا للأسف لا أنا السني ولا أنت الشيعي نحسن قراءة التاريخ والأحداث، وإذا قرأنا لا نفهم وإذا فهمنا لا نعرف كيف نستفيد مما قرأناه ولا كيف تستفيد شعوبنا من أخطائها و من أخطاء الأمم السابقة.
المضحك المبكي في مفردات لعبة الشطرنج التي تلعبها الدول المتحكمة في مقدرات هذا العالم أن يقال لنا “كش” و”مات” فأكش أنا السني وتموت أنت الشيعي أو بالعكس، على وقع ضحكاتهم ونحن نعلم بأنهم يستهزئون بنا ويرسمون لنا كيف نتعارك ونتحارب ونتمذهب حتى يتمكنوا من تقسيم المقسم الذي سبق لهم أن قسموه وتجزئة المجزأ في منطقتنا العربية.
كلمة أخيرة أوجهها أنا السني وأنت الشيعي الى أبواق إذاعاتنا وتلفزيوناتنا وصحفنا والى بعض الذين يقرأون في الكتب الصفراء على وقع طبول عصور الظلام والتشكيك والتخوين: ارحمونا ودعونا نتعانق، ارحمونا ودعونا ننبذ الفتنة وهتافاتها وشعاراتها المقيتة، دعونا نتفق ولا نختلف وإذا اختلفنا أن نعلم بأن اختلافنا رحمة ونعمة وليس نقمة، دعونا مع شركائنا في الوطن نبني لأبنائنا لبنان المستقبل الواعد، لبنان الأمل والتغيير، لبنان المقاوم بجيشه الأبي وبسواعد أبنائه كل أبنائه المخلصين، دعوا أطفالنا يلعبون ويضحكون في ملاعب الصبا والبراءة، دعوا المساجد والحسينيات والخلوات والكنائس تهتف بالسلام والتآخي، دعونا نصلي معاً ونصوم معاً ونعيّد الأعياد معاً مثلما حججنا الى بيت الله الحرام معاً، دعونا أحراراً نحكّم ونحتكم الى عقولنا وضمائرنا وليس الى عقولكم وإرادتكم التي تعكس على وجوهكم وألسنتكم اصفرار كتبكم المخطوطة في أزمان الكراهية والتعصب والتخوين.. وإن كانت لكم كلمة أخيرة فلتكن للخير فقط وإلا فلتصمتوا جميعاً للأبد.ع