الحرب البديلة
العميد غسان عزالدين
الشراع 25 ايلول 2024
لأول مرة اكتبها على الملأ .. من اول يوم تلا انطلاق طوفان الأقصى ،كنت مقتنعاً ان لا غزو برياً اسرائيلياً للبنان لأسباب سياسية وعملانية وتكتية ،وقد خالفني جميع اصدقائي من ضباط ومدنيين الرأي على الرغم من محاولاتي اقناعهم بفكرتي التي ثبتت صحتها فيما بعد، و القائلة بان عدونا سيلجأ الى الحرب البديلة وهي مزيج من العمل المخابراتي الذي يترافق مع القصف والترويع والاغتيالات التي توفر عليه عبء الحرب البرية ،فما يطبقه في غزة هو غيره في لبنان … وسوف يقرأ اصدقائي مقالتي هذه بكل تأكيد … ويتذكرون ما قلته في جلساتنا خصوصا وان في غزة شعب فلسطيني يشكل وجوده نقيضاً لوجود اسرائيل كدولة ،وهو محاصر ولكن مطلوب ابادته ومسحه من الوجود ….بينما في لبنان هنالك عمق استراتيجي كبير جداً يمتد من ايران الى العراق الى سورية واخيراً لبنان .. انه طريق التغذية والتموين والتسليح والدعم المفتوح … انه كطريق هوشي منه الذي مكّن الفيتناميين من ان يتغلبوا على الجيش الاميركي وجيش فيتنام الجنوبية ..
سمّوا هذا الطريق ما شئتم فهو موجود واقعاً وفعلاً
لذلك ما يمكن تحقيقه بمخاطر اقل وكلفة اقل
هو ما يُتبع عادة .
يوم امس كان يوماً " غزاوياً " كربلائياً صال فيه اليهود الصهيونيون التلموديون وجالوا وعربدوا ،وطيف دول الغرب الاستعماري يلوح مع سقوط كل قذيفة وكل صاروخ ينزل على رؤوسنا
واللافتة اياها :
يحق لإسرائيل الدفاع عن نفسها …
لن اناقش هذه الكذبة وقد فعل غيري ذلك الآف المرات .. بل انا انحني امام الدم البريء المسفوك ،واتذكر غزة التي ما برحت تعيش مأساة متمادية منذ عام كامل ونحن بالأمس خَبِرنا يوماً واحداً من ايام اهل غزة المثقلة بالموت .. انها كربلاء العصر بما ترمز اليه من ثورة على الظالم ومقارعة العين للمخرز ،ولا اروم من التسميات اية اسقاطات مذهبية لم اطقها ولم استسغها يوماً ،وربي شهيد على ما اقول .
على الرغم من الدم الطاهر المسفوك، فإن جريمة تفجير Pagers او المنبه او النداء الصوتي ما تزال تأخذ بعقلي وتلابيبه ،خصوصاً وان صحيفة "يديعوت احرونوت "القريبة من الجيش اليهودي التلمودي ومخابراته قالت ان خطة تفجير وسائل الاتصال التي يستعملها حزب الله بدأت تحضيرات تنفيذها منذ خمس عشرة سنة ،وكانت الفكرة باديء الامر تقوم على خطة لتفجير هواتف الحزبيين الخلوية ولكن عندما علم الموساد بصفقة جهاز النداء الصوتي Pagers تحول الاهتمام اليها لخرقها وهذا الذي حصل .
تجلى الدهاء والمكر والخبث اليهودي في بيان اصدره الرئيس الاسرائيلي إسحق هرتسوغ يوم امس
يزعم فيه ألا علاقة لعصاباته بتفجير الأجهزة ،ترافق نفيه مع محاولات لبنان استصدار قرار ادانة من مجلس الأمن يرتب مسؤولية سياسية وجزائية على اسرائيل يتبعه قرار الزامي بتكبيدها تعويضات لكل من طالته تلك التفجيرات .
رفض مجلس الامن ادانة اسرائيل بالإجماع ،حتى الدول الاعضاء المتعاطفة معنا ومنها الصين ،التي لها مصلحة مباشرة في ذلك لأن الشركة التي تصنع الاجهزة المفجرة هي في تايوان ،وللصين مصلحة في توجيه اي اتهام فيه لوم للحكومة التايوانية التي لا تقوم بواجباتها في مراقبة ما يُنتج وما يُصنع على اراضيها وتحت اشرافها .المفترض انطلاقاً من مبدأ السيادة القانونية والواقعية الشاملة .
تابعت موضوع الشكوى اللبنانية واسباب رفضها التي لخصها مجلس الأمن بأنها لا تستند الى اثباتات مطلوبة لكي يجري النظر فيها .
كما تبين ان الشكوى اللبنانية جاءت انشائية ولا تتضمن اية قرينة مثل ابراز الدليل على بلد منشأ الاجهزة، وطريقة الشحن وتفاصيل اقرار الصفقة بين البائع والمشتري ..اي جاءت شكوانا خلوّاً من الادلة وهذه كانت ثغرة كبيرة نَفَذَ منها العدو بسهولة واريحية .
سبق وكتبت ثلاثة مقالات حول الموضوع نشرتها على صفحة الشراع وقد تناولت في واحد منها
الدور المطلوب القيام به من قبل وزارة الخارجية اللبنانية ،وكيفية استغلال كل المعطيات عبر بعثاتنا الدبلوماسية في الدولة التي قد تكون شهدت فصولاً من عملية انتاج وتسويق اجهزة Pagers وطبعاً تسفيرها وتوضيبها وتخزينها ونقلها …
عندما ذكرت ذلك كنت اظن ان وزير الخارجية عبدالله بو حبيب سيقوم بما يلزم خصوصاً وانه سفير سابق وقد عينه في ثمانينيات القرن العشرين الرئيس امين الجميل سفيراً في العاصمة الاميركية واشنطن دي سي ،من خارج ملاك وزارة الخارجية آنذاك ،ولهذا السبب فإنني مندهش للخفة التي تعامل بها مع قضية بهذا الحجم ،لأنه من المفترض ان يعلم ان طلب الإدانة لا يمكن ان يُعمل به ان جاء عارياً ومجرداً من البديهيات ،وقد جرى رفضه لأنه لا يذكر ولا يتضمن مستندات تشير الى الشركة المصنعة، او الى الطريقة التي تمت فيها الصفقة فقد طالب ممثلو الدول الاعضاء ببعض المستندات
اللازمة وهنا يحضرني سؤال :
هل يا ترى قام الوزير ابوحبيب بالتنسيق مع المعنيين في الحزب قبل الإيعاز الى بعثتنا في الأمم المتحدة بتقديم الشكوى سعياً لإدانة اسرائيل ؟؟
وهل كان من شأن ذلك احتمال كشف السرية عن واحد من نشاطات حزب الله ،وبالتالي جاء الطلب اللبناني ضعيفاً مما سهّل على اسرائيل ورعاتها الدوليين رفضه ؟؟ فإذا حصل ذلك يكون من واجبي ومن حق الوزير عبدالله بوحبيب علي ان اسحب من
كلامي عبارات اللوم او العتب .
اما الأمر الآخر الواجب النقاش فيه فهو يتعلق بما صدر عن حزب الله وقد أطلعنا عليه عبر وسائل التواصل والإعلام ،بأنه نصب شركاً لأحد القادة فيه المشكوك بأمرهم واوقعه فيه ،بعد ان اوهمه ان الحاج علي كركي موجود في احد ابنية الضاحية وقام العدو بقصفه بعد ساعات قليلة مما سمح بتوجيه التهمة له بضلوعه في العمالة للعدو .
طبعاً اسرائيل لم تعلق على الموضوع ،ولكنني اعتقد انه اذا صحت الرواية فسيكون لها وجهان :
اولهما :
قد يتوقف العدو عن تنفيذ الإغتيالات لفترة زمنية معينة لإيهام حزب الله ان جاسوسه الواقع في الفخ كان يزوده بكافة المعلومات التي مكنته من قتل هذا العدد من قادة الحزب الميدانيين ،وبالتالي يتوقع العدو ان يتبع ذلك حالة استرخاء نسبي بين قيادات الحزب قد يتأتى عنه تخفيف الإجراءات الأمنية الوقائية ويكون ذلك فرصة له للضرب من جديد .
ثانيهما :
هنالك سبب احتمالي آخر لتوقف الإغتيالات وهو حماية الجواسيس الآخرين المحتملين ( اضافة لإيهام الحزب ان يد الموساد قد قُطعت )….
لا اعتقد ان جاسوساً واحداً قادراً لوحده على تزويد العدو بمعلومات دقيقة تفضي الى قتل هذا الكم من المقاتلين … مهما ارتفع شأنه وعلت
مرتبته، فمن المستحيل ان يعرف كل شيء كمثل ان فلاناً موجود في البقعة او البناية كذا ،او انه على دراجة او داخل منزل او يمشي على قدميه
ومن المستحيل ان يكون له عيون وآذان تغطي المساحات الشاسعة الممتدة من ايران الى العراق الى سورية وانتهاءً بلبنان ..
هذا بدوره يقودنا الى احتمالين ودائماً اذا كان هنالك رأس كبير في المصيدة :
الأول :
ان يكون للجاسوس شركاء اي شبكة من العملاء كان يديرهم وينسق نشاطاتهم .
الثاني :
ان يكون " ذئباً وحيداً " بالفعل وليس لديه شركاء لأننا ندرك ان علاقة الجاسوس او العميل تكون عامودية مع مشغله الاسرائيلي ولا يتم تعريفه بسواه، ولا بأية صورة من الصور ،لان بديهيات العمل المخابراتي تحظر العلاقات الافقية بين العملاء الا في حالات جد استثنائية ،عندما تتطلب طبيعة المهمة المنوي تنفيذها تضافر جهود عدة عملاء في بقعة العمل .
يمكن بل يُرجح ان يكون العدو قد جند عملاء له لا يعرفون هويات بعضهم ،وهذا مهم جداً حتى اذا سقط احدهم يتابع الآخرون ويبقى الضرر محصوراً في جزء من الشبكة وليس برمتها .
الذي نعرفه ان المشغل الإسرائيلي يقوم بتلقي الداتا من عملائه ويرفعها الى رعيل أعلى يغربلها وينسقها ،ثم يرفعها بدوره الى رعيل اعلى ليقاطعها ويتأكد من صحتها قبل استثمارها …اي التنفيذ الذي عوّدنا العدو ان يكون بواسطة اف ٣٥ التي تطلق قذائفها من علو شاهق ومن مسافات بعيدة قد تتجاوز الخمسين كلم او درون او حتى بالطوافات المقاتلة ( اغتيال السيد عباس الموسوي في تفاحتا - الزهراني عام ١٩٩٣ )
يبقى الحديث عن دور الحرب السورية في الإنكشاف الجزئي للحزب ،وقد تكون الاغتيالات واحدة من مفاعيله ولكن هذا الموضوع لا يمكن ان يُعالج علمياً في هذه العجالة .
في الختام أذكّر ان الموساد قتل ممثل منظمة التحرير الفلسطينية في فرنسا عام ١٩٧٢ د محمود الهمشري بواسطة تفجير هاتفه المنزلي ..
تلقى اتصالاً فلما رفع السماعة وتلفظ بعبارة " هالو " انفجرت وتطايرت اجزاء دماغه …
كانت ابنته ابنة العشر سنوات هناك
ايضاً وايضاً شاركت في الجريمة سيدة حسناء يهودية من ايطاليا …
انه مجرد تحليل وقد سبق وقلتها واكررها ،ولكنني اتوسل هنا التحوير والقياس والتماثل لأقول :
للمحلل اذا اصاب اجران واجر اذا
أخطأ … وليكن الرب في عوننا .
الشراع