إقرأ..
بقلم العميد غسان عز الدين
الشراع 25 ايلول 2024
" إقرأ بإسم ربك الذي خلق …"…
اولى كلمات الله تعالى نقلها الملاك جبريل الى الرسول الاكرم، وهو في حالة تأمل في غار حراء …
اكمل الرسول (صلعم ) الرسالة واوصانا بالعلم والتفكر .. ومن احاديثه المتفق عليها ان " اطلبوا العلم ولو في الصين " .. كانت الصين في عصره تقع في ابعد نقطة عن الجزيرة العربية ،وكأني بالرسول (صلعم ) يقول اطلبوه ولو كان في آخر المعمورة .. او كأنه يقول بلغة اليوم : اطلبوا العلم ولو كان في كوكب المريخ …
ثم يقول عليه افضل الصلاة :
" قيدوا العلم بالكتاب " …
ليس عبثاً ان تكون البداية " إقرأ "
وليس عبثاً ورود عشرات العبارات في القرآن الكريم تدعونا للتعقل والتعلم والتفكر والتأمل …
" وافتكروا يا اولي الألباب .. واتعظوا .. وهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ؟؟ …"
هل افتكرنا وتعلمنا واتعظنا وطلبنا العلم ولو في آخر المعمورة ؟؟؟
هل قرأنا وتثقفنا وقيّدنا العلم بالكتاب ؟؟
ام عملنا بعكس كل الأوامر الإلهية والنبوية وضربنا بها عرض الحائط ؟؟
الجواب يأتينا مِن مَن لم نزودِ .. يأتينا من منظمة دولية تُعنى بالثقافات والفنون والآثار والتراث الإنساني .. من منظمة "اليونيسكو" التي بشّرت أمتنا العربية العظيمة خير أمة أُخرجت للناس التي توالدت وتكاثرت وما تزال تفعل حتى وصل عددها الى ما يربو الأربعماية مليون خليقة، ان نسبة من
يقرأ منهم لا تتجاوز الواحد بالمئة والرقم هو 0,9
بالتحديد اي بعملية حسابية بسيطة نضرب الرقم بأربعة فيطلع معنا ان مستهلكي الكتب من العرب يبلغ 3,6 مليون من اصل 400 مليون !!! والكارثة
الأكبر تكمن في انتشار الامية في صفوف الأمة العظيمة ،واذا تبنينا نظرية المؤامرة التي نبرع في
الإختباء خلفها ونجعل منها الشماعة التي نعلق عليها كل اثوابنا الوسخة ومباذلنا وتكاسلنا وتواكلنا لتبرير
قلة خاصيتنا وجهلنا وضياعنا ،وعدم الرغبة في الإنعتاق من عبودية الجاهلية، وقلنا ان الامبريالية والصهيونية والاستعمار يسيطرون على "الأونيسكو "
التي تنشر احصائيات كاذبة من عندياتها .. فلنتوكل على الله تعالى ولنتوجه الى منظمة من منظمات اهل الضاد النادرة ندرة التبر في الجداول .. ولنسأل
" المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم "
واسمها المختصر : " منظمة الألسكو "
وهي نسخة مصغرة عن الاونيسكو ..ماذا لديها بهذا
الخصوص فتجيب :
انه وفقاً للإحصاء الذي اجرته في عام ٢٠٢١ فقد
تبين لها انه هناك 69,4 مليون شخص من الفئة العمرية من سن الخامسة عشرة فما فوق لا يقرأون ولا يكتبون ( الخطأ الشائع انهم أميّون )وان الأميين العرب يشكلون ٩ بالمئة من أميي
الكرة الأرضية !!!!
اما التقرير الاقتصادي العربي الموحد للعام نفسه اي ٢٠٢١ فيقول ان عدد "الأميين" العرب يقارب ٨٠ مليون وان نسبتهم تتفاوت من بلد عربي لآخر، ولكن الأمر الصادم الذي لا يتوقعه كثيرون ان العراق يستحوذ على النسبة الاعلى من "الأميين" الذين هم فوق سن الخامسة عشرة وهي 49,9 بالمئة !!! .. المرتبة الثانية في مراتب "الأمية "هي لموريتانيا بنسبة 46,5 بالمئة والمرتبة الثالثة كانت لليمن بنسبة 45 بالمئة ثم جزر القمر بنسبة 41,2 بالمية في المرتبة الرابعة !!!!
هذه احصاءات عربية قحّة !!!
تعلمنا من التاريخ انه اذا اردت ان ترفع شعباً فأبدأ
بنشر التعليم بين ظهرانيه، واجعله الزامياً وعزز وضع المعلم لأنه كالخميرة التي بدونها لا يختمر عجين ولا يرفخ ولا يُخبز ..
ولننظر الى اوضاع المعلم في البلدان المتخلفة ،ولنقارنها بأوضاع مثيله في البلدان المتحضرة والمتقدمة ؟؟
هذا ليس كلاماً إنشائياً وليس تنظيراً لا طائل تحته
بل هو كلام حق يُراد به حق ،ولنا في التجربتين
الصينية والماليزية المثل الواجب احتذاؤه ..
ويمكننا اضافة سنغافورة لتكون المثل الثالث ..
ولكن من العملي ان نفصّل التجربتين المذكورتين
مع شرح مقتضب عن سنغافورة، البلد -المدينة نظراً
لصغر مساحته الذي كان حتى سبعينيات القرن العشرين بلداً فقيراً يعتمد سكانه على الصيد البحري البدائي ،حتى قيّض له القدر رئيساً فذاً
يدعى لي كوان يو الذي حوّل مستنقعات الجزيرة التي كانت تعجّ بالحشرات والبعوض والملاريا الى جنة مالية بحيث اصبحت سنغافورة المركز الاقتصادي والمالي الاول في الشرق الأقصى ،
والسر كان في التعليم .. ادرك لي كوان يو أن
الإهتمام بمحو الأمية ونشر التعليم بكافة مراحله هو المفتاح الوحيد للولوج الى الحداثة .. حكم الجزيرة لثلاثين عاماً وجعل منها جنة مالية يتمتع شعبها
بالرفاهية والبحبوحة .. صفر "أميين وأمييات ".
في ماليزيا سلك مهاتير محمد مسلك لي كوان يو ،
واولى التعليم كل تركيزه واهتمامه وصنع المعجزة الماليزية ساعدته عدة عوامل اولها ثقافته الغربية
وشفافيته ونزاهته ،كما لعبت مساحة البلاد الشاسعة ومواردها الطبيعية دوراً رئيساً في تسريع عجلة التطور والتقدم ،لتنعم البلاد بالبحبوحة والرخاء ولكنه قال في احدى المقابلات مع وسيلة اعلام اميركية :بأن سرّ انبعاث النمر الماليزي كان في الاجراءات الثورية التي اتبعها لتعميم التعليم ،اضافة الى مكافحته الفساد وتعديل القوانيين الجزائية لتصبح اكثر ملاءمة وأشدّ ردعاً ،وفرضه قانون الشفافية والمحاسبة على الجميع بدون استثناء .
اما ماو تسي تونغ فقد كان الثورجي الذي يُحتذى ..
قاد ماو تسي تونغ ثورة مسلحة ضد النظام بقيادة الجنرال تشاي كن تشك ،بين العامين ١٩٤٨ و١٩٥٠ انتهت بإنتصاره وهروب الجنرال الى جزيرة فورموزا ،واعلن من تايبه قيام الصين الوطنية التي صارت بعدها تايوان .
كانت الصين تعاني من الفقر والتخلف على كافة المستويات والامية تكتسح شعبها والمجاعات تحصد الملايين … فكيف واجه ماو كل تلك المعضلات ؟؟
اعلن عزل الصين عن مشاكل العالم ،ووضع خططاً لنشر التعليم وجعله الزامياً وبدأ بربط كل مناطق الصين بشبكة من الطرقات والجسور وسكك الحديد ،التي كانت بمثابة الشرايين الرافدة للحياة ..
كان جزءاً من الضريبة التي تترتب على المواطنين يُستوفى عبر عملهم للصالح العام او الخدمة المدنية الإلزامية ،او كما نسميه نحن بالسخرة وهو غير ذلك طبعاً في الثقافة الصينية .
اهتم ماو بتطوير وسائل الأنتاج ومحو الأمية ،فالفلاح الجاهل والأمي لا ينتج كالفلاح العارف والمدرب .
والأهم استحدث قانون اعدام الفاسد برصاصة في مؤخرة الرقبة .. أياً يكن ذلك الفاسد (أكان موظفاً حكومياً او فلاحاً يغش او عاملاً في مصنع ) ..
قانون رصاصة الرقبة ما يزال سارياً حتى اليوم .
لن اتحدث عن اخفاقات ومظالم الثورة الثقافية التي اعلنها عام ١٩٦٦ ،
وكذلك لن اغوص في خصوصيات ماو المدمن على التدخين وشرب الكحول ومضاجعة النساء ،حتى قيل انه لم تزمط فنانة صينية من جنون شبقه الجنسي .. بل قيل فيه اكثر من ذلك فأتهم بأنه كان
ذا مزاج غريب يهوى مراودتهن عن أنفسهن ،بعد ان يمنع عنهن الإستحمام والتعطر والتبرج كما كان يحظر عليهن ازالة الشعر الزائد !!!! كان قمة في البوهيمية والعبثية والتطرف الشهواني !!!
لا ادري ان كان ذلك كله مجرد شائعات قذفته بها دوائر استخبارات غربية لتشويه سمعته ،او انها مجرد خبريات من صنع خيال البعض ،خصوصا ًخلال الثورة الثقافية التي اطلقها وبلغت ذروتها في العام ١٩٦٦ عندما اجبر كبار مسؤولي الدولة مع زوجاتهم على كنس الشوارع وتنظيف الساحات العامة .. كذلك عندما جرد ضباط الجيش الأحمر من رتبهم واعتبر انهم مثل الجنود والتمايز الفوقي ممنوع لأنه من افرازات البرجوازية …الخ
امور غريبة من خارج المألوف اقدم عليها ماو ولكن كل تلك السلبيات
لم تحل دون ارسائه مداميك دولة كبرى ..
تعمدت عدم تفصيل تلك الخصال فيه ،على الرغم من ان معظم الناس تتحرق شوقاً للوقوف على الجوانب الشخصية المخفية لكبار الشخصيات ،التي ساهمت في صناعة التاريخ فالتقييم النهائي يكون مرهوناً بالنتائج وخواتيمها
وانعكاسها على صيرورة شعب كامل بغض النظر عن الحياة الشخصية لعظمائه .. على الرغم من كل الهنّات والعثرات يُطرح السؤال :
اين هي الصين اليوم ؟؟ انها الاقتصاد الثاني بعد الولايات المتحدة الاميركية عالمياً.
اترك للقاريء ان يستمر في القراءة وبعدها يقارن ويسأل لماذا ؟ لماذا نحن اهل هزيمة بين الورى ؟؟
لماذا نحن نرجع القهقرى ،وغيرنا من الأمم الحيّة تسجل انتصارات وابداعات ؟؟؟
لماذا نصف الشعوب العربية أميّة وكذلك هي حال الشعوب الاسلامية ؟؟
من ايّ رحم يتوالد تخلفنا المتمادي ؟؟
لماذا القاعدة ؟؟
لماذا داعش والنصرة ؟
لماذا طالبان ؟؟
لماذا تفرّخ بين ظهرانينا الاصوليات المتخلفة، وتنبت معها مشاريع حروب الدم التي لا تتوقف ؟؟؟
الانجاز الاستراتيجي يكون عندما تصبح الدولة حاجة اقليمية على صعيد الجغرافيا المحيطة او التّوية ،ثم تصبح حاجة عالمية والأخيرة مفتاحها الاقتصاد والمال والتقدم التكنولوجي..
هذا ما فعله ماو : بنى سكة الحديد ووضع عليها القطار، واطلقه ثم أكمل من جاء بعده المشوار .. وما برح القطار الأحمر يتسارع بعد ان وُضعت الايديولوجيا في احدى مركباته وأُغلق عليها اقساحاً في المجال لتبني شعار غربي خالص :
" دعه يعمل .. دعه يمر .."
الشعار الشهير الذي اطلقه فيلسوف الرأسمالية في القرن الثامن عشر آدم سميث ،لتحرير الاقتصاد من رقابة الدولة وما سُمي لاحقاً بإقتصاد السوق ..
لا يمكن لدولة متخلفة تكنولوجياً ان تسود وتسيطر وإن حصل وسيطرت فتكون سيطرتها مؤقتة ،وتزول عند هبوب اول عاصفة معاكسة ،لأن التقدم الصناعي والاقتصادي هو من يمدّ اي منظومة سياسية بجذورها التي تضرب عميقاً في الأرض وتمنحها ثباتها وقوتها ومِنْعَتَها .
كيف تهزم اسرائيل امة العرب ؟؟
كيف تسيطر وتدمر وتذبح وتغتال وتفعل ما تشاء من دون رادع او وازع ؟؟؟
هل بسبب الدعم الاميركي لها فقط ؟؟ قطعاً لا على الرغم من اهميته الكبرى ولكنها لو لم تنجح في تبني التكنولوجيا الغربية والمساهمة في تطويرها لما كانت لها القدرة على السيطرة والتجبر .
الصهاينة اغتصبوا فلسطين وأقفلوا على حالهم ،وصنعوا القنبلة الذرية واستوردوا التكنولوجيا الغربية وطوروها .. وعندما شعروا بقوتهم ازاء انظمة وشعوب متخلفة اطلقوا حروبهم واحتلوا الاراضي وصار الناتج المحلي عندهم اكثر من ٥٠٠ مليار $ …..
هذا ليس تفخيماً ولا إطناباً بعدونا
الأبدي ،بل مجرد مقارنة لا بد منها
لحثّ مجتمعاتنا للتوثب والإنطلاق
فكفاها نوماً وغطيطاً ..l
امة العرب تعيش على الامجاد الغابرة فَتُسْكِرَها الاساطير الممزوجة ببعض الحقيقة ويطلق جهلتها كما منافقوها الشعر والزجل في استحضار زمن الامبراطوريات التي سادت ثم بادت … مجرد كلمات تداعب الإيغو المتخيل والمنفوخ (الأنا ) ….
ولكنها لا تصنع امبراطورية جديدة ولا نهضة جديدة ولا مجداً تليداً جديداً … من يصنعها هو من
يصلح نفسه اولاً .. هو من ينجح في اعطاء المثل
ويكون قدوة تُحتذى في التنمية والاصلاح وتحقيق الرخاء والبحبوحة لشعبه ….
الأفكار العظيمة لها اجنحة ..تطير عابرة كل العوائق الطبيعية وخلافها …وليست بحاجة لميليشيات ومنظمات تكلف راعيها مليارات الدولارات …لكي تترسخ في وجدان الشعوب .
الأفكار لا تعترف بالحدود ولا بمكاتب الهجرة ولا بزنازين العسس .. انها كالروح تحلق ولا تحلّ الا
في الجسد المستحق والمناسب .