ما فتئ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف منذ عام 2017 ينكران على الولايات المتحدة الأمريكية “خفض العتبة النووية”، وهما يريدان بهذا المصطلح رمي واشنطن بأنها لا تعبأ بالخطر الجسيم الذي يُحْدق بالعالم عندما تريد مشاركة دول أخرى في استخدام السلاح النووي، وخاصة الدول التي يتم تخزين الرؤوس النووية على أراضيها، وذلك تعريضاً بدول حلف شمالي الأطلسي (الناتو) التي توجد لديها منشآت التخزين.
وجريًا على عادة روسيا فإنّها لا تنكر على أحدٍ شيئاً إلا ذهبت إلى فعل ذلك أو أشدّ منه. فلم يزل بوتين ينكر على دول الغرب التدخل في ليبيا وسورية عام 2011 – وهو حق – فذهب هو إلى أشدّ منه فتدخل في سورية وليبيا ومالي والنيجر وبوركينا فاسو وموزمبيق وجمهورية أفريقيا الوسطى. كما أنّه لم يزل ينكر على الولايات المتحدة الأمريكية غزو العراق عام 2003 – وهو حق – فذهب هو إلى غزو أوكرانيا عام 2022.
ولعلّ روسيا قياسًا على ما ذكرنا فإنّها ستكون أول من تذهب إلى كسر العتبة النووية في القرن الحادي والعشرين، وتنشر من الأخطار والعواقب الاستراتيجية ما هو أعظم مما نشرته الولايات المتحدة الأمريكية حين ضربت هيروشيما وناغازاكي في اليابان بالسلاح الذرّي عام 1945.
وكأنّ الرئيس الروسي بوتين حين صادق على العقيدة النووية الروسية المعدلة في مرسوم رئاسي في 19 نوفمبر 2024 قد أصدر أمرًا عملياتيًّا باستخدام السلاح النووي وكسر العتبة النووية التي أنكرها سابقًا على الولايات المتحدة. لأنّ الناظر في هذه العقيدة النووية لا يرى فيها ما جرت عليه العادة في العقائد والاستراتيجيات النووية أو التقليدية من كلامٍ عام شامل وعبارات فضفاضة وديباجة واسعة تحتمل الكثير من الوجوه والتأويل. بينما ذهبت روسيا في بنود هذه العقيدة إلى حالة واحدة خاصة هي أوكرانيا، وهي أمر عملياتي يقول بأنّه إذا استخدمت أوكرانيا صواريخ ATACMS الأمريكية التي أجاز الرئيس الأمريكي جو بايدن لأوكرانيا استعمالها – بعد امتناع – أو غيرها من الصواريخ البريطانية والألمانية والفرنسية وضربت العمق الروسي فإنّ الجيش الروسي سيضرب أوكرانيا وحلفاءها بالسلاح النووي.
ولعلّ الباحث الاستراتيجي يجد في العقائد والاستراتيجيات النووية والكلاسيكية للدول الأخرى تأويلًا ومخرجًا ومتّسعًا للخروج من الأزمات دون اللجوء إلى استخدام السلاح النووي حينما تتعرض الدول لهجوم كبير من غيرها بسائق من الغموض والصبغة العامة غير المحدّدة للصياغات التي كتبت بها تلك العقائد.
إلا أنّ الباحث في العقيدة الروسية النووية المعدلة لا يجد فيها المخرج والتأويل الذي يجده في غيرها.
وعليه فإن الرئيس بوتين قد وقع في كيد الرئيس الأمريكي بايدن والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، وذهب إلى إصدار أمر عملياتي باستخدام السلاح النووي قريبًا في ساحة المعركة في أوكرانيا.
إن النخبة الليبرالية الحاكمة في الولايات المتحدة وبعدما خسرت الانتخابات الرئاسية والعامة في 5 نوفمبر 2024 وفاز الرئيس دونالد ترمب واليمين الجمهوري، ومعها النخبة الليبرالية الحاكمة في “الناتو” ستقوم متمالئة مع الرئيس الأوكراني زيلينسكي بإغراق روسيا في حرب نووية في أوكرانيا قبل تنصيب ترمب رئيسًا للولايات المتحدة في 20 يناير 2025.
إنّ هذه النخبة تعلم يقينًا بأن ترمب وإدارته من المحافظين الجدد (حزب الشاي، تجمع الحرية) سيذهبون إلى إيقاف تدفق الأموال والسلاح من الولايات المتحدة إلى أوكرانيا ودفع الطرفَيْن الروسي والأوكراني إلى التفاوض وعقد معاهدة سلام لا تضمن هزيمة روسيا.
وعليه فإنّ هذه النخبة ستؤجّج الحرب في أوكرانيا خلال المدّة الباقية من حكم إدارة بايدن، وذلك بإرسال الأموال وأنواع الأسلحة التي أقرّها الكونغرس وامتنعت إدارة بايدن عن إجازة كييف باستخدامها في العمق الروسي حتى لا تستفز موسكو.
وستدفع إلى قصف العمق الروسي وضرب موسكو وغيرها من المدن وضرب المنشآت والبنى التحتية العسكرية والمدنية (الطاقة، المطارات، المرافق الحيوية،…)، مما يجلب ردًّا نوويًّا روسيًّا وفق العقيدة الروسية الجديدة.
وتقوم غاية إدارة بايدن وحلفائها في دول “الناتو” بإحباط سعي إدارة ترمب القادمة وخطتها في إيقاف الحرب في أوكرانيا بدفع الوقائع التكتيكية والاستراتيجية في ساحة الحرب إلى (نقطة اللاعودة) وإلى درجة من سعير المعركة وشدّة القتال بحيث يظهر كلّ سعيٍ من إدارة ترمب لإيقاف المساعدات العسكرية عن أوكرانيا ضعفًا أمريكيًّا وخيانة للهيبة العسكرية التاريخية الأمريكية، وانهزامًا لواشنطن أمام موسكو، فلا يجد عندها ترمب مخرجًا ومتسعًا للحلِّ مع روسيا بالتفاوض، وإنما بمزيد من تقديم المساعدات المالية والعسكرية لأوكرانيا.
ومن أعظم عواقب العقيدة النووية الروسية المعدلة خطراً (تطبيع استخدام السلاح النووي في الحروب)، فتلجأ كل دولة نووية إلى استعمال سلاحها النووي كلما دخلت حربًا، فيغدو ذلك عادة وأمرًا طبيعيًّا مما يكسر العتبة النووية أمام الدول التي تملك هذا السلاح، فتصبح الأسلحة النووية كالأسلحة التقليدية في الحروب.
ومن عواقبها أيضا حدوث سباق عارم بين البلدان التي لا تملك السلاح النووي لامتلاكه بكلِّ وجهٍ ووسيلة، فينتشر هذا السلاح انتشارًا واسعًا بخلاف مقصود وغاية “معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية” التي عقدت عام 1968 والبروتوكولات الملحقة بها فيما بعد، بحيث لا يبقى معنى لوجودها.
وستقوم روسيا بافتتاح العصر النووي في العالم والتاريخ وقتل ملايين الناس، كما افتتحت الولايات المتحدة العصر الذري في القرن العشرين وقتلت مئات آلاف البشر.