الزواج المدني في المشاورات الحكومية / كتب القاضي د. محمد نقري
الشراع 23 كانون الثاني 2025
تتناول الاخبار الواردة من مشاورات تأليف الحكومة العتيدة، أن رئيس الوزراء المكلف نواف سلام يتحدث في جلساته عن نيته في السعي لإقرار الزواج المدني وإحالته الى مجلس النواب لتشريع قانون موحد للأحوال الشخصية. لا شك بأن هذا القرار سيواجه باعتراض شديد من قبل الرافضين لإقراره من مسلمين ومسيحيين لأسباب متفاوته ومتنوعة لدى كل الفريقين. كما توجد أسباب متنوعة يسعى اليهاأنصار الزواج المدني لإقصاء الزواج الديني وإلغاء المحاكم الشرعية والروحية. السؤال الذي يتبادر الى الذهن بما أن نواف سلام من القانونيين الحذقين المطلعين على التشريعات المدنية المتعلقة بالأحوال الشخصية : هل أشبعت فضوليته القانونية دراسة القوانين المطبقة في المحاكم الشرعية، حتى لا أتجاوزها الى المحاكم الروحية. بعض الملاحظات التي أرغب في توضيحها في هذا المجال :
• من الناحية الشكلية : هناك تنافر في مفردة : "قانون الأحوال الشخصية الموحد". إذ أن مصطلح الأحوال الشخصية والذييعود تاريخياً الى فترة ما بعد انحلال الامبراطوية الرومانية واستقلال الدول الأوروبية عن بعضها البعض حيث التجأ فقهاء القانون الروماني لمعرفة القانون الواجب التطبيق في البلاد المستقلة، الى التمييز بين نوعين من القوانين : الأحوال أو الحقوق العينية وهي التي تبقى حبيسة الأماكن التي توجد بها فتطبق عليها القوانين الداخلية لأماكن تواجدها، والأحوال أو الحقوق الشخصية وهي التي تنتقل مع الشخص في الأماكن التي ينتقل اليها أو يستقر فيها، فتبقى حالته لصيقة به أينما انتقل وارتحل واستقر بكونه متأهلاً أم أعزبا أباً أم أماً ...الخ. انطلاقاً من هذه الحيثية يطلق مصطلح الأحوال الشخصية (بما فيه المصطلح المستخدم في القانون الدولي الخاص) على مجموعة التشريعات القضائية المتعددة التي تخص العائلة في البلد الواحد والتي تطبقها الدولة على مواطنيها المنتمين الى أديان وطوائف مختلفة حسب انتماءاتهم الدينية والطائفية ، بينما يطلق مصطلح قانون الأسرة أو العائلة في المجتمعات الآحادية التشريعات القضائية.
• الملاحظة الأخرى التي تستوجب الإشارة اليها وهي تعلق قوانين الأحوال الشخصية أكثر من غيرها من القوانين الأخرى بالنظامالسياسي للدولة والذي هو بدوره يعتبر مبدأً من المبادئ الفوق دستورية مثل تحديد نظام الحكم بالجمهوري او الملكي أو الإتحادي. فلا يكون الموضوع متآلفاً دستورياً إذا طبق الزواج الديني في دولة علمانية ولا الزواج المدني في دولة ذات نظام ديني أو طائفي.
• مسألة طرح مسألة الزواج المدني في لبنان بمعزل عن تغيير طبيعة نظامه الطائفي هو طرح مخالف للمبادئ والأسس التي قام عليها الدستور اللبناني وهو أشبه ما يكون متعارضاً مع المبادئ والأسس الفوق دستورية.
• إن النظرة القانونية لموضوع إقرار الزواج المدني، يتعارض مع إطار النظام التعددي في لبنان. ولا يعتبر إجراءً مشروعاً إلا من خلال تغيير النظام اللبناني وقيامه على أسس دستورية جديدة تجعل من نظامه نظاماً علمانياً صرفاً، وليس من خلال تعديل قانوني يصدره مجلس النواب أو المراسيم الحكومية· فنظام الأحوال الشخصية في لبنان يستمد مشروعيته من الميثاق الوطني ومن نص المادة التاسعة والتاسعة عشر من الدستور اللبناني وهو يعتبر جزءاً من النظام العام ومن النظام السياسي الذي يصنف من الأنظمة المتعددة الطوائفMulticonfesionnel.
• إن المعطيات القانونية والتاريخية ومن ضمنها تلك التي تعلقت باحترام نظام الأحوال الشخصية في لبنان هي التي أدت الى نشأة دولة لبنان وهي التي أسست نظامه التعددي الطائفي والتي قام على أساسها الدستور اللبناني. تماماً كما هي حال المبادئ التي قامت عليها الثورة الفرنسية بحيث اعتبرت هذه المبادئ العلمانية التي تبنتها فرنسا مبادئ فوق دستورية·
• مشروع تعديل قانون الأحوال الشخصية في لبنان لا يمكن أن يطرح كأي تعديل قانوني في مجلس النواب وإنما يتعين على أصحاب هذا المشروع العلماني على افتراض أنهم أصبحوا الأغلبية في لبنان اتباع الإجراءات التي تتخذ لتعديل النظام الطائفي وتحويله الى نظام علماني.
• هذه الإجراءات تشابه من حيث الفرضية البحتة تعديل مبدأ أساسي داخل الأنظمة العلمانية كإقرار الزواج الديني إلى جانب الزواج المدني. فعلى سبيل المثال لو تقدمت الكنيسة بمشروع مماثل في دولة ذات نظام علماني كفرنسا يعترف بالمفاعيل القانونية للزواج الكنسي أمام الدولة، فأول ما سيتبادر الى ذهن الخبراء الدستوريين والنواب الفرنسيين في الرد على هكذا مشروع هو بأن النظام العلماني لا يسمح بهذا الطرح، فالمبادئ الأساسية والفلسفية التي قامت عليها العلمانية تعتبر فئة قانونية مميزة تنتمي الى فئة المبادئ فوق الدستورية، وبالتالي فإن وضع مثل هذا الاقتراح لا يمكن ادراجه تحت إطار التعديلات المتبعة لتعديل القوانين والدساتير·
• إن بعض الدساتير قد أقرت عدم قابلية بعض المبادئ القانونية للتعديل بالطرق الدستورية المعتادة من ضمنها : مبدأ الفصل بين السلطات في الدولة، مبادئ العلمانية (والتي من ضمنها مبدأ الفصل بين الدين والدولة، والزواج المدني الإلزامي)، مبادئ الأنظمة الديمقراطية والجمهورية، المبادئ التي تقوم عليها الأنظمة الفدرالية، مبادئ الأنظمة ذات النظام الملكي، بحيث يمكن القول بأن هذه المبادئ فوق الدستورية هي عبارة عن مجموعة من القواعد التي تضمن استقرار الأنظمة التي نشأت وتأسست عليها·
• إن قراءة سريعة لمقومات النظام اللبناني تثبت انتمائه إلى فئة مميزة وخاصة جداً من الإنظمة السياسية، وكما يقول الدكتور ادمون رباط بأن تميز هذا النظام يجعل منه حالة فريدة من نوعه sui generis من حيث تصنيفه كنظام متعدد الطوائف، وهو نوع مستقل عن بقية الأنظمة السياسية وله خصوصيته ومكانته ومبادئه من بين باقي الأنظمة السياسية، فطبيعته القانونية القائمة على الإعتراف واحترام أنظمته في الأحوال الشخصية تجعل من هذا النظام أشبه ما يكون إلى المبدأً فوق دستوري منه إلى فئة القوانين الصادرة عن مجلس النواب. هذا الإعتراف أكدته الإتفاقيات التاريخية منذ الفتح العربي للبنان مروراً بالأمويين والعباسيين والعثمانيين، وصرحت به مواثيق عصبة الأمم والأمم المتحدة بل وقامت بالتذكير بمبادئه الثابتة في كل مرة حاولت سلطات الإنتداب الفرنسي تغيير واقعه عن طريق فرض الزواج المدني، بل وعمت المظاهرات المناهضة له من قبل الطوائف اللبنانية وخاصة الإسلامية، وقد رضي المسلمون في ذلك الوقت بالدخول في منطق الدولة واعتبارهم طائفة كسائر الطوائف بشرط احترام قوانين احوالهم الشخصية وعدم المساس بها، فلا يكون تعديل نظامه ممكناً دون المساس بجوهر التكوين السياسي والقانوني للبنان
هذا الخوف والحذر ما زال الى الآن هو سيد الموقف في الأوساط الإسلامية من محاولة سلخ آخر معقل للشريعة الإسلامية في مسائل الأحوال الشخصية وجعله ضمن اختصاص المحاكم المدنية. قد تكون فكرة الزواج المدني للوهلة الأولى جذابة ومواكبة للتقدم ولمتطلبات العصر، ولكن خطرها كما يقول المسلمون في ارتداداتها المستقبلية على صعيد التماسك الأسري والإجتماعي. لن تقف هذه التغييرات على عتبة الزواج المدني بل ستتعداه لاحقاً وحتماً على صعيد التكوين الأسري والمفهوم الشرقي للعائلة بمكونه المسيحي الإسلامي. منذ عدة سنوات كانت المسألة المطروحة بقوة في البرلمانات الاوروبية هو حذف لكلمة الأب والأم في القوانين والأنظمة بحيث تحل محلهما كلمة الأهل (1) و (الأهل2)، وذلك كنتيجة حتمية لإقرار زواج المثليين، القائم على فكرة الحرية الشخصية. والآن وقد أقرها المشرع الفرنسي فلم يعد لديهم غريباً أن يكون للطفل عدة آباء يتواكبون على تربيته عند كل تغيير لمزاج والده الطبيعي في اختيار الشريك الذكوري في حياته بعيداً عن الحاجة الفطرية للطفل في الإحساس بدفء وحنان الأمومة، وكذلك الأمر بالنسبة لوجود إمرأتان متزوجتان من بعضهما البعض وترغبان في إنجاب طفل أو أكثر فتحبل إحداهما من متبرع مجهول فتلد طفلاً يتعهدانه في نفس الوقت بعيداً عن الحاجة الفطرية للإحساس بالرعاية الأبوية. لقد بات رائجاً في مثل هذه المجتمعات مفاهيم متنامية ومتطورة عن الحرية الشخصية (وهو ما ينادى به من أجل تبرير الزواج المدني) بعيدة كل البعد عن مفهوم الحياة الأسرية المشرقية. إن الوضع المأساوي والمخيف للتفكك الأسري في العالم الغربي يستدعي منا أن نفكر ملياً في مشروع نبنيه على أساس احترام الحرية الشخصية. إن هذه الحرية هي بمثابة كرة ثلج إذا لم توضع لها الأطر الصحيحة والداعمة فإنها ستتدحرج وتطيح بكل المقومات والمفاهيم المتوارثة عن العائلة والترابط الأسري والمجتمعي.
لذلك قد نكون أقرب إلى الواقع أن نتحدث عن منظومة الزواج الديني ومنظومة الزواج المدني إذ أن المعني في هذا المجال ليس الزواج بحد ذاته فقط وإنما النظرة الشمولية للأسرة في كلا المنهجين. فمن الجانب الإسلامي لا نستطيع القول بأن الزواج هو عقد مدني بين طرفين عاقلين بالغين فقط ، بل هو في الأساس عقد رضائي يهدف الى الإستمرارية لما بعد العقد من ناحية أنه يرتب آثاراً وحقوقاً وواجبات كالنفقة والطاعة، والعشرة بالمعروف، وحقوق الزوجة والزوج، ومحاولات الصلح بين الزوجين تفاديا للوصول إلى الطلاق، ومسؤولية الأولاد، والعدة، والإرث، ... فالزواج ليس سراً من الإسرار يقتضي إجراؤه في المسجد بحضور رجل دين مسلم يختتم بالقول : " أعلنكما زوجاً وزوجة" بل هو ينعقد حصرياً بالإيجاب والقبول من قبل الطرفين فليس لوجود رجل الدين أي أثر على الزواج إلا من ناحية توثيقه كأي موظف معتمد في دوائر التوثيق في الدولة.
لذلك لا يوجد تعارض كبير من الناحية الفقهية في جوهر العقد المدني والعقد الشرعي الإسلامي للزواج فليسا في جوهرهما من العقود الدينية بل هما من العقود الرضائية التي تعقد بالإيجاب والقبول ووجود الشهود. غير أن الإسلام أضاف إلى عقد الزواج إمكانية وضع شروط وبنود يتم التوافق عليها مسبقاً لحماية المرأة بشكل مخصوص أو لمحاولة استباق الحلول في حال وقوع مشاكل زوجية، أو بكل بساطة لحسن إدارة حياتهما الزوجية. من الشروط التي يمكن إضافتها لعقد الزواج : التزام الزوج بعدم الزواج من امرأة ثانية، تطليق المرأة نفسها بنفسها دون الرجوع الى إرادة زوجها، عدم متابعة الزوجة لزوجها في حال أراد الاستقرار في دولة أجنبية للعمل، تحديد نفقات إضافية لها، مواصفات بيت الزوجية وموقعه، حقها في تأمين خادمة منزلية، تحديد سن الحضانة والمشاهدة في حال الإنفصال والطلاق، الى ما هنالك من شروط كثيرة يمكن إضافتها في عقد زواجهما. هذه الشروط المعتبرة والتي هي من أجل إيجاد حلول استباقية تضفي على منظومة الزواج في الإسلام طابعاً راقياً جداً يقوم على احترام إرادة الزوجين معاً، قل نظيره في الأنظمة الحديثة. ناهيك عن تعددية الآراء الفقهية التي تستوعب كافة الحلول القضائية الممكنة والمطروحة على صعيد الخلافات الزوجية أو لتأمين حسن إدارة الحياة المشتركة بين الزوجين ويتوافق مع متطلبات كل عصر من العصور. على سبيل المثال ما ذهب اليه القاضي ابن عرضون المغربي في القرن السادس عشر من أحقية المرأة العاملة في اقتسام أملاك زوجها مناصفة في حال وفاته أو في حال طلاقها منه. يضاف إلى هذه المنظومة القائمة في المحاكم الشرعية سهولة إجراءات التقاضي وخضوعها للرسوم التي تفرضها الدولة كمثيلاتها في الدعاوى المدنية تماماً. ناهيك بأن الواردات في صناديق المحاكم الشرعية تصب مباشرة في خزينة الدولة.
غير أن التعارض مع منظومة الزواج المدني فترتكز على مخالفة هذا الأخير لبعض الأمور الفقهية التي نص عليها الفقهاء في أحكام الزواج والطلاق والعدة والنسب ، من بينها:
1- إهمال مانع اختلاف الدين في الزواج . اذ يجوز فيه للمسلمة أن تتزوج غير مسلم كما يجوز للمسلم أن يتزوج من هندوسية او مجوسية او ملحدة .
2- إغفال قرابة الرضاعة، وعدم اعتبارها مانعاً من موانع الزواج. اذ يجوز فيه للرجل ان يتزوج من اخته من الرضاعة
3- الغاء حق المهر للمرأة في شطريه المؤجل والمعجل
4- اباحة التبني في حين أن الإسلام ينادي بكفالة اليتيم والإحتفاظ بنسبه من والديه الحقيقيين
5- منع تعدد الزوجات، مع الأخذ بعين الإعتبار أن الإسلام يحرص بزواج الرجل من امرأة واحدة، وأن للزوجة الحق في اشتراطها عدم زواجه من أخرى.
6- جعل مدة عدة المرأة غير الحامل ثلاثمائة يوم، في حين أن الإسلام جعلها لمدة ثلاثة اشهر
إضافة الى أن هناك بعض الأسباب التي تدفع أنصار الزواج المدني إلى المناداة باعتماده إلزاميا أو اختياراً من ضمنها :
1- المساواة بين اللبنانيين أمام القانون وتثبيت الإنتماء الى الدولة بدل الإنتماء الى الطائفة
2- عدم تطور المحاكم الشرعية والروحية والحملات الإعلامية التي تتكلم عن فسادها دون الأخذ بعين الإعتبار ما تتعرض له كل مؤسسات الدولة من فوضى عارمة في التنظيم والإجراءات المتبعة
3- التطبيق الخاطئ للدين من قبل كثير من الأزواج الذين يتقنون فن إخضاع المرأة لمفاهيمهم وأهوائهم الشخصية باسم الدين، مما يدفع البعض إلى توظيف تلك المفاهيم لخدمة طروحاته في الزواج المدني وغيره ومحاولة تبريرها.
4- التخفي وراء نقد منظومة الزواج الديني للوصول إلى إقامة الدولة المدنية في حين إن الذي يقف حجر عثرة أمام الدولة المدنية ليس هو الدين بل الطائفية، فالذي يجب أن يعمل عليه هو استعداء الطائفية وليس الدين.
5- رفض الدين وإقصائه من الحياة التشريعية : حيث أن البعض ولموقف فكري من الدين ومفاهيمه وأحكامه يريد إقصاء ما تبقى للدين في ميدان التشريع.
بيد أن هناك مشروع ثالث يمكن دراسته فيما بعد، وهو لا يعبر بطبيعة الحال الا عن رأيي الشخصي، وقد قمت بطرحه في عدة مقالات ومحاضرات وندوات، ينطلق من فكرة ضم كل المحاكم الشرعية والروحية في لبنان ضمن تسمية واحدة : "محكمة الأحوال الشخصية" حيث تكون الدولة هي الراعية والمرجع الأعلى لكل اللبنانيين. دون اللجوء إلى الفكرة العقيمة في إلغاء المحاكم الروحية والشرعية فيُقترح توحيد هذه المحاكم في إطار محكمة الأحوال الشخصية التي تتوزع على الأراضي اللبنانية وتضم فيها قضاة روحيين وشرعيين وقضاة مدنيين منتدبين من قبل الدولة لإجراء عقود الزواج للبنانيين الذين لا يرغبون في إجراء عقود زواجهم لدى المراجع القضائية الدينية. يكون من حق المنتمين إلى الطوائف المسيحية الإلتجاء إلى قوانين إحدى المحاكم الروحية المسيحية المتعددة التي يرغبون المقاضاة أمامها ولو كانت من غير مذهبهم دون أن يؤدي ذلك إلى تغيير انتمائهم إلى طائفتهم الدينية، وكذلك الأمر يكون من حق المنتمين إلى الطوائف الإسلامية الإلتجاء الى قوانين إحدى المحاكم الشرعية دون أن يؤدي ذلك إلى اضطرارهم لتبديل طائفتهم. بهذا الإجراء يتمكن المسيحي الكاثوليكي من حل الرابطة الزوجية لدى قانون الطائفة المسيحية الأكثر سهولة في تسهيل عملية حل وإبطال زواجه، دون اضطراره الى اعتناق الدين الإسلامي أو تغيير مذهبه الى طائفة مسيحية أخرى. كذلك الأمر بالنسبة للمسلمين السنة مثلا الذين يرغبون بتوريث بناتهم على المذهب الجعفري حيث يتمكنوا من تقسيم التركة وفق المذهب الجعفري دون اضطرارهم الى تغيير طائفتهم. وكذلك بالنسبة للشيعة الذين يرغبون في تحديد سن حضانة أولادهم وفقاً للمذهب السني. ولحل معضلة تنازع القوانين بين الزوجين في حالة رغبة أحدهما في الذهاب الى محكمة والآخر الى محكمة أخرى، يتعين عليهما عند إجراء مراسم زواجهما تحديد القوانين التي يختارونها لحل مشاكلهم الزوجية أو الإرثية، و إجراء التعديل عليها بالتوافق خلال حياتهما الزوجية.
إن المشكلة التي يعاني منها أبناء الطوائف الإسلامية والمسيحية على حد سواء هي في انتقال إبنائها الى المذاهب الأخرى ليس لعدم ايمانهم بالمبادىء الدينية لطوائفهم وإنما لاصطدامهم بالقوانين والأنظمة الخاصة بطوائفهم والمتعلقة بتنظيم حياتهم الزوجية وما ينتج عنها من خلافات ونزاعات. وكذلك الأمر بالنسبة لبعض اللبنانيين الذين لا يرغبون بعقد زواجهم لدى المرجعيات القضائية الدينية فيكون ذلك منفساً لهم في إجراء عقد زواجهم لدى السلطات القضائية المدنية المنتدبين من قبل الدولة دون الإلتجاء الى دول تعتمد الزواج المدني. كل ذلك دون الإفتتات من حق المرجعيات الدينية القضائية والتي تشرف بمجلس قضائي روحي موحد يشكل من قبل هذه المرجعيات الإسلامية والمسيحية، من ضبط كافة معاملات الأحوال الشخصية من أجل ضمان وتعزيز قيم العائلة المشرقية بشقيها المسيحية والإسلامية وعدم الإنجرار وراء الأهواء والغرائز التي أدت في الدول الغربية الى تفكك الأسرة والمجتمع.
إن هكذا مشروع سيحد بطبيعة الحال من التغيير والانتقال من دين الى دين ومن طائفة الى أخرى عن طريق الغش والمخادعة، وكذلك الأمر بالنسبة للذين يصرون على إجراء عقود زواجهم في الدول التي تعتمد الزواج المدني من السفر الى الخارج.
على أننا نوضح استطراداً بأنه من الجانب الإسلامي لايحكم بردة المسلمة التي تزوجت من غير مسلم إلا إذا صرحت بخروجها عن الدين الإسلامي واعتناق الدين الآخر، وبذلك تحتفظ بديانتها مع اعتبارها عاصية كما تحتفظ بحقها في الميراث من أهلها المسلمين. وكذلك الحال بالنسبة للمسلم الذي يتزوج بمن لا دين لها يعتبر مسلماً عاصيا رغم ذلك إلا إذا صرح بردته عن الإسلام.
إن هذا المنحى الذي أشرت إليه يحتاج الى كثير من التفكير والتعمق والدراسة. وقد اردته نافذة تطل على مفاهيم التطور والعصرنة - دون التخلي عن القيم والمبادئ الدينية التي نؤمن بها إيمانا راسخا - هي من أجل السعي في إيجاد الحلول لمشاكل اللبنانيين المتعلقة بمسائل أحوالهم الشخصية وعدم الإكتفاء برفض أو فرض وجهة نظر آحادية. إن هذه الحلول يجب أن تكون ضمن إطار العائلات الروحية التي يتشكل منها لبنان مع الأخذ بعين الإعتبار ضرورة الحد من التحايل على قوانين الطوائف من خلال معاملات تبديل الدين، وأيضاً دون الإخلال بأن تكون هذه الحلول التي تعتمدها الطوائف متوافقة مع بناء الدولة العصرية التي تنشد وحدة أبناء هذا البلد وعيشهم الواحد المشترك الذي لا يرضون بغير هذا العيش وبغير هذا الوطن بديلاً·