الحروب الخاطفة عبر التاريخ والحرب العربية الإسرائيلية عام 1967/ كتب: عبد الهادي محيسن
الشراع 19 تشرين الثاني 2024
كانت معركة الستينات – 1967 – تبقى أخطر معارك الحرب في الشرق الأوسط وعليه – كما أنها كانت أكثرها إثارة وأشدها ضراوة وأبعدها تأثيراً وأحفلها بالمفاجآت ، وبالتأكيد فقد كانت المفاجأة الكبرى والحاسمة فيها هي قصر المدة التي اسستغرقتها المعركة ، والتي لم تزد في الواقع عن ثلاث ساعات ونصف الساعة ، من الثامنة صباحاً الى الحادية عشرة والنصف من صباح يوم الإثنين 5 حزيران 1967 .
كانت هذه المدة القصيرة هي لحظة الزمن التي استغرقتها الضربة الجوية الإسرائيلية والتي جاءت ضربة قاضية ، ففي الساعة الثامنة بالضبط من صباح 5 حزيران قامت موجة أولى من الطائرات الإسرائيلية وعددها 174 طائرة بمجموعة من الغارات المتزامنة على كل قواعد العمق المصري في وادي النيل ابتداءً من قاعدة أبو صوير على الضفة الغربية لقناة السويس وحتى مطار الأقصر في جنوب الوادي ، ثم لحقتها موجة ثانية من 161 طائرة ركزت بالدرجة الأولى على المطارات المتقدمة في سيناء .
ثم جاءت موجة ثالثة من 157 طائرة تكتسح ما بقي من حطام المطارات والقواعد المصرية ، أي أنه بجهد 492 طائرة مركزة في ثلاث موجات كان مصير معركة الخامس من حزيران قد تقرر فعلاً ، وأصبح ما تلا ذلك كله حتى توقف القتال رسمياً يوم 9 حزيران مجرد تفاصيل لا تغير في الصورة النهائية للمعرركة شيئاً ، ولا تنقص فيها أو تزيد –ذلك أن ضربة الطيران الإسرائيلي أدت مباشرة الى نتيجتين :
الأولى - : أن القيادة العسكرية المصرية فقدت أعصابها وتوازنها وهذا هو الهدف الأول لفكرة الحرب الخاطفة منذ دعا إليها أساتذة الإستراتيجية الإنكليز ، وفي مقدمتهم "ليدل هارت" الى أن طبقها الجنرالات الألمان من أمثال "جودريان" و "مانشتاين" و "رومل" في الحرب العالمية الثانية وخصوصاً في مراحلها الأولى حينما سقطت هولندة وبلجيكا ولوكسمبورغ في ظرف ساعات ، وسقطت بولندا في ظرف أيام ، واستسلمت فرنسا في ظرف أسبوعين وأصبح حصنها الدفاعي الشهير خط " ماجينو" طلاً من أطلال الماضي ، قبل أن تتاح له فرصة الحياة ولو يوماً واحداً .
والواقع أن الخمائر الأولى لفكرة الحرب الخاطفة بدأت من حروب الثورة الفرنسية عام 1789 على لسان " دانتون" حينما لخص استراتيجية فرنسا بقوله : " السرعة ومزيد من السرعة والسرعة دائماً ، الجرأة ومزيد من الجرأة ، والجرأة دائماً ، وكان ذلك ما طبقه نابليون بالمدفعية والخيالة قبل أن يطبقه الجنرالات الألمان بقوة الاقتحام الهائلة ، التي يمثلها تعاون الطيران مع المدرعات ، ولم يكن الهدف من السرعة والجرأة احتلال المواقع فحسب – وإنما شل تفكير القيادة على الناحية الأخرى وإرباكها ، وإفقادها لأعصابها وتوازنها من اللحظة الافتتاحية للمعارك .
والنتيجة الثانية : " أن الجيش المصري أصبح في وضع عسكري لا يطاق ، فبدون غطاء من طائراته فوقه ومع سيطرة كاملة على الأجواء للعدو ، وفي صحراء مكشوفة – فإن القتال لا يعود قتالاً ، وإنما يتحول الى قتل مهما كانت شجاعة الرجال ! ، وكان هذا هو الوضع الذي دعا عبد الحكيم عامر الى القرار بالانسحاب فجر يوم 6 حزيران وهو قرار منطقي من ناحية المبدأ ، وإنما جاءت المصيبة في طريقة اتخاذه وأسلوب تنفيذه ، ذلك أن نظرية الحرب الخاطفة كانت قد حققت أثرها على القائد العام وافقدته أعصابه وتوازنه .
والمحزن أنه في اليوم الأول من القتال كانت الخسائر المصرية في كل قطاعات الاشتباك مع العدو في حدود 294 شهيداً ، وبعد قرار الانسحاب في يوم 6 حزيران ومع طريق تنفيذه حتى مساء 8 جزيران وصل عدد الشهداء الى 6811 شهيداً ، وبالطبع فإن جزأ من هذه الخسائر كان ضرورياً لحماية انسحاب القوات ، ولكن هذا الانسحاب كان في معظمه حالة من الفوضى ، وخلال هذه الفوضى ومضاعفاتها وقعت أفدح الخسائر .
كانت الخطة الإسرائيلية سنة 1967 هي نفسها خطة سنة 1956 والخطط في العادة لا تتغير لأنها محكومة بالجغرافية ، وإنما تتغير أساليب القتال والتحركات وملابسات الخداع والمفجأة ...وعلى سبيل المثال فإن خطة غزو فرنسا سنة 1940 كانت هي نفسها خطة الجنرال " شليفن " أثناء حروب السبعين – لكن الطيران والدبابات كانت هي التي قامت سنة 1940 بمهمة المدفعية والخيالة سنة 1870 .
ولم تكن الخطة الإسرائيلية 1967 مجرد استلهام لخطة 1956 وإنما كانت إعادة لها بالنص ، خصوصاً بعد أن تمكنت إسرائيل من الحصول على ملف عمليات الطيران البريطاني أثناء الغزو الثلاثي بواسطة جيمس أنجلتون من المخابرات المركزية الأميركية بالترتيب مع إدارة المخابرات البريطانية ، وفي أثناء فترة الإعداد للضربة التي أطلق عليها الرئيس الأميريكي جونسون معركة اصطياد الديك الرومي (يقصد عبد الناصر) .
كان عازر وايزمان قائد الطيران الإسرائيلي الذي انتقل ليصبح مديراً للعمليات سنة 1967 هو الذي استلم الخطة البريطانية ، وقال في مذكراته أنه كان يعيش مع الخطة ويحلم بها ويتمثل تفاصيلها ويدرب رجاله عليها ، وقد تولى مع عدد من مساعديه مهمة ترتيبها لملاءمة الأوضاع المستجدة ، ثم تسلم الخطة منه نائبه وخلفه في قيادة الطيران موردخاي هود .
عبد الهادي محيسن
كاتب وباحث