بيروت | Clouds 28.7 c

من هو الرجل الصالح / بقلم الشيخ أسامة السيد

من هو الرجل الصالح

بقلم الشيخ أسامة السيد

 مجلة الشراع 20 كانون الاول 2019 العدد 1930

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: ((يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويُسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين)) سورة آل عمران. 

يُخطئ كثيرٌ من الناس في تعريف الرجل الصالح ونرى كثيرًا منهم يصفون الرجل المنكفئ على نفسه الذي لا يخالط الناس ولا يُشاركهم أفراحهم ولا أحزانهم بصفات الصالحين، ولربما كان هذا الرجل من أخبث خلق الله، فينبغي أن يعلم هؤلاء أن معيار الفضل عند الله تعالى ليس بقدر ما تبتعد عن الناس ولا بقدر ما تقترب منهم، بل المفاضلة بقدر ما تلتزم الشرع فتطبق ما فرضه الله وتجتنب ما حرَّم الله وبهذا صرَّح القرآن الكريم، قال الله تعالى في سورة الحُجُرات: ((إن أكرمكم عند الله أتقاكم)) فمن كان لله أتقى فهو أصلح من غيره، وكلما قصَّر المرء في أداء ما أوجبه الله وانغمس فيما حرَّم الله كلما كان بعيدًا من رضا الله. ومن ربط الصلاح بمجرد اعتزال الناس فقد أخطأ جدًا فكم من أناسٍ اعتزلوا الناس بدعوى الانقطاع للعبادة فأضلَّهم الشيطان من حيث ظنوا أنهم اهتدوا وما قادهم إلى ذلك إلا الجهل بحقائق الأمور، ولذلك قيل: ((العلم نور والتعبُّد على الجهل لا يُنقذ صاحبه يوم القيامة)). ومن أراد أن يعرف حقيقة الصلاح فلينظر في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثم لينظر بعد ذلك في نفسه ليرى أين هو من أداء ما أمر الله واجتناب ما نهى الله عنه، فإن مراتب الصالحين لا تُنال إلا بالتزام الشرع ولا تتأتى معرفة ذلك إلا بالعلم.

 

معايير الصَّلاح

 

ولذلك فإن الرجل الصالح بالمفهوم الحقيقي هو من تعلَّم العلم الديني الذي لا بد من تحصيله ثم عمل بهذا العلم فقد جاء في ((الحلية)) لأبي نُعيمٍ أنه كان من كلام سيدنا عيسى المسيح عليه السلام: ((من علم وعمل وعلّم كان يُدعى عظيمًا في ملكوت السموات)) أي يُدعى عظيمًا بين الملائكة سُكَّان السموات.

فالرجل الصالح إذًا هو المؤمن الذي يقوم بحقوق الله وحقوق العباد، ينزّه اللهَ عن مماثلة المخلوقين ويؤمن أن الله الذي خلقنا لا يُشبهنا بوجهٍ من الوجوه، ويؤمن بأنبياء الله الكرام ويعتقد تفضيلهم على سائر من سواهم من الناس ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة إن وجبت عليه ويصوم رمضان ويحج البيت إن استطاع إليه سبيلا ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فهو يُخالط الناس ويحرص على إرشادهم إن رأى خيرًا حثّ على الإكثار منه وإن رأى شرًا حذَّر من الوقوع فيه، ولا يعتدي على الناس، فإن ظُلم اكتفى بأخذ حقه ولا يتطاول بالبغي أو عفا وصفح كما قال الله تعالى في سورة الفُرقان: ((وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونًا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما)) والمراد بعباد الرحمن في الآية الصَّالحون وإن كان كل الناس في الحقيقة عباد الرحمن لكنَّ هذا الوصف هنا مخصوصٌ بالصالحين. ومعنى ((يمشون على الأرض هونًا)) بالسَّكينة والوقار، وفي تفسير السمعاني عن الحسن البصري قال: ((لا يجهلون إذا جَهِل الناس)) أي لا يظلمون ولا يعتدون إذا فعل الناس ذلك، وقيل: متواضعون لا يتكبرون. وإذا ما آذاهم الجاهلون بكلامٍ لا يليق صفحوا أو قالوا قولاً يسلمون به، فلا يحملهم حظُّ النفس على اقتحام الحرام بل يلتزمون قول النبي صلى الله عليه وسلم ((فمن أحب أن يُزحزح عن النار ويُدخل الجنة فلتأته منيَّته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر وليأت إلى الناس الذي يُحب أن يؤتى إليه)) رواه مسلم عن أبي هريرة. ومعنى ((يُزحزح)) يُبَعد، وفي الحديث قاعدةٌ عظيمةٌ ينبغي الاعتناء بها وهي أن يلتزم الإنسان أن لا يفعل مع الناس إلا ما يحب أن يفعلوه معه، بل ويُسارع في إفادة الناس وتقديم المعونة والنصيحة لهم قبل أن تُطلب منه فهو يُفتِّش عن الخير ليستكثر منه، إن سمع الحكمة تلقفها وعمل بها جاعلاً نُصب عينيه ما رواه الترمذي عن أبي سعيدٍ الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((لن يشبع المؤمن من خيرٍ يسمعه حتى يكون منتهاه الجنة)). فمن علامات المفلحين أن الواحد منهم لا يقول اكتفيت بما نالني من الخير بل يسعى في طلبه سماعًا وتنفيذًا حتى يموت فيكون من أهل المراتب العالية في جنة الله.

 

لمثل هذا فليعمل العاملون

 وتراه مع ذلك حريصًا على المؤمنين فلا يقبع في بيته تاركًا الأمة لذئاب أهل الضلال والأهواء تعبث بها إفراطًا وتفريطًا، فهو مفتاح للخير مغلاقٌ للشر تمكَّن حب الآخرة في قلبه فزهد في الدنيا وعرف أنها ليست بدار قرار وأن الآخرة منتهى الأمر وأن الفوز الحقيقي هو أن يكون من أهل جنةٍ عرضها السموات والأرض. فقد قال الله تعالى في سورة الصَّافات: ((إن هذا لهو الفوز العظيم لمثل هذا فليعمل العاملون)) قال الطبري في ((تفسيره)): ((لمثل هذا الذي أعطيت هؤلاء المؤمنين من الكرامة في الآخرة فليعمل في الدنيا لأنفسهم العاملون ليدركوا ما أدرك هؤلاء بطاعة ربهم)). وهو فوق هذا كله وَجِلٌ مشفقٌ على نفسه لا يغفل عن محاسبتها إن عصى ندم فاستغفر الله وتاب من ذنبه وإن أخطأ تدارك نفسه فأصلح واستقام، فينطبق عليه قول الله تعالى في سورة الأعراف: ((إن الذين اتقوْا إذا مسهم طآئفٌ من الشيطان تذكّروا فإذا هم مبصرون)) قال الطبري في تفسيره: ((وعن ابن عبَّاسٍ ((إذا مسهم طآئف من الشيطان)) قال إذا أذنبوا ذنبًا تذكروا ((فإذا هم مُبصرون)) يقول تذكروا ذُنوبهم فتابوا منها)).

 وحيث عُلم هذا فلينظر المرء في نفسه أين هو من كل تلك المناقب وليجتهد بالترقي في مراتب الكمال ليكون من الصالحين فإن تلك المراتب لا تُنال بالتمني ولا بالتشهي ولا بما يراه العوام صلاحًا وهو في حقيقة الأمر ليس صلاحًا بالنظر إلى حكم الشرع.

والحمد لله أولاً وآخراً.

الوسوم