بيروت | Clouds 28.7 c

اتق خطر الأجوفين / بقلم الشيخ أسامة السيد

 

اتق خطر الأجوفين

بقلم الشيخ أسامة السيد

الشراع 25 نيسان 2024

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى:{يا أيها الذين ءامنوا اتقوا الله وقولوا قولًا سديدًا يصلح لكم أعمالكم ويغفرْ لكم ذنوبكم ومن يُطع الله ورسوله فقد فاز فوزًا عظيمًا} سورة الأحزاب.

وعن أبي هريرة قال: سُئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ما أكثر ما يُدخل الجنة؟ قال: تقوى الله وحُسنُ الخُلق. قال وما أكثر ما يُدخل النار؟ قال: الأجوفان الفم والفرج" رواه البخاري في "الأدب المفرد" وغيره.

لقد أمر ربنا عزَّ وجلَّ بطاعته ونهانا عن معصيته وجعل التقوى سبيلًا للوصول إلى الدرجات العالية والمراتب الشريفة كما دلَّت على ذلك الآية أعلاه وغيرها من الآيات والأحاديث، وأرشد النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث وفي غيرهإلى خيرٍ عظيمٍ ونبَّه إلى ما يتأتى من الفم والفرج من مخاطر جمَّةٍ ليكون المؤمن محتاطًا وقَّافًا عند حدود الشرع، ومن أراد السلامة في دينه ودنياه طبَّقتوجيهات النبي صلى الله عليه وسلم فالتزم تقوى الله تعالى وحسَّن خُلقه.

ومعنى التقوى أداء الواجبات واجتناب المحرَّمات وقد وعد الله تعالى المتقين بالثواب الجزيل والأجر العظيم. قال تعالى:{وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربكم وجنةٍ عرضُها السموات والأرضُ أُعدت للمتقين} سورة آل عمران. ومعنى"أعدت" خُلقت وهُيئت. فمن اتقى الله تعالى وثبت على التقوى ومات عليها نجا في القبر وسَعِد في الآخرة ولا يلقى نكدًا ولا ضيقًا بعد الموت، وقد جاءت نصوصٌ كثيرةٌ في القرآن والحديث فيها الحث على التقوى والتأكيد على الثبات عليها. هذا وكثيرٌ من الناس يدَّعون التقوى وليسوا بأتقياء ويظنون أنهم يؤدون الواجبات ويجتنبون المحرَّمات وليسوا في الحقيقة هكذا لإخلالهم بشرطٍ عظيمٍ من شروط التقوى وهو طلب العلم، فإن المرء لا يصير تقيًّا ما لم يتعلم علم الدين لأن طلب العلم من جملة الواجبات التي لا بد منها لتتحقق التقوى، ومن لم يتعلَّم لا يضمن أصلًا صحة صلاته أو زكاته أو حجِّه أو صيامه، ومصداق هذا في قوله تعالى:{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا الذين ضَلَّ سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يُحسنون صنعًا} سورة الكهف.

أما حُسن الخلق فيتلخَّص في ثلاثة أشياء هي: كفُّ الأذى عن الناس وتحمُّل الأذى من الناس وبذل المعروف مع من يعرفه ومن لا يعرفه لك. روى الترمذي عن الإمام الجليل عبد الله بن المبارك في تفسير حُسن الخلق أنه قال:"هو طَلاقةُ الوجه وبذل المعروف وكفُّ الأذى" وهذه خصالٌ راقيةٌ قلَّ أن تجدها في أغلب الناس على خلاف ما يقتضيه حُسن الخلق وعلى خلاف التقوى فتراهم يؤذون القريب والبعيد والجار والصاحب وربما طال أذى بعضهم الآباءَ والأمهاتِ، لا يرعون ذمةً ولا عهدًا ولا يصبرون على أدنى أذًى يلحقهم من الآخرين بل يبطشون ويغضبون ويظلمون ويُعاملون الناس بخلاف ما يحب أحدهم أن يُعامله الناس.

قال تعالى: {ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون} سورة البقرة، وقال تعالى أيضًا:{فأبى أكثر الناس إلا كُفورًا} سورة الإسراء، وقال تعالى أيضًا:{وقليلٌ من عبادي الشكور} سورة سبأ. فأكثر الناس لا يشكرون الله الشكر الواجب أي لا يتَّقون الله تعالى، أما المتقون الشاكرون فهم قليلٌ وهذا مُشاهدٌ في الناس ولكنَّ الكيِّس العاقل يسعى في خلاص نفسه فيلتزم ما لزم عليه ويحذر ما حذَّر منه اللهُ ورسولُه صلى الله عليه وسلم فيحذر جميع الذنوب ويجتهد في حفظ جوارحه لا سيما الفم والفرج، فكم رأينا من أناسٍ هلكوا بسبب أنهم أطلقوا ألسنتهم في الحرام فمنهم من خاض في الكبائر ومنهم من تعدى ذلك إلى الكفر وآخرين لم يحفظوا فروجهم جعلوا كل همِّهم قضاء الشهوة وإن بطريق الحرام بل وربما صرفوا في ذلك الأموال الطائلة.

احذر وانتبه

وفي هذا المقام نقول: لقد نبَّه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم إلى حفظ الفم والفرج نظرًا لكثرة ما يصدر من هذين العضوين من الذنوب المهلكة والآثام الموبقة فإنه يصدر من الفمِ الكفرُ والغيبةُ والنميمةُ والبهتانُ والشتمُ واللعنُ واتهامُالأبرياء بالباطل وشهادةُ الزور وغيرُ ذلك مما نهى الله تعالى عباده عنه وتوعَّد عليه، قال تعالى:{ولا تقف ما ليس لك به علمٌ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولًا} سورة الإسراء. وجاء في نصيحة النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبلٍ في حديثٍ طويلٍ رواه الترمذي:"وهل يَكُبُّ الناس في النار على وجُوههم (أو قال على منَاخِرهم) إلا حصائد ألسنتهم" وحصائد جمع حَصِيدة من حصد الزرع إذا قطعه، فشبَّه إطلاق المتكلم لسانه من غير تمييزٍ بين قبيحٍ وحسنٍ وصحيحٍ وفاسدٍ بفعل الحصَّاد الذي لا يميِّز في الحصاد بين شوكٍ وزرعٍ وهو من بلاغة النبوة التي لا تُدانيها  بلاغة عربيٍ قَطُّ. وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"إن العبد ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن فيها يزل بها في النار أبعد مما بين المشرق والمغرب"وقوله: "ما يتبيَّن فيها" معناه لا يرى بها بأسًا لا يراها ضارَّةً. وكذلك كم يصدر من الفرج من ذنوبٍ لا سيما الشباب عند ثوران الشهوة في النفس فليفكِّر هؤلاء أن اللذة التي تتأتى من طريق الحرام إنما هي لُحيظاتٌ ثم تنقضي ويبقى الإثم والعار بل ربما فسَق المرء فمات وهو متلبِّسٌ بالإثم فلم يدرك التوبة فهلك. وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من وقَاه الله شرَّ ما بين لَحييه (اللسان) وشرَّ ما بين رجليه (الفَرج) دخل الجنة" رواه الترمذي.

وقد قيل: 

تفنى اللذاذةُ ممن نال صفوتَها                             من الحرام ويبقى الإثمُوالعارُ

تبقى عواقبُ سوءٍ من مغبَّتها                            لا خيرَ في لذةٍ من بعدِها النارُ

وإزاء ذلك فالعاقل من حاسب نفسه وانتبه ماذا يقول وماذا يفعل فاتقى اللهَوجَهدَ في حفظ جوارحه كلها من الحرام لا سيما الأجوفان الفم والفرج، خاصةً ونحن مقبلون على فصل الصيف حيث تكثر عند بعض الناس سهرات المجون والفسق واللهث خلف الشهوة لقضاء الوطر ولو من طريق الحرام فالحذر الحذر.والحمد لله أولًا وآخرًا.