بيروت | Clouds 28.7 c

 العرب والأوروبيون يتصدون معاً للعثمانية الجديدة / بقلم محمد خليفة


 العرب والأوروبيون يتصدون معاً للعثمانية الجديدة / بقلم محمد خليفة

مجلة الشراع 25 تشرين أول 2019 العدد 1922

 

*لماذا اتسمت مواقف العرب والأوروبيين بالعنف البالغ ضد التدخل التركي في سورية ؟!

 *أردوغان يساهم في احياء أشباح التوسع العثماني في اوروبا والوطن العربي

 

بقلم محمد خليفة

 

اللغة التي يستعملها البشر ليست أداة تواصل محايدة أو جامدة, بل هي كائن حي ينقل أدق مشاعرنا للآخرين, أثناء الحديث فيما بينهم. إنها في الواقع طرف ثالث في كل محادثة.

ويستخدم الناس عبارات ومفردات خاصة بكل حالة من الحالات, وبكل شخص من الأشخاص, فلا نستخدم الكلمات نفسها مع الجميع, وفي كل المناسبات, ولهذا دلالة واضحة. وبهذه الخاصية تصبح اللغة عاملاً مساعداً للمحللين على استكشاف أغراض ونوايا الطرفين.

لذلك سنقوم بتحليل ((اللغة)) التي استعملتها أطراف الأزمة التي نشبت أخيراً بين تركيا وكل من الأوروبيين والعرب, على خلفية تدخلها العسكري في شمال سورية, لأن اللغة ستكشف لنا أبعاداً وجوانب لا يمكننا التوصل لها, بمعزل عن هذه الأداة وهذه الطريقة.

أولاً – مواقف المجموعة الغربية: والملاحظة الرئيسية هنا أن ردود أفعالها على التدخل التركي اتسمت بالسرعة والحدة أكثر من أي حدث مشابه, بما في ذلك التدخل الايراني الكثيف والمتواصل في سورية منذ 2012, فضلاً عن التدخل الروسي المدمر منذ عام 2015. كما اتسمت ردود أفعالها باتساع وتعدد الاجراءات العقابية التي صدرت عنها وهي:

-كثافة البيانات الرسمية من الحكومات الغربية, إذ نددت وزيرة الدفاع الفرنسية بالعملية التركية، ووصفتها بهجوم ((خطير يجب أن يتوقف)). وأدان وزير خارجية ألمانيا بشدة العملية، وقال إنها ((ستؤدي لمزيد من الاضطراب في المنطقة, وستعزز تنظيم الدولة الإسلامية)). ورأى رئيس الوزراء الإيطالي أن العملية ((تهدد بزعزعة استقرار المنطقة وإلحاق الضرر بالمدنيين)).

-كثرة المقالات والتعليقات الصحافية المستنكرة للخطوة التركية, وندرة المقالات التي تتفهم الموقف التركي. ويمكننا الاشارة الى مقال لصحيفة ((نيويورك تايمز)) (11 تشرين الأول/ أكتوبر) الذي توقع أن تثير العملية أزمة إنسانية تهدد ((مئات ألوف)) السكان, وهي مبالغة كبيرة لم يسبق أن تبنتها الصحيفة خلال الهجمات الوحشية لروسيا والنظام على ريف حماة وادلب.

-المبالغة الواضحة في تقدير النتائج الانسانية للعملية, مقارنة بعمليات مشابهة نفذها نظام الأسد وحلفاؤه الروس والايرانيون. وهو ما نراه في تصريح منسق الأمم المتحدة للمساعدات الإنسانية في سورية بانوس مومتيس،  لصحيفة ((نيويورك تايمز)) ((إن تأثير الهجوم أسوأ بكثير، وأكثر دراماتيكية. وإن حماية المدنيين الآن مصدر القلق الأكبر)) وقال رئيس المفوضية العليا لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، في بيان ((إن مئات الآلاف من المدنيين في حالة ضرر الآن)). وقالت المديرة التنفيذية لليونيسف هنريتا فور، إن التصعيد العسكري التركي ستكون له ((عواقب وخيمة جداً)) على القدرة على تقديم المساعدات. وفقاً لما أوردته ((نيويورك تايمز)).

-تحرك البرلمانات والمؤسسات الحقوقية ومنظمات المجتمع المدني بشكل واسع وقوي لإدانة الخطوة والتحذير من نتائجها. وللمرة الأولى منذ بداية عهد ترامب يتفق نواب الحزبين الجمهوري والديموقراطي في التحرك لفرض عقوبات صارمة ضد تركيا, يؤيدها ترامب إذا واصلت القوات التركية هجومها على الاكراد, ويستعمل ترامب عبارات غير دبلوماسية في مخاطبة  اردوغان.  

-نقل المسألة بسرعة قياسية الى مجلس الأمن بطلب من الدول الأوروبية, ولكن الجلسة فشلت في اصدار موقف يدين تركيا بسبب عدم موافقة روسيا وأميركا.

وبإمكان المهتمين مقارنة هذه الردود بمثيلتها تجاه ((مأساة الأعمال الحربية العنيفة التي مارستها روسيا ونظام الأسد وايران ضد السكان المدنيين في العديد من مناطق القتال في سورية, ليتضح مدى التهاون والتساهل مع العمليات العسكرية لحلفاء روسيا والأسد في أرياف حماة وادلب واللاذقية طوال خمسة شهور, من ناحية, ومدى التحامل والمبالغة في ردود الأفعال على العملية التركية من ناحية مقابلة, مع أن هذه أقل أهمية وفداحة بالمقاييس الجغرافية والسكانية والعسكرية. الأمر الذي يكشف وجود تحامل وتحيز ضد تركيا, لأسباب عديدة, أقلها التعاطف المسبق مع الكرد والقناعة بأنهم حلفاء للغرب في الحرب على الارعاب, وبأنهم ضحية ظلم تاريخي سببه الاتراك والايرانيون والعرب.       

 كما إن هذه الدول لم تكتف بالتنديد والشجب ومطالبة أنقرا بسحب قواتها فوراً من سورية. بل أقدمت على  اجراءات عقابية فورية, أهمها تجميد أو الغاء مبيعات الاسلحة والعتاد الحربي الى تركيا, رغم أن هذا الإجراء ينتهك ميثاق حلف شمال الأطلسي الذي ينظم العلاقات والحقوق والواجبات بين الأعضاء الحلفاء. 

   مواقف الدول العربية

أما الدول العربية فاتخذت بغالبيتها مواقف لا تقل رفضاً واستنكاراً للعملية من الدول الأوروبية - الغربية. إذ أدانتها بقوة واعتبرتها عدواناً على سيادة دولة عربية عضو في جامعة الدول العربية. وجاء في بيان للخارجية السعودية ((إن المملكة تعرب عن إدانتها للعدوان الذي يشنه الجيش التركي على مناطق شمال شرق سورية)). وأضاف ((إن العملية تعد سافر على وحدة واستقلال وسيادة الأراضي السورية)) ثم قال ((إن العدوان يمثل تهديداً للأمن والسلم الإقليميين)).

وحذت الخارجية المصرية حذو السعودية فأصدرت خارجيتها بياناً أدان بـ((أشد العبارات العدوان التركي على الأراضي السورية)) .وأشارت إلى أن الخطوة التركية تمثل ((اعتداء صارخاً غير مقبول على سيادة دولة عربية شقيقة استغلالاً للظروف التي تمر بها والتطورات الجارية)).

وأصدرت غالبية الدول العربية بيانات تبنت الموقف نفسه تقريباً, مما سهل على مصر الدعوة لعقد اجتماع طارىء لمجلس الجامعة على مستوى وزراء الخارجية, تبنى موقفاً جماعياً يرى التدخل التركي في شمال سورية عدواناً وخرقاً لسيادة دولة عربية عضو بالجامعة. واعتبر القرار ((العدوان التركي تهديداً مباشراً للأمن القومي العربي وللأمن والسلم الدوليين)).

ورأى أن ((العدوان على سورية يمثل الحلقة الأحدث من التدخلات التركية والاعتداءات المتكررة وغير المقبولة على سيادة دول أعضاء في جامعة الدول العربية)). وقرر مجلس الجامعة النظر في اتخاذ إجراءات عاجلة بما في ذلك خفض العلاقات الدبلوماسية، ووقف التعاون العسكري، ومراجعة مستوى العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياحية مع تركيا. كما حث المجتمع الدولي على التحرك في هذا السياق، مع العمل على منع تركيا من الحصول على أي دعم عسكري.

الجذر المشترك للموقفين

في عام 1974 عندما اجتاح الجيش التركي شمال قبرص صدرت صحيفة ((التايمز)) البريطانية وعلى صدرها مانشيت من كلمة وحيدة ((البرابرة ))! هذه العبارة التي اختارتها الصحيفة اليمينية لم يسبق أن استعملتها ولا يمكن أن تستعملها مثلاً للغزو الاسرائيلي للبنان, ولا للغزو السوفياتي لتشيكوسلوفاكيا أو المجر. عبارة البرابرة لا يستعملها الغربيون إلا لوصف الشعوب الشرقية المتوحشة برأيهم!

ونحن نجد في ((لغة)) الاوروبيين المستعملة للتنديد بالتدخل التركي الحالي في شمال سورية شيئاً شبيهاً. مع اختلاف نسبي في الأسباب والخلفيات. وأما لغة المواقف العربية فهي تتشابه معها من حيث الشدة, ولكنها لا تصل الى أي أوصاف عنصرية. والسبب الرئيسي لمواقف الدول العربية من تركيا يكمن في الخلافات على الدور وزعامة المنطقة والتدخلات التركية في الشؤون الداخلية للدول العربية بواسطة جماعات الأخوان المسلمين التي تدعمها تركيا.

إلا أن الجذر المشترك لمواقف العرب والأوروبيين الذي تجلى في استعمال هذه اللغة المتوترة يكمن في عامل تاريخي محدد, يشترك فيه العرب والأوروبيون, هو التوسع العثماني التاريخي في أوروبا والوطن العربي طوال خمسة قرون الذي أذاق الطرفين الكثير من الويلات والأهوال والمحن, لم تتوقف إلا بعد انهيار السلطنة العثمانية. وأصبح الطرفان العربي والأوروبي يحسبان حساباً لأي سلوك تركي معاصر يذكر بماضي تركيا العثمانية , ويعبر عن طموح توسعي في الاتجاهين . والقيادة التركية الحالية تحاول إحياء العثمانية فكراً وسلوكاً, في أوروبا كما في الوطن العربي. وقد نظر الجانبان للتدخل التركي في شمال سورية وقبله في قبرص من هذا المنظور, ويزيد الأمر قلقاً خطابات الرئيس أردوغان التي يستعيد بها الأمجاد العثمانية ويستعملها لتذكير العرب والاوروبيين بقوة أسلافه، بطريقة تنطوي على التهديد المبطن حيناً, والسافر أحياناً.

الاوروبيون والعرب كلاهما يراقب الجار التركي بكل تصرفاته وسلوكياته ويرصد تحولاته وتوجهاته لأنها تنعكس عليهما بالضرورة سلباً وإيجاباً. وكلاهما يرى الآن ان توجهات القيادة التركية الخارجية تثير القلق والخوف, لأنها موجهة نحوهما بالذات قبل أي طرف آخر. وكلاهما يعلم أن تركيا القوية تمثل خطراً على الأمن القومي لكليهما, وخصوصاً العرب, وتركيا الضعيفة أيضاً تمثل خطراً, لأنها تصبح عرضة للتأثير الروسي, أو الايراني , وتفككها يمثل كارثة كبرى بالنسبة للاتحاد الاوروبي, وللعالم العربي. والحل أن تظل تركيا كما كانت في الخمسين عاماً الماضية, بين القوة والضعف , وتواجه مشاكلها الداخلية بمساعدة الطرفين المذكورين, وتحت مظلة القوة الأميركية وحلف ((الناتو)).             

الوسوم