بيروت | Clouds 28.7 c

معاصي الجوارح / بقلم: الشيخ أسامة السيد

 

معاصي الجوارح

بقلم الشيخ أسامة السيد

الشراع 16 ايار 2024

 

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{ولا تَقْفُ ما ليس لك به علمٌ إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا} سورة الإسراء.

قال أبو حيَّان الأندلسي في "البحر المحيط": "ومعنى "ولا تقفُ" لا تتَّبع ما لا علم لك به من قولٍ أو فعلٍ نهى (أي الله) أن نقول ما لا نعلم وأن نعمل بما لا نعلم" وفيه: "وقال ابن عبَّاس: معناه لا ترمِ أحدًا بما لا تعلم. وقال قتادة: لا تقل رأيتُ ولم تره وسمعتُ ولم تسمعه وعلمتُ ولم تعلمه".

قلت: وهذا يتضمن الأمر بحفظ اللسان وذلك بأن لا يستعمله صاحبه فيما حرَّم الله كما يجب عليه أيضًا حفظ سائر جوارحه من الذنوب. قال القرطبي في "تفسيره"في الآية أعلاه:"وقيل: المعنى أن الله تعالى يسأل الإنسان عما حواه سمعه وبصره وفؤاده، ونظيره قوله صلى الله عليه وسلم: كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته. (رواه البخاري) فالإنسان راعٍ على جوارحه فكأنه قال كل هذه كان الإنسان عنه مسؤولًا".  

ويدل هذا على أهمية الاعتناء بحفظ الجوارح وهي أعضاء الجسم من الحرام، ولا يتأتى ذلك إلا بتعلم معاصي الجوارح أي أن يتعلم معاصي اللسان ومعاصي العين والأذن والبطن واليد والرجل والفرج وأن يتعلم أيضًا معاصي القلبوواجبات القلب فيؤدي الفرض ويجتنب الحرام، فإن القلب أمير الجوارح إذا صلح صلح الجسد كله وإذا فسد فسد الجسد كله هذا إضافةً إلى معاصي البدن وهي ذنوبٌ لا تختص بجارحةٍ معينةٍ فقد تكون باليد وقد تكون بالرجل وقد تكون باللسان ليحفظ كل ذلك من الحرام لأنه إن لم يفعل يقع في المعاصي وهو لا يدري.

 

 

اشكر تسلم

وقد أُمرنا بشكر الله تعالى على نعمه قال تعالى:{واشكروا لي ولا تكفرون} سورة البقرة. وقال أيضًا:{واشكروا نعمت الله إن كنتم إيَّاه تعبدون} سورة النحل. وجاء في "تفسير القرطبي "أن الإمام الجنيد سُئل: ما الشكر؟ فقال: أن لا يُعصى الله بنعمه". فمن حفظ نفسه من الحرام فلم يستعمل نِعمَ الله ومنها الجوارح فيما حرَّم الله عليه فقد شكر الله تعالى الشكر الواجب، وقد كان الحريصون على عدم استعمال النعم في معصية المنعم قديمًا قلة وهم اليوم أقل،قال تعالى:{وقليلٌ من عبادي الشكور} سورة سبأ. وأصل معنى الجَرح في لغة العرب الكسب. قال تعالى:{ويعلم ما جرحتم بالنهار} سورة الأنعام، أي كسبتم بالنهار. وقال أيضًا:{أم حسِب الذين اجترحوا السيئات} سورة الجاثية، أي اكتسبوها. ومنه قيل لكلاب الصيد جوارح لأنها تكسب لأصحابها. وإنما سميت أعضاء الجسم جوارح لأن الإنسان يكسب بها لنفسه خيرًا أو شرًا.وقد بيَّن أهل العلم في كتبهم ما هي معاصي الجوارح وتكلموا في تعدادها لتُعرف ليحذرها الناس فإنه ليس لأحدٍ أن يستعمل جوارحه فيما لم يأذن فيه الشرع، ولم يُرخِّص ربنا تعالى للإنسان أن يستعمل هذا الجسد المركب من هذه الأجزاء والأعضاء في كل ما يشتهي فعن ابن عباسٍ أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تزول قدما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربعٍ وعدّ منها "وعن جسده فيما أبلاه" رواه الطبراني. وكم من أناسٍ تشهد عليهم جوارحهم بما يسوؤهم ذلك اليوم، قال تعالى:{اليوم نختم على أفواههم وتُكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون} سورة يس.

قال الفخر الرازي في "التفسير الكبير" "ثبت بالقرآن أنه تعالى يخلق الحياة في الأعضاء ثم إنها تشهد على الإنسان والدليل عليه قوله تعالى: {يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجُلُهم بما كانوا يعملون} سورة النور. ولذلك لا يبعُد أن يخلق الله الحياة والعقل والنطق في هذه الأعضاء ثم إنه تعالى يوجِّه السؤال إليها". فمن كان يهتم لأمر الآخرة ويخشى الفضيحة ذلك اليوم فليحفظ نفسه كما أمر ربنا وليجعل نصب عينيه الآيات المذكورة ولا يطلق لنفسه العِنان فيصرف جوارحه إلى مقارفة الحرام بدل أن يهذِّب نفسه فيحفظها لتسلم يوم القيامة، ولو أردنا سرد معاصي الجوارح لطال المقال جدًا وإنما يحتاج ذكر ذلك إلى بسطٍ وشرحٍ ولذلك فإننا ننصح بالسعي في طلب هذا الباب من أهل العلم لما له من أثرٍ عظيمٍ في تهذيب النفس، ولقد قيل:

عرفتُ الشر لا للش                            ر لكن لتوقِّيه

ومن لم يعرف الشر                             من الناس يقع فيه

أضف إلى ذلك أن حفظ الجوارح من الحرام بركةٌ في الدنيا فكم من آفاتٍ وبلايا تُصرف ببركة ترك الحرام وكم من نعمةٍ يلقاها العبد ببركة طاعته لربه، فقد جاء في "صفة الصفوة" للحافظ ابن الجوزي في أثناء ترجمته للقاضي أبي الطيب الطبري قال: "حكى لي بعض أهل العلم أن القاضي أبا الطيب صعد في سُمَيْرِيَّة (نوعٌ من السفن) وقد تم له عَشرُ المائة (يعني وكان بلغ من العمر مائة وعشر سنين) فقفز منها إلى الشطِّ فقال بعض من حضر يا سيدنا لا تفعل هذا فإن أعضاءك تضعُف وربما أورث مثل هذه الطَّفرة (الوثبة) فتقًا في المعي (الأمعاء). فقال: يا هذا إن هذه أعضاؤنا حفظناها من معاصي الله فحفظها الله علينا" والمعنى أنه حفظها من الذنوب فبارك الله له فيها وكان بهمة تفوق هممَ كثيرٍ من الشباب في هذا العمر المديد.  

وفي مقابل ذلك كم من أناسٍ قيدتهم الخطايا وفتكت بأبدانهم أكثر مما تفتك الأمراض الحسيَّة فتراهم لا يتأثرون بموعظة ولا ترق قلوبهم لسماع آيات الله ولا يتورعون عن الآثام فتظلم قلوبهم وتتعب أجسامهم، وإذا بك ترى ابن الثلاثين كأنه في الثمانين قد هدَّ الذنب أركان قوته وحطَّم الوزر عنفوان شبابه وربما رأيت بعضهم يفرون من حضور مجالس العلم والذكر والخير كما يفر الجُعل (الخنفساء) من المسك إلى الغائط، ويصدق على هؤلاء قول الله تعالى:{كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون} سورة المطففين. و"الران" الغشاوة على القلب وهو كالصدأ على الشىء الصَّقيل والمعنى أنه لما كثرت معاصيهم وذنوبهم التي كانوا يكسبونها بجوارحهم أحاطت بقلوبهم، فالحذر الحذر.

والحمد لله أولًا وآخرًا.