المراهق الذي أشعل شرارة الثورة في سوريا وعاد ليختمها ترو: مراسلة الشؤون الدولية في اندبندنت
في ذكرى الشهيد السيد محمد باقر الصدر*صفحات من كتاب الذاكرة* / بقلم سماحة السيد علي الأمين
في ذكرى الشهيد السيد محمد باقر الصدر
*صفحات من كتاب الذاكرة*
بقلم سماحة السيد علي الأمين
مجلة الشراع 9 نيسان 2020
... يقول سماحة السيد علي الأمين في بعض مذكّراته عن السيد الشهيد محمد باقر الصدر وعن أحداث زيارة الأربعين للإمام الحسين (ع) في سنة ١٩٧٧م:
... اتخذت الحكومة العراقية إجراءات للتضييق على زوار الإمام الحسين (ع) في ذكرى الأربعين، فأصدرت قرارات بمنع المواكب الحسينية، وقد خرجت على أثر ذلك مظاهرات شعبية في النجف الأشرف، وقد شهدت بعضها في الصحن الحيدري وكان من شعاراتها التي سمعتها (الله، الله، حسين وينا، منعو العادة علينا) والمقصود بالعادة (زيارة الإمام الحسين في كربلاء) وقد تمّ قمعها من قبل السلطات، وقد خنقتني العبرة وقتذاك، ولأني لم أكن أتوقع صدور القمع في ذلك المكان قلت مخاطباً أمير المؤمنين (ع) لقد ظُلِمْتَ يا إمامي حيَّاً وميّتاً.
وفي تلك الأيام ذهبت مجموعة من العلماء وطلاب العلوم الدينية -وكان معظمهم من اللبنانيين- إلى مقر منظمة البعث في النجف الأشرف للإستفسار عن تلك الإجراءات، وكان مقرّ المنظّمة قريباً من مبنى كلية الفقه، وتم الإجتماع مع رئيسها، وكان يدعى على ما أظنّ (عدنان أو إبراهيم سيد خلف) وقد سمعت من خلال النقل أنه قال لهم بأن المواكب الحسينية كانت لنا بمثابة السلّم لوصولنا إلى السلطة، فكيف نسمح باستخدام غيرنا لها! .
ويقول السيد الأمين أنه على الرغم مما جرى من تضييق وترهيب لم تنقطع وفود الزائرين عن التوجه إلى كربلاء في حافلات الركاب وسيراً على الأقدام كما رأيتهم خلال التوجّه مشياً إلى كربلاء، وقبل الوصول إلى بلدة (خان النص) التي تقع بين النجف وكربلاء استوقفتنا سيارة قادمة من كربلاء باتجاه النجف وطلب بعض ركابها منّا الرجوع معهم إلى النجف لأن الأوضاع الأمنية قد تدهورت في كربلاء، وقد فوجئنا بالخبر، وقد رفضنا العودة، وأكملنا المسير باتجاه (خان النص) التي وصلنا إليها ليلاً، وقد بدت خالية حتى من سكانها يخيّم عليها الصمت المخيف والسكون المريب مع أنها الملتقى في تلك المناسبة لتجمعات الكثير من مواكب السائرين إلى كربلاء ! .
وقد استضافنا في تلك الليلة رئيس بلديتها ، وعرفنا من خلاله أن اصطداماً في البلدة قد حصل بين المواكب الحسينية وبين السلطات وتم اعتقال الكثيرين، وكان من شعارات بعض المواكب (يا صدّام شيل إيدك، جيش وشعب ما يريدك) أي، إرفع يدك.
وفي الصباح خرجنا وأكملنا المسير باتجاه كربلاء، وكنا نرى المشاة في الطريق إلى كربلاء، وسمعنا في الأثناء دوي الطيران الحربي في المنطقة، وعند الوصول إلى منطقة (خان النخيلة) فوجئنا بوجود حشد كثيف من الجيش بلباس الميدان وبكامل العدة يقطعون الطريق على المشاة إلى كربلاء ويوقفونهم ويصعدونهم في شاحنات عسكرية، ونحن جاء إلينا رجل أمن وأخذنا إلى ضابط في الموقع وتم اقتيادنا في سيارة تابعة لشرطة النجدة إلى السجن في كربلاء التي وصلناها عصر ذلك اليوم، وفتح السجّان باب السجن وأدخلنا إلى بعض غرفه، وكانت مكتظّة بالمعتقلين، وبعد حلول وقت العشاء من ذلك اليوم جاءت مجموعة من رجال الأمن تخرج المعتقلين من غرفهم وتوقفهم خارجها في طوابير طويلة، وطلب رجال الأمن من تلك الطوابير السير، ولم نعرف الوجهة المقصودة ليتبيّن لنا بعد ذلك نقلنا إلى مبنى مركز محافظة كربلاء الذي وجدناه بعد إدخالنا إليه يعجّ بطبقاته وساحاته بالألوف من المعتقلين الذين كانوا ما يزالون يدفع بهم إليه، وبعد منتصف الليل وازدياد أعداد المعتقلين أحضر رجال الأمن شاحنات عسكرية وطلبوا منا الوقوف في صفوف للصعود إليها قائلين لنا بأن هذه الشاحنات سوف تنقلكم إلى أهاليكم، ولم أصدق هذه المقولة، وقلت في نفسي إنهم يأخذوننا إلى معتقل آخر، وبعد الصعود إلى الشاحنة وامتلائها بالمعتقلين صعد معنا عسكري بسلاحه وأغلقها علينا، وقد علمت من خلال النظر في بعض الثقوب في غطاء الشاحنة أنها لا تسير باتجاه النجف فأدركت أن الوجهة إلى معتقل جديد، وهذا ما كان، فقد تبيّن لنا بعد ساعة من السير تقريباً أن المعتقل الجديد هو معسكر الرشيد القريب من بغداد، وهو يتسع لعشرات الألوف، وبمجرّد وصولنا إليه وإنزالنا من الشاحنات طلب رجال الأمن منا رفع أيدينا واستقبال الحائط بوجوهنا، وتمّ بعد تفتيشنا توزيعنا على غرف هذا السجن الكبير التي لم تتّسع رغم كثرتها لأعداد المعتقلين، وقد نصبوا الخيم الإضافية لاستيعاب أعدادهم، وكانت تلك الغرف صغيرة المساحة، وقد كان في غرفتنا ما يزيد على الأربعين فرداً، بعضهم يلتصق ببعض وقوفاً وقعوداً.
وكانت أبواب تلك الغرف مصنوعة من قضبان حديدية توجد فيما بينها فُرَجٌ تفسح المجال للرؤية، فكان بعضنا يرى البعض الآخر في الغرف المتقابلة، وبعد فترة من توزيعنا على تلك الغرف بدأ استعراضنا من قبل رجال الأمن والمخابرات، وأخرجونا على دفعات، فكانوا يختارون أولا من كان يرتدي اللباس الأسود أو العمامة، ولعل ذلك كان لأجل دلالتهما في تلك المناسبة على أن المرتدي لهما كان من الزوّار الخارجين على السلطة! .
وقد أوقفونا في طابور طويل وبدؤوا بعملية تغطية أعيننا بكل ما توفّر لدى المعتقلين من أغطية للرؤوس وغيرها، وعندما وصل الدور إلي فلم يجد عندي ما يغطي به عينيَّ سوى عمامتي فنزعها عن رأسي وحلّ رباطها وبدأ يلفها على الوجه والعينين، وهكذا فعلوا بسيد أفغاني يقف معي في نفس الصف وكان قد اعتقل معنا في الطريق إلى كربلاء، وفرقت بيننا أماكن الإعتقال إلى أن اجتمعنا في معسكر الرشيد، ثمّ طلبوا منا بعد ذلك الوقوف مثل (القطار) على حدّ تعبيرهم، أي أن يمسك كل شخص منّا بكتف رفيقه.
وساروا بنا ونحن معصوبوا الأعين لا نعرف أين نضع أقدامنا، وبعد إيقافنا عن السير مددت يدي أتلمس بها شيئاً لعلي أستند إليه لأخفف بعضاً من العناء والإرهاق، فاتكأت على شيء لم أعلم ما كانت طبيعته ونزلت أرضاً وبقيت ممسكاً به، وجاء بعض الجلاوزة طالباً ترك الإمساك به ، نسمع صوته ولا نستطيع أن نراه ، قائلاً باللهجة العراقية (عوفه، شنو هذا شباك العباس! ) أي اتركه، فليس هو شباك العباس، ورفسني بقدمه طالباً مني الوقوف مجدداً، وسمعت صوتاً آخر يطلب القيام، فقلت لا أقوى على الوقوف، وتركت على تلك الحال قاعداً.
وبقينا في انتظار السَّوق إلى مراكز التحقيق التي تعرف عندنا بمراكز الموت، وكنت في الأثناء أسمع السيد الأفغاني المجاور لي يستغيث بالله مستشفعاً بالإمام الحسين عليه السلام، وكان صوته المتهدّج يحمل الكثير من علامات العناء والرعب، والحزن والأسى ، وهذا مما ترك أثراً من الخوف في نفسي ، وفي تلك اللحظات حضرت في ذهني صورة الأهل في لبنان ، وأطفالي والعيال في النجف الأشرف، فاشتدّ حزني على الغربة والفراق وخوفي من أن ألا أراهم مجدّداً، وفي تلك الحال التي كنت أتضرع فيها إلى الله تعالى انتقلت إلى ذهني صورة الإمام موسى بن جعفر عليهما السلام، وهو يعاني في سجن الرشيد، وقلت في نفسي عليَّ أن أقتدي بصبره وصموده وتحمّله للصّعاب حتى انتهت حياته بالشهادة، وقلت بأن الطاغية يمكنه أن يسلب حياتي بطلقة رصاص في الرأس، ولكنه لن يستطيع منعي من اللقاء بالأحبّة، لأن هذه الفترة الزمنية التي لا ألتقيهم فيها سوف تنتهي حتماً، وهي ليست شيئاً يذكر من الزمان الطويل عند الله تعالى، وحضرني في تلك اللحظات حديث (من مات وكان آخر كلماته لا إله إلا الله دخل الجنة) وقد يكون بيننا وبين الموت خطوات، فأحسست بعد ذلك بخروج حالة الضعف والخوف من نفسي وحلول القوة والثبات فيها، ونسيت الفرقة والغربة والمعاناة، واستعدّيت لملاقاة الأسوء والأخطر.
وبعد طول مدّة الإنتظار التي بتنا لا نعرف معها دخول الليل أو بقاء النهار أتى من ساقني بيدي وذهب بي إلى مكان وكشف عمامتي التي عصبت بها عن وجهي وعينيّ فوجدت نفسي في الليل واقفاً أمام شخص في مكتبه، وكان يؤتى إليه بأشخاص آخرين من المعتقلين وبين يديه أعوان معهم أدوات التعذيب، كالعصا الكهربائية وخشبة تدخل فيها الأرجل ويتم ربطها بها تثبيتاً للقدمين كي لا يتمكن المعتقل من تحريكهما أثناء الضرب عليهما وكان الصراخ من الألم والإستغاثة تتردد أصداؤهما في المعتقل، وكان تعذيب شخص أمام آخر وسيلة متبعة في تلك الأقبية لبثّ الرعب والترهيب في نفس الآخر قبل التحقيق معه تمهيداً لانتزاع المعلومات.
وبدأ التحقيق معي حول المشاركة في الزيارة وعن معرفتي بالمجموعات التي نظمت التظاهرات، وعن العلاقة بالمرجع الكبير صاحب الفكر الرسالي المستنير السيد محمد باقر الصدر، وعن مرجعيته، وعن العلاقة بحزب الدعوة، ودوره في الأحداث الأخيرة.
وبما أنني كنت قد وطّنت نفسي على توقع الأسوء والأخطر فقد وجدت ما جرى من ترهيب وتوهين أثناء التحقيق دون ما توقّعته، واقتادني بعد ذلك بعض عناصر الأمن إلى خارج غرفة التحقيق ليصل بي إلى غرفة فتح بابها الحديدي وأدخلني إليها ففوجئت بوجود شيخ وحيداً فيها كنت قد التقيته في سجن محافظة كربلاء، وكان قد اعتقل أثناء سيره من النجف إلى كربلاء، وهو كان قد أخبرني أنه يسكن في الكويت وقد قدم منها لزيارة الأربعين ، واسمه الشيخ المحمودي، ولا أذكر الآن إسمه الأول، وقد التقيته بعد سنوات في مدينة (قم) سنة ١٩٨٠، وأخبرت بعد خروجي من إيران سنة ١٩٨٣ أنه قتل في حادث سيّارة، رحمه الله.
وبعدما أغلق السجان باب الغرفة الصغيرة والمفتوحة على غرفة أخرى مثلها بدأ الشيخ يسألني عن أحوالي وعما جرى لي أثناء التحقيق، فحمدت الله إليه وقلت له إني متعب وأريد بعضاً من الراحة.
وبقينا معاً لليلتين أو ثلاث، وكان يتردد فيها علينا بعض الجلاوزة متوعداً ومهدّداً حاملاً بيده سلسلة من حديد يسحب بها المعتقل وفيها قيد لربط يديه، وكان يقول مشيراً إليها:هذه للعملاء والخونة وكان يردّد شعار حزب البعث الحاكم (أمة عربية واحدة، ذات رسالة خالدة) وكنّا في الأثناء نلوذ بالصمت.
وفي ليلة من تلك الليالي دخل علينا جندي يحمل سطلاً من ماء الشرب، وعرض خدماته علينا قائلاً (لا تْخافون، أنا إبن وْلَايَتْكُمْ ، شِتْرِيدُونْ أنا بخدمتكم) أي، ماذا تريدون، أنا حاضر لخدمتكم، أنا إبن مدينتكم، وكان يقصد بها (النجف) .
وكنّا نتضوّر جوعاً، فأوصيناه بشراء بعض من الجبن والخبز، فأتانا به، وشكرناه، ودعونا له، ولم نره بعد ذلك، لتغيّر الأحوال في مكان سجننا الذي كان فسيحاً بالنسبة لنا الإثنين، فقد فوجئنا بعد منتصف الليل وكنا نائمين بفتح الباب مع جلبة شديدة ففتحت عيني لأرى أعداداً بالعشرات من المعتقلين يسوقهم رجال أمن وجنود ويدخلونهم علينا، واطمأنت نفسي عندما رأيت معهم رفيق المعاناة والدرب إلى كربلاء الأخ الشيخ سليم صالح الذي لم أعرف عنه شيئاً بعد أن فرّق بيننا توزيع المعتقلين على غرف السجن.
وبعد طلوع صباح ذلك اليوم كانت قد امتلأت الغرفتان الخاليتان من التجهيزات بالمعتقلين، فقد كان فيهما بعض من غطاء لا يكاد يكفي لاثنين، والأرض عارية، والجوّ بارد في شهر شباط، وقد تمكن بعض المساجين من حمل وإخفاء بعض البطانيات التي كانوا يجدونها في الخارج أثناء العودة من دورات المياه ليلاً، وقد افترشوا بها الأرض، وكان يتم إخراجنا إلى دورات المياه بشكل طابور مرّتين في اليوم فقط، مرّة في الصباح ومرّة في الليل، وقد اضطرّ بعض المساجين بسبب مرض أصابه لقضاء حاجته في زاوية من زوايا الغرفة، ولم يفتح السجان باب السجن على الرغم من تكرر المناداة له وطرق الباب عليه من الداخل .
وبفعل تدفق المعتقلين الجدد علينا ازدادت المعلومات من خلال مشاهداتهم وما وصل إليهم من أخبار، فقد علمنا باعتقال السيد محمد باقر الحكيم، وبإعدام مجموعة من الزائرين وأصحاب المواكب الحسينية، منهم حامل الراية الحسينية الحاج عباس عجينة وآخر من آل أبو گلل، وغيرهم، رحمهم الله.
وجاءنا ضيوف جدد من المعتقلين، وكانوا من الإخوة السوريين وقالوا لنا بأنهم اعتقلوا في بغداد، وكان معنا في السجن رجل مصري قال بأنه اعتقل في كربلاء.
وكنّا في غرفة المعتقل هذه نؤدي الصلاة وننشغل بعدها بالدعاء رافعين أصواتنا مما أثار البعض من رجال الأمن، وقد سمعته يقول مستنكراً ( شنو هذا؟! ، ما نسمع بهاي الغرفة إلا صلاة ودعاء ! ) .
وبقينا على هذه الحال مدّةً قاربت الأسبوعين لا نعرف مصيرنا، وكنا نتوقع في كل يوم عند حلول الظلام أن يأتي دورنا لنساق إلى الإعدام، حيث كنا نسمع بعض أطلاقات الرصاص، وكان يقال لنا بأن حملات الإعدام تبدأ ليلاً.
وفي ليلة جمعة كنا مجتمعين فيها نقرأ الدعاء المعروف بدعاء كميل بعد صلاتي المغرب والعشاء وإذا بالباب يفتح علينا ويدخل علينا رجل أمن منادياً باسمي ( علي الأمين) وباسم شخص آخر هو المصري (ماهر محمد طاها) وطلب منا الخروج فودّعت الأصحاب وأوصيت رفيقي الشيخ سليم بالأولاد والعيال إن كتبت له النجاة، وكانت عائلته وأولاده يقيمون في بيتنا مع العائلة والأولاد بعد انطلاقنا من النجف وتوجهنا معاً إلى زيارة كربلاء.
وكان الإعتقاد السائد هو أن من يؤخذ من السجن في الليل يعني الذهاب به إلى الإعدام، وخرجنا معه، وسار أمامنا طالباً منّا خفض الرأس إلى الأسفل، قائلاً باللهجة العراقية (دَنِّگ راسك) .
وبعد أن قادنا عشرات الأمتار أدخلنا إلى بعض الأبنية المكتظة برجال الأمن والعسكر ثم إلى غرفة من غرف التحقيق مجدّداً، وأوقفنا فيها أمام محقق ومعه أعوان من رجال الأمن، وجرى معنا التحقيق سريعاً وأبلغنا المحقق بإطلاق سراحنا، فطلبت منه أن يعطينا وثيقة بذلك خشية التعرض للإعتقال لدى المرور على الحواجز العسكرية بين بغداد والنجف فرفض الطلب، وهذا مما جعلني أشك في الأمر، ثم اقتادونا إلى الخارج، وكانت هناك سيارة عسكرية يقودها عسكري وإلى جانبه آخر، وطلب منّي ومن المصري رفيقي في السجن الصعود إليها، ودفعني بعض رجال الأمن أثناء التوجه إليها قائلاً (سلّم على موسى صدرك) ويقصد به الإمام السيد موسى الصدر رئيس المجلس الشيعي في لبنان، وكان على خلاف سياسي مع النظام العراقي في أحداث الحرب الداخلية والجارية على الساحة اللبنانية في ذلك الزمان.
وانطلقت بنا السيارة ونحن على شك من المصير، وأخذت السيارة تقطع الحواجز داخل معسكر الرشيد، واستمر سائقها بذلك فترة ربع ساعة أو أكثر حتى توقّف على حاجز عسكري فسأله الرجل الواقف على الحاجز بلهجته العراقية بعدما مدّ رأسه إلى داخل السيارة ونظر إلينا (ذُولَه للإعدام ؟) أي، هؤلاء للإعدام؟فأجابه السائق:لا، إطلاق سراح، فانفرجت أساريرنا بعد أن كانت قد اختفت أنفاسنا بين السؤال والجواب! .
ومضى السائق بنا حتى وجدنا أنفسنا خارج المعسكر في شارع عام تجتازه حافلات وسيارات فطلب السائق منا الترجّل من سيارته العسكرية، فنزلنا في منطقة نجهلها، ووقفنا على جانب الطريق نسأل عن وسيلة نقل تقلّنا إلى كاراج بغداد العمومي، وصعدنا في حافلة عمومية تسمّى ب (الأمانة) تابعة لأمانة النقل العام الحكومية، وبعد مدة تقارب ثلث ساعة أو تزيد وصلنا إلى كاراج بغداد العمومي، وكان الوقت قريباً من منتصف الليل، وهناك افترقت عن صاحبي المصري بعد الوداع، فهو توجه إلى جناح السيارات المعدّة لنقل الركاب إلى مدينة كربلاء التي كان يقيم فيها قبل الإعتقال، وأنا توجهت إلى جناح مدينة النجف، وجاءني سائق سيارة أجرة مبدياً استعداده النقل إلى النجف، ويبدو أنه كان معتاداً على نقل معتقلين خرجوا قبلي، فقد قال لي:الحمد الله على السلامة، أَلآن خرجتَ من المعتقل؟.
وقد طلبت منه الإنتظار توقّعاً لمجيء ركاب آخرين كي لا أكون الراكب الوحيد، وقد كنت أخشى أن يثير وجود راكب واحد في السيارة تساؤلات رجال الأمن الذين كنت أتوقع في تلك الظروف انتشارهم على الحواجز بين بغداد والنجف، وليس لديّ مستند يثبت إطلاق سراحي، فقد يحصل اعتقالي مجدّداً.
وانتظرت فترة ولم يأت أحد ، فوافقت معه على الإنطلاق، وأثناء السير عرّفني بنفسه وأنه من مدينة الكوفة القريبة من مدينة النجف، وأنه من آل الأسدي، وبعد ذلك أخذ يسألني عما جرى لي، وكنت حذراً في إجابتي لعدم معرفتي به من قبل، وروى لي بعضاً مما نقله له بعض المعتقلين من الذين أقلّهم بسيارته في ليالٍ سابقة.
وكانت الطريق من بغداد باتجاه النجف شبه خالية إلا من سيارات قليلة، مما يشير إلى وجود حالة طوارئ في المنطقة، وعند وصولنا إلى مدينة الحلّة توقّف السائق فيها قرب بعض المطاعم ودعاني للنزول لتناول العشاء فشكرته وبقيت في السيارة، وكنت أخشى النزول لأنني كنت أظنّ أن ظهوري كمعمّم في ذلك الوقت المتأخر من الليل وفي تلك الظروف غير الطبيعية قد يثير التساؤل في منطقة تخضع للرقابة.
وكان بقربي وأنا داخل السيارة صاحب عربة يعرض عليها بعضاً من البرتقال للبيع، فتذكرت الأطفال وقلت في نفسي:أحمل لهم شيئاً لعلّي أدخل به السرور عليهم بعد الغياب، فناديت البائع من داخل السيارة وابتعت منه (٢كلغ) ، وعاد السائق بعد تناوله العشاء، وقاد السيارة باتجاه النجف مقصدنا، وما أن قطع عشرات الأمتار، ووصلنا قريباً من خزّان المياه في مدينة الحلّة حتّى قطعت علينا الطريق سيارتان مدنيتان تقادان بسرعة، وأشار من فيهما علينا بالتوقّف، وترجل منهما عدد من رجال الأمن بلباس مدني شاهرين السلاح باتجاه سيارتنا، ووجّهوا إلينا على الفور تهمة العمل على تفجير الخزّان، وصعد معنا إثنان منهم بسلاحهما في المقعد الخلفي من السيارة، وقدمت لهما كيس البرتقال للضيافة ولأقول لهما ليس معنا سلاح وأدوات تفجير سوى هذا فرفضا الضيافة، وقلت لهم بأني كنت معتقلاً في معسكر الرشيد وقد خرجت منه بعد إطلاق سراحي قبل ساعات، وأنا الآن متوجه مع السائق لإيصالي إلى مسكني في مدينة النجف، ولم يأبهوا لكلامي، ولا لكلام السائق، فقد حصلوا في هذا الليل البهيم على صيد ثمين ألبسوه تهمة كبيرة، وقد يحصلون بسببه على مكانة وحظوة من قيادتهم المحلّيّة! .
وقد اقتادونا إلى إدارة الأمن المركزي في مدينة الحلّة، فتحقق ما كنت أخشاه عندما طلبت من المحقق لدى إخراجي من معسكر الرشيد مستنداً بإطلاق السراح لإبرازه على الحواجز حيث تدعو الحاجة إليه منعاً لتكرار الإعتقال.
ووصلوا بنا بعد قليل إلى المركز المذكور وقد فوجئنا بكثافة رجال الأمن في خارجه وداخله، وأنزلوني من السيارة واقتادوني إلى غرفة فيها رجال أمن، وطلب مني بعضهم الجلوس على كرسي، وبدأ آخر بالتحقيق معي من جديد، فرويت له قصة الإعتقال وإطلاق السراح وطلبت منه الإتصال بالمسؤولين في معسكر الرشيد للإطلاع منه على حقيقة ما قلته له.
وطال الإنتظار، وخشيت على السائق من أن يعتقل بسببي أو أن يتركني وحيداً في تلك البقعة التي ليس لي فيها أهل ولا عشيرة، ولا أعرف وجهة السير فيها.
وبعد مرور ساعتين أو أكثر تمّ إخراجي من التوقيف، وفوجئت ببقاء السائق في انتظاري، فصعدت معه وشكرته ودعوت الله له، وقد كان من الأوفياء، وقد روى لي أثناء قيادته السيارة من الحلّة باتجاه النجف تعرّضه للتهديد باعتقاله واحتجاز سيارته من قبل رجال الأمن، وطلبوا منه الإدلاء بمعلومات مما سمعه منّي، وقد كان بإمكانه أن يقول لهم ما يريدون نأياً بنفسه عن الأخطار وتحمل الأضرار، فجزاه الله عنّي خير الجزاء.
ووصلنا إلى النجف قبل طلوع الشمس، وكانت الشوارع خالية من السيارات ومن المارّة على غير العادة في مثل هذه الأوقات، وعندما أنزلني في شارع الرسول-الجادة الخامسة-بدا مقفراً وموحشاً، فودعته وطرقت الباب خائفاً من وجود غير ظاهر لرجال الأمن في الشارع، وفتح الباب واجتمع الشمل مجدّداً مع العائلة وفلذات الكبد، والحمد لله رب العالمين.
وقبل ظهر ذلك اليوم، وأظنه كان يوم جمعة، ذهبت إلى ديوان الأستاذ الكبير السيد محمد باقر الصدر لأنقل له ما دار حوله من أسئلة أثناء التحقيق معي ومع غيري مما سمعته من المعتقلين الآخرين، وقلت له على انفراد خلاصة ما دار :
إن القوم لا يريدون سواك، واقترحت عليه فكرة الخروج من العراق إلى لبنان أو إلى الشام، فإن العلم والحوزة يكونان حيث تكون، وسيسعى إليك طلاب العلوم الدينية من كل أنحاء البلاد، وقد استحسن الفكرة وأجابني قائلاً بأنني لا أغادر النجف لأمرين: الأول، إن النجف مهوى أفئدة الشيعة في العالم ففيها الإمام علي عليه السلام، وهي المركز التاريخي للعلم والعلماء عندنا، والثاني، وهو الأهمّ عندي، أني ماذا أقول لعوائل الشهداء وإخوانهم، وماذا أقول لغيرهم من أهالي المعتقلين الذين يقبعون في السجون! كيف أتركهم ؟! .
وقد أعطاني بجوابه هذا درساً في وفاء القائد ونكران الذات واستعداده للتضحية في سبيل رسالته.
وقد عرضت عليه مرّة أخرى فكرة الخروج من العراق في زمان الحصار الذي فرضه عليه النظام سنة ١٩٨٠ قبل استشهاده رحمه الله، وسيأتي الحديث عن هذه المرحلة في أحداث سنة١٩٧٩ بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران وإعلان السيد الشهيد عن تأييدها، ومجيء الوفود الشعبية إلى النجف دعماً لمواقف السيد الشهيد منها.
-في سنة ١٩٧٨ بدأت تتصاعد أحداث الحراك الشعبي ضد نظام الشاه في إيران خصوصاً بعد فترة وجيزة من وفاة النجل الأكبر للسيد الخميني، السيد مصطفى الخميني، في النجف الأشرف، وقد كان من العلماء الأجلاء والبارزين في الحوزة العلمية، وكان يلقي دروسه في الفقه والأصول في مسجد الشيخ الأنصاري المعروف بمسجد الترك، وكان يتقن التحدّث باللغة العربية واللهجة العراقية.
وقد كانت وفاته مفاجئة وغامضة، وسرت شائعة اغتياله بالسم على يد مخابرات الشاه ، وقد ذهبت الوفود الكثيرة من طلاب الحوزة وعلمائها إلى منزل والده السيّد الخميني لتعزيته، وكنت في عداد وفد من الطلبة اللبنانيين وبعض العلماء ، وكان منهم على ما أذكر المرحوم الشيخ جعفر الصائغ الذي ألقى كلمة في المناسبة.
وكان من الطبيعي أن تنعكس تلك الأحداث المتصاعدة في إيران على حوزة النجف الأشرف مقرّ إقامة السيّد الخميني الذي كان يظهر معارضته للشاه بوضوح في كتاباته وفي توجيهاته لطلابه ولأنصاره داخل إيران وخارجها.
وقد انقسمت حوزة النجف ومرجعياتها الدينية في تلك المرحلة بين مؤيدين لتدخل رجال الدين في المعارضة الجارية في إيران ، وبين رافضين لها ولتدخلهم فيها، وبين ساكتين عن تلك الأحداث.
وبعد أن ظهر في وسائل الإعلام العالمية مدى تأثير السيد الخميني في الشارع الإيراني المنتفض على نظام الشاه خشي النظام العراقي من انعكاسات تلك الأحداث على الداخل العراقي حيث أصبحت مدينة النجف التي يقيم فيها السيد الخميني محط الأنظار ومقصداً للسائلين والباحثين من رجال السياسة والفكر والإعلام، يأتون إليها طلباً لمقابلة منه حول ما يجري على الساحة الإيرانية، وهذا أمر لم تعتد عليه النجف من قبل، ولا يروق للنظام العراقي أن تصبح النجف مرجعية سياسية، ولهذا السبب طلب النظام العراقي من السيد الخميني الخروج من العراق، وقد سمعنا أن إخراجه كان استجابة لطلب من نظام الشاه، ويمكن أن يعود السبب للأمرين معاً.
وقد شكل إخراجه منها في تلك الظروف صدمة لنا، ولكن حوزة النجف العلمية لم يظهر عليها التأثر بذلك، وبقيت الدروس فيها على حالها لم تنقطع، ولم نسمع من مرجعياتها الدينية استنكاراً لما حصل.
وقد توقع كثيرون أن يعود الهدوء إلى النجف بعد إخراج السيد الخميني منها وأن يتم عزلها عن الأحداث الجارية في إيران، ولكن الذي حصل كان خلاف ذلك، فبعد سماعنا بوصول السيد الخميني إلى باريس لم تتوقف تلك الأحداث، بل استمرّت المواجهة لنظام الشاه وازدادت وتيرتها، وهذا ما كان يصلنا من متابعة وسائل الإعلام الخارجية التي كان لا يتاح لنا التقاط إذاعاتها بوضوح في غير ساعات الليل .
وبدأنا بعد ذلك نرى في النجف وفوداً من الشباب من المدن والقرى تأتي إلى زيارة السيد محمد باقر الصدر معلنة تأييدها لموقفه العلني المؤيد للسيد الخميني وحركة الشعب الإيراني.
وكان يقود تلك الوفود الشعبية إلى النجف وكلاء السيد محمد باقر الصدر في تلك المدن والقرى من أهل العلم وأئمة المساجد.
ولم تكن مألوفة لدينا مثل هذه التحركات التي تحمل الطابع السياسي المعارض في العلن لتوجهات النظام العراقي الذي كان يمنع من تشكيلات الأحزاب السياسية المخالفة له خصوصاً الدينية منها، وظهر ذلك في قيامه بإعدام مجموعة من العلماء في سنة ١٩٧٤بتهمة الإنتساب إلى حزب الدعوة، ومنهم المرحومون الشيخ عارف البصري والسيد عماد التبريزي والسيد عز الدين القبانجي وغيرهم، وتكرر ذلك القمع بعد الذي قام به النظام من اعتقال لألوف المشاركين في ذكرى الأربعين سنة ١٩٧٧ وإعدامه للعشرات منهم.
وقد حدث نقاش داخل الحوزة حول هذه التحركات، عن جدواها ومخاطرها، وقد اختلفتُ مع بعض وكلاء السيد الصدر ممن كان يأتي بالوفود إلى النجف، وكنت من المستمعين لآرائه وأفكاره وإرشاداته، فهو كان أكبر منّي قدراً وسنّاً وأوسع تجربةً، وأقدم زماناً في الإنتساب إلى الحوزة، وقد قلت له في غمرة تلك الأحداث إن ما تقومون به اليوم يخالف ما تعلمناه من كتابات الأستاذ السيد الصدر ، ويتنافى مع ما كان يتلى علينا في حلقات الدروس السرّية لحزب الدعوة، حيث كنا ندرس فيها أن رسالتنا فكرية انقلابية، وأن الترتيب بين المراحل ضروري، فالتغيير يحدث طبيعيّاً في الأمّة بعد حصولها على المعرفة بمضمون رسالتها، وهذا يعدّ شرطاً لإبعاد غربتها الفكرية عنها، وأن المرحلة التي تمرّ بها الرسالة الإسلامية في عصرها الحاضر هي مرحلة فكرية-وليست سياسية-نعمل فيها على تثقيف الأمة وتعريفها بإسلامها، وهي مرحلة تحمل طابع السّرّيّة ، وليست علنيّة ، فلا صراع فيها مع الحاكم على السلطة ولا نزاع ، وإنَّ الدخول في المرحلة السياسية العلنيّة وتجاوز تلك المرحلة الفكريّة التي لم نزل نحن اليوم نعيش فيها سوف يعرض الدعوة والدعاة إلى الخطر.
وقلت له أيضاً لا يجوز أن نغترّ بسكوت النظام العراقي عن مثل هذه التجمّعات واللقاءات التي تبدو خطوات متسرّعة وغير مدروسة يغلب عليها الطابع العاطفي، والنظام نعرف بطشه وظلمه، وقد يعطي فرصة لِتَحَرُّكِ هذه الجماعات في العلن لينكشف له حجمها وعناصر تنظيمها ومدى تأثير قيادتها في الشارع وبعد ذلك يطبق عليها في مرحلتها الجنينية قبل اكتمال نموِّها واشتداد عودها.
ولم تدم تلك التّجمّعات والتّحرّكات طويلاً، فبعد قيام النّظام العراقي بإبعاد السيّد الخميني عن العراق بدأ خطوته التالية بحملة اعتقالات واسعة في صفوف وكلاء السيّد الصدر وبمنع تلك التّجمّعات بعد فضّها بالقوّة وملاحقة عناصرها.
وأتذكر أنني في يوم جمعة من تلك الأيام التي تلت إبعاد السيد الخميني كنت أقوم بزيارة معتادة في أيام العطلة لمنزل الأستاذ السيد نصرالله المستنبط ، وقد خرجت من عنده قبل موعد صلاة الظهر، وما أن وصلت إلى شارع الإمام الصادق حتى فوجئت بحشود غفيرة من الشباب ووجوه جديدة متوجهة نحو مقام أمير المؤمنين عليه السلام، وعندما وصلت إلى شارع مسجد الخضراء المجاور للمقام وجدت تلك الحشود تدخل إليه وكان المرجع السيّد الخوئي يقيم فيه الصلاة، وقد حدثت لدي رغبة في المشاركة مع تلك الجموع في الصلاة، فدخلت المسجد ووجدته ممتلئاً بطابقيه بالمصلين، وقد حصلت بصعوبة على مكان داخل المسجد في الصفوف الأخيرة من الطابق الأرضي.
وما أن انتهت الصلاة حتى علت أصوات المصلّين المحتشدين بالصلوات على محمد وآل محمد، وبدأ قسم منهم بالخروج من باب المسجد من جهة السوق الكبير قاصدين المقام وحينذاك فوجئنا بإغلاق باب المسجد وقيام قوات الأمن والشرطة بضربهم بعنف وقسوة والإشتباك معهم واعتقالهم وسوقهم إلى عربات عسكرية جاهزة، وبقيتُ مع العشرات داخل المسجد، وكنّا نشاهد عملية القمع من الزجاج الشفاف لنوافذ المسجد المطلّة على الشارع، وكان السيد الخوئي لا يزال في المسجد، وقد تجمّعنا حوله بانتظار ما ستؤول إليه الأمور، وبعد إنهاء عناصر قوات الأمن لمهمّتهم خارج المسجد فتح بابه وجاء بعضهم معطياً الإذن بالخروج للسيّد الخوئي وقام بمساعدته على النهوض والسير معه وإيصاله إلى سيارته بعض من أفراد حاشيته المرافقين له، وقد سرت خلفهم، وعند وصول المساعدين بالسيد إلى باب المسجد فتحه الممسكون به من عناصر الأمن، وما أن خرج السيد الخوئي ومساعدوه من الباب حتى همّ الممسكون به بإغلاقه وراءهم ومنعي من الخروج، فقال واحد منهم (عُوفَه، هذا وْيَاهُمْ) باللهجة العراقية، أي دعْهُ يمرّ، هذا مع السيد الخوئي وجماعته، فخرجت معهم من باب المسجد وصعد السيد بمساعدة مرافقيه إلى سيارته وأغلقت قوات الأمن باب المسجد بعد خروجنا منه على من تبقى من المصلّين، وسرت في الطريق وحيداً إلى محلّ سكني الكائن بعد شارع الرسول في الجادة الخامسة القريبة من شارع المدينة، وقد بدت ساحات المقام والشوارع المحيطة به والموصلة إليه مقفرة وموحشة وقد خلت من المارّة والزائرين، وكانت أبواب المكتبات والمتاجر والمطاعم والحوانيت مغلقة بعدما كانت مكتظّة بجموع الناس قبل ساعتين تقريباً.
وعلمنا في اليوم التالي أن قوات أمنية اقتادت السيد الصدر إلى بغداد، وأعادوه بعد ذلك إلى النجف في اليوم التالي أو في اليوم الذي بعده على ما بقي في الذاكرة.
وقد انتشرت عناصر من القوات الأمنية بلباسها غير العسكري حول منزل السيد الصدر الكائن في محلّة العمارة القريبة من المقام، وكانت تلك الإجراءات خطوة فرضت عليه ما يشبه الإقامة الجبرية، ولعلها كانت لمراقبة الداخلين عليه والخارجين من عنده، ولاختبار مدى ردّة الفعل لدى الحوزة والنّاس على التضييق عليه.
وفي تلك الظروف الأمنية قلّ الزائرون له، ولم نعد نرى أثراً لتلك الوفود الشعبية في النجف، ولم تقم الحوزة بأي عمل يظهر الرفض لما جرى ويجري من أحداث.
وبعدما أصبح السيد الصدر في شبه عزلة تامّة وتحت المراقبة المشدّدة أذكر أني ذهبت إلى زيارته في بعض تلك الأيام الموحشة، فوجدته وحيداً في منزله، وبعدما خرجت من منزله تبعني بعض رجال الأمن واستوقفني وسألني عن إسمي طالباً هويّتي الشخصية، وتكرر هذا السؤال عدّة مرّات في زيارات أخرى.
وأذكر أنني عرضت على السيد الصدر في بعض تلك الزيارات فكرة للخروج من العزلة وفك الحصار، وهي أن يقوم سماحته بزيارة المراجع كالسيد الخوئي وغيره في تلك الظروف فقال لي لا مانع عندي من القيام بذلك، ولكن خروجي لزيارتهم لن يساهم في رفع الحصار لأنني إذا ذهبت اليوم أو غداً لزيارتهم وعدت بعد ذلك فلن يتغيّر شيء وتبقى العزلة والحصار، ولكن لو قاموا هم بذلك فسوف يشجعون الآخرين من طلاب الحوزة وعلمائها وغيرهم، والنظام لن يجرؤ على اعتقال الجميع، وبذلك ينكسر الحصار وتبعد العزلة.
وقد أعجبت بإجابته وحملتها كفكرة إلى بعض كبار أهل العلم من طلابه اللبنانيين والذين كانوا إليه من المقرّبين والذين كانوا يحظون في أيام الرخاء بالصفوف الأولى لديه، وقلت لهم إذا ذهبنا على شكل جماعات بقيادتكم لزيارة السيد الصدر على نحو متكرر كما كان يحصل في الأيام العادية فإن هذه الخطوة يمكن أن تشجع آخرين على القيام بمثلها ، وبذلك نساهم في فكّ الحصار عن سماحة السيد، ولن يتجرأ النظام على القيام باعتقالنا جميعاً، ولم أحصل على موقف إيجابي منهم، فقد كان الخوف من النظام مسيطراً على الحوزة بكبارها وصغارها وعلى عامّة الناس من ورائهم.
وبعد خروج الشاه من إيران عاد السيد الخميني إليها وتطورت الأمور سريعاً واشتدت الإشتباكات في تهران مع لواء الحرس لقصور الشاه، وقد فرّ رئيس الوزراء شاهبور بختيار وسقطت قصور الشاه وسقطت معها تهران وسائر المدن بيد الثائرين وأعلن بعد ذلك عن انتصار الثورة الإسلامية في إيران في العاشر من شهر شباط سنة ١٩٧٩وانتقلت هذه الأخبار إلى النجف، وأعلن السيد الصدر في ذلك اليوم عن سروره بهذا الإنتصار الكبير وعن تأييده للعهد الجديد واعتباره يوماً مشهوداً في التاريخ المعاصر، وانتشر بيان التأييد في شرائط التسجيل.
وقد فرحنا معه بهذا الإنتصار، ولكنها كانت فرحة في داخلنا لا يمكننا التعبير عنها وكان يخالطها الخوف من ردّة فعل النظام .
وبدأ استياء النظام العراقي يشتدّبعد البرقية الجوابية من السيد الخميني لرئيس الجمهورية العراقية أحمد حسن البكر الذي أرسل له برقية تهنئة بالمناسبة، وقد سمعنا عبر وسائل الإعلام أن البرقية الجوابية تضمّنت طلب رفع يده عن الشعب العراقي، وهذا مما أثار الإستغراب لدينا والمزيد من المخاوف، وأذكر أنني كنت أسير بعد خبر البرقية في شارع الإمام الصادق مع السيد علي بدر الدين الذي كان لديه اطلاع على مواقف السيد الصدر من الثورة بسبب مشاركته في لقاءات كانت تعقد معه من بعض الشخصيات المرسلة من قبل الحكومة العراقية للقائه قبل فرض الحصار عليه وبعده بغرض التفاوض معه للتراجع عن موقفه المؤيد للثورة الإسلامية في إيران، وتحدثنا بشأن البرقية الجوابية ومواقف السيد الصدر وكان يبدو على السيد علي بدر الدين الإضطراب واليأس.
وبعد عدة لقاءات عقدت مع السيد الصدر في فترات زمنية مختلفة من تلك المرحلة جاءني السيد علي بدر الدين وطلب مني مصاحبته إلى زيارة مسجد الكوفة والمعالم الدينية الأخرى فيها ، وقد فاجأني بما أوحاه لي أثناء الزيارة بأن هذه الزيارة بالنسبة إليه ستكون زيارة وداعية، وأنه سوف يسافر بعدها إلى لبنان، وقد عاد إلى لبنان وتم اغتياله في جنوب لبنان في قريته حاروف بعد فترة وجيزة من إعدام السيد الصدر في العراق رحمهما الله.
ومن المواقف التي بقيت في الذاكرة من تلك الأيام التي اشتد فيها الحصار والمراقبة على السيد الصدر بعد البرقية الجوابية خرجت بعد الإنتهاء من درس السيد الخوئي في مسجد الخضراء وتوجهت إلى زيارته، وكان وحيداً كما في مرّات سابقة، وكنت قد أخبرته في بعضها عن وصول بعض وكلائه من الذين كانوا قد اعتقلوا في الأحداث الأخيرة إلى لبنان، وقد فاجأني بإعداده بعض الإجازات الشرعية لهم والمكتوبة بخطّ يده، وطلب منّي إيصالها إليهم، فخرجت أحملها، وبعد وصولي إلى البيت قرأتها-وكانت غير مغلقة-فوجدتها بدون تاريخ! فقلت في نفسي لعلّه بسبب ما يمرّ عليه من أحداث جسام نسي كتابة التاريخ عليها ! ولكني أدركت بعد ذلك أن السبب يعود إلى احتمال إمساك رجال الأمن بها بعد مغادرتي له واطلاعهم على تاريخها مما يعطيهم مستنداً على بقاء الإرتباط بينه وبين أعداء النظام.
وقد ضرب لي بموقفه هذا وعدم نسيانه لوكلائه وأصحابه على رغم آلامه وهمومه مثلاً وأعطاني درساً بليغاً في وفاء القيادة وتضحياتها في أحلك الظروف والأوقات.
وبعد فترة وجيزة من انتصار الثورة في إيران بدأنا نلتقط في بعض ساعات الليل إذاعة عبادان، وكانت تنقل للمستمعين بعضاً من أخبار المسؤولين في قيادة الثورة وبعض خطب أئمة الجمعة وأناشيد ثورية، وقد سمعت منها في بعض الليالي خبراً عن برقية أرسلها السيّد الخميني إلى السيّد الصدر يطلب فيها بقاءه في النجف الأشرف، وفي بعض تلك الليالي التي كنت أستمع منها إلى برنامج جديد كانت تبثّه بشكل يومي تحت عنوان (عراق اليوم يبحث عن حسين) إتصل مذيع البرنامج هاتفياً بسماحة السيد الصدر، وقد اتّسمت إجابات السيّد بالجرأة والوضوح، فهو قد جدّد في هذا الإتصال تأييده للسيّد الخميني، وأعلن فيه بوضوح عن كونه كالمعتقل في بيته، وهو اتهام علني للنظام العراقي بالتضييق عليه ومحاصرته، وقد خشيت من عواقب هذا الإتصال الهاتفي ، وقلت في نفسي بأن النظام سوف يقطع عنه الهاتف بعده، لأن طبيعة النظام الأمنية والقائمة على القمع والترهيب لا تسمح بإظهار أي نحو من المعارضة له.
وبقيت متابعاً لهذا البرنامج بعد ذلك، ولم أعد أسمع فيه أخباراً عن اتصالات مباشرة مع السيد الصدر.
وكنت من المتوقعين بعد انتصار الثورة في إيران أن يقوم النظام الجديد فيها بخطوة تؤدي إلى فك الحصار عن السيد الصدر، وهذا ما لم يحصل، وقد صار عمر الثورة سنة أو أكثر بقليل! .
وقد اشتدّ الحصار على السيد الصدر بسبب مواقفه العلنية المؤيدة للثورة وخصوصاً بعد الإتصال الأخير به من أذاعة عبادان وطالت مدّته وازدادت عزلته، وبقيت مواقف الحوزة في الداخل على وضعها السابق بدون استنكار ولا زيارات له، والدروس فيها مستمرّة وكأنّ شيئاً لم يكن ! .
وفي ظلّ هذه الأوضاع الشديدة التي كانت تمرّ على النجف وعلى السيد الصدر خطرت في بالي فكرة، فصممّت على أن أقوم بزيارة سماحة السيد لعرضها عليه ومعرفة رأيه فيها، وذهبت في اليوم التالي بعد الإنتهاء من درس السيد الخوئي والتقيته وكان كالعادة وحيداً وقد بدت عليه علامات الضعف والنحول في جسده، وفي هذه الجلسة أنحى باللائمة على أداء النظام الإيراني الجديد وقال بحرقة هذه العبارة حرفيّاً (زَجُّونَا وعَافُونَا) ! مبدياً استغرابه من عدم إتاحة قيادته الفرصة طيلة هذه المدّة لقيام وجوه من الحوزة من وكلائه الذين خرجوا من العراق ووصلوا إلى إيران بمخاطبة الجمهور العراقي الذي يعرفهم لكي يعملوا على تعبئته بآرائهم وأفكارهم حول الأحداث الجارية في النجف خصوصاً وفي العراق عموماً، فهم أكثر خبرة واطلاعاً من غيرهم وأكثر قرباً له والتصاقاً به من الذين تنشغل بهم بعض وسائل الإعلام.
وفي تلك الأثناء عرضت عليه الفكرة التي كنت أحملها، وهي تتمحور حول خروجه من العراق، وقلت له بأن لدي فكرة تتطلب مني الذهاب إلى لبنان لألتقي هناك بالشيخ محمد مهدي شمس الدين وكان وقتذاك نائباً لرئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى وبالأستاذ حسين الحسيني الذي كان حينها رئيساً لحركة أمل لأبحث معهما عن طريقة لإيجاد وسيلة تمكنكم من مغادرة العراق بعيداً عن أعين النظام فقال لي (هذه فكرة سابقة لأوانها) !
وخرجت بعدها من داره قائلاً في نفسي لعلّ لديه معطيات أخرى تجعله على أمل الإنتهاء من الوضع الذي هو فيه.
وقد تسارعت الأحداث فبعد عودتي من زيارته -التي لم أتوقع أن تكون الأخيرة-ففي تلك الليلة أو في الليلة التي تلتها بينما كنت أستمع إلى إذاعة (مونت كارلو) سمعت خبراً عن محاولة اغتيال طارق عزيز في جامعة المستنصرية قام بها المدعو سمير نور علي، وعلى الفور انتقل ذهني إلى أن النظام العراقي سيحمل السيد الصدر مسؤولية هذه العملية، واستيقظت صباحاً وذهبت لحضور درس السيد الخوئي فسمعت من بعض أهل العلم أن قوات من رجال الأمن اعتقلت السيد الصدر واقتادته إلى بغداد، وكنا نتوقع إعادته كما جرى في المرّة السابقة، وانتظرنا أياماً ولم نسمع بخبر عن الإفراج عنه، ولم نلمس أي تحرك ضد اعتقاله من قبل الحوزة ومراجعها ولا من النظام الجديد في إيران، فاشتد قلقنا وازداد خوفنا.
وذات صباح بعد تلك الأيام التي طال فيها الترقب الإنتظار لخبر عن السيد الصدر كنت سائراً في باب الطوسي متوجّهاً إلى درس السيّد الخوئي التقيت أحد كبار طلاب السيد الصدر ومعتمديه وهو السيد محمد باقر الحكيم فتقدمت إليه وألقيت التحية عليه وسألته عن السيد الصدر فأجابني بأن السيد قد أعدم ودفن ليلاً في النجف، وكررت عليه السؤال وعن إمكان نقل الخبر إلى لبنان وأنه على نحو اليقين، فقال: نعم، فصعقت لهذا النّبأ الفظيع، فعزّيته وذهبت مسرعاً إلى مسجد الخضراء متوقّعاً أن أجد انتفاضة فيه على هذا النّبأ من الحوزة وزعيمها، فوجدت الدرس قائماً والمشايخ والسادة من الطلاب يستمعون إلى السيد الخوئي وهو يتلو درسه في الفقه عليهم، وكأن شيئاً لم يحصل، فخرجت من قاعة المسجد أثناء إلقائه الدرس وفي صدري غضب عارم على هذا الصمت والسكوت، وذهبت إلى محل الحاج شهيد العبايجي المجاور للمسجد منتظراً انصرافهم من الدرس قائلاً في نفسي لعلّ شيئاً ما يحدث أثناء خروجهم أو بعده، وخاب الظنّ! فالحوزة لم تجرؤ على الإعلان عن (وفاته) ولم تجرؤ على إقامة مجلس فاتحة عن روحه! .وقد أظلمت الدنيا في نفسي واشتدّ فيها الحلك وكأنما أطبق عليها الفلك، واستحضرت في ذهني الإمام الحسين الذي بقي وحيداً والذي يبكون عليه في مجالسهم ويقيمون له المآتم منذ مئات السنين ويطلقون فيها التمنيات بنصرته! واستحضرت الإمام الكاظم الذي يبكون على مصيبته أيضاً، وقد بقي زمناً طويلاً في سجون الرشيد، ولم يعمل شيعته على إخراجه من محبسه، بل لم يجرؤ أحد منهم على زيارته طيلة مدّة سجنه حتى قضى فيه، وقد أخرجه السجان وأعوانه بعد ذلك وألقوا جثمانه على جسر بغداد طالبين من المارة التعرّف عليه وأخذه لدفنه! .
وها هو التاريخ يعيد نفسه، فهذا السيد محمد باقر الصدر سليل الإمام الكاظم ووارث الإمام الحسين عليهما السلام أصيب بما أصيب به أجداده من الأئمة الطاهرين، رحمه الله وأعلى مقامه في جنان الخلد مع الشهداء والصدّيقين وحسن أولئك رفيقاً، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وفي اليوم التالي رحلت مع العائلة إلى لبنان ونقلت نبأ الفاجعة إلى الشيخ محمد مهدي شمس الدين في مدينة الزهراء حيث كان المقر المؤقت للمجلس الإسلامي الشيعي الأعلى.