الشرق الأوسط الجدديد تقسيم جفرافي ديموغرافي أم تقاسم نفوذ / المؤرخ والكاتب السياسي د. حسن محمود قبيسي
الشراع 16 كانون الأول 2024
يعيش العرب اليوم مخاض ولادة الشرق الأوسط الجديد البديل أو النسخة المعدلة عن تقاسم اتفاقيات سايكس -بيكو الإنكلو فرنسية ؛والمتناغم مع المصالح االأمريكية التي جعلته (الشرق الأوسط الجديد) عنوان تدخلها في حرب صيف تموز – يوليو 2006 بين حزب الله و العدو الصهيوني.
قرأه معنيون عرب قراءة سطحية على أنه تفتيت جغرافي ديموغرافي مستجد للوطن العربي، أكده وكرسه تزاحم الكوارث والاقتتال بين المكونات في الأقاليم العربي و أبرزها في العراق و السودان وليبيا وسوريا منذ ذلك التاريخ حتى اليوم ، وأسوء صوره كان في ما سُمي تضليلًا الربيع العربي، وفي استبداد الأنظمة العربية ما يبرره .
وقرأناه كمؤرخين في ومن على صفحات من كتب التاريخ ومتابعين مراقبين ومشاركين ومناضلين ، و معايشة لأزمات واضطرابات وفتن بين الفئات الشعبية لشعوب الأمة العربية، قرأناه تدخلات أجنبية سافرة بأولويات متعددة على خلفيات متنوعة و متنافرة أحيانًا، لا أحادي الهدف و الوسيلة .
في العصر العثماني جندت السلطنة فقهاء السلطان لإخضاع المؤمنين العرب لقهر السلاطين طاعة لله ولرسوله ، مقرنين طاعتهما المطلقة بطاعة السلطان المشروطة بسند لحديث شريف :
(أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ) [النساء:59] وتجاهلوا الحديث: " إنما الطاعة في المعروف "؛
فسادت مفاهيم الخنوع والتسليم لأمر الحاكم، واستفلت فرنسا و بريطانيا النقمة العربية الشعبية فحرضت نخب عربية وفي مقدمتها نخب لبنانية ضد السلطنة فخرجت عن طوعها ؛ فأعدم الوالي جمال باشا السفاح طليعة مثقفة بعدما فشل باستقطابها واستخدامها للإنقلاب على السلطنة -وهو من ولاتها -، وثلة من المتعاونين مع فرنسا بمطامعها الاستعمارية، ثم كانت حركة الشريف حسين بإقامة مملكة في بلاد الشام وتراجعه بعدما نزل عند الإرادة الفرنسية و « النصيحة» البريطانية ،فتقدمت ثقافة الرفض الشعبي بقيادة وزير الدفاع يوسف العظمة بثورة ضد الانتداب الفرنسي و قصف دمشق بالطيران الفرنسي سنة1920 في المرة الأولىوانتهت الثورة في مهدها . وتقاسم الانتدابان الفرنسي و البريطاني مشرق الوطن العربي، وخضعت دول المغرب والخليج العربي للاحتلالات الفرنسي والإنكليزي و الإيطالي .
بعد الحرب العالمية الثانية وتكريس الانتدابات الأوروبية كانت نكبة فلسطين 1948 ، فكان الرد بسلسلة انقلابات في سورية تحت يافطة « فلسطين »، وثورة 23تموز/ يوليو مصرية المطالب والأهداف بداية لتنمية مصر وإنصاف المصري وتحررهما فقال الزعيم الصهيوني بن غوريون : « مشكلتنا مع عد الناصر :التنمية » ، ثم اتجهت بوصلتها بقيادة جمال عبد الناصر نحو فلسطين ودعم ثورة الجزائر، فكان العدوان الثلاتثي البريطاني – الفرنسي- الصهيوني» 1956 وتقدمت ثقافة المقاومة على ثقافة التنمية ، ثم كانت ثقافة الوحدة ، وفيها ( دعم الثورات و الوحدة ) خروج عن معاهدة وستفاليا( 1648 ) التي أقرت لأول مرة مبدأ توازن القوى، والذي يعني عدم فسح المجال لدولة أو (مجموعة من الدول) بتهديد النظام المتفق عليه بين الدول ،او التهدد باستخدام قوتها لتغيير الاوضاع القائمة، وفي حالة كسر أي دولة لمبدأ توازن القوى يتم التحالف ضدها . وكان الهدف من التأكيد على هذا المبدأ الحفاظ على السلام ومواجهة العدوان في أوروبا قبل أن يوظف للسيطرة على الشعوب المستضعفة ، وقد استمر هذا المبدأ فعالاً في العلاقات الدولية حتى الحرب العالمية الثانية( 1939-1945) رغم أن نابليون بونابرت و بعده محمد علي باشا و بعده روسيا في حرب القرم وبعدها هتلر ، حينما حاولوا الخروج عن مندرجاتها، وكلهم هزمتهم تحالفات دولية دون معرفة مهندسي تلك التحالفات ورعاتها ، وإن بان المتحاربون .
وعاود عبد الناصر الكرة بدعم حركات التحرر العربية و العالمية ، وهذه في حسابات العدالة الدولية تحسب له لا عليه ، وكان أبرزها دعمه ثوار اليمن ضد إمامها المستبد وخلعه ، فكان عدوان 1967انتقامًا صهيوامريكي، وكان رد عبد الناصر ومؤتمر الخرطوم وفيه تجددت ثقافة المقاومة بلاءات ثلاث : لا تفاوض- لا صلح- لا اعتراف وبحرب الاستنزاف ، ونشطت المقاومة الفلسطينية، وكانت حرب نتشرين الأول 1973 وبعدها واجه المحور الصهيو أمريكي ثقافة المقاومة باتفاقية كمب ديفد وما جرّت إليه، حتى وصلنا إلى تطبيع علاقات معظم الأنظمة العربية مع العدو الصهيوني. .
في الحرب الأهلية اللبنانية المدولة خرج الرئيس السوري حافظ الأسد عن مبدأ الحدود الموروثة (باللاتينية Uti possidetis «ما تملكه») وهو مبدأ في القانون الدولي بأن الأراضي والممتلكات الأخرى تظل ملكًا لمالكها في نهاية الصراع، و هو مبدأ عام، يرتبط ارتباطًا منطقيًا بظاهرة الحصول على الاستقلال حيثما يكون ، والغرض الواضح من هذا المبدأ هو الحد من تقويض استقلال واستقرار الدول الحديثة نتيجة مخاطر صراعات الأقطار المجاورة التي تشتعل نتيجة تغيير الحدود بما يؤدي إلى سحب السلطة الإدارية) للسيطرة على لبنان بدعم فريق ضد آخرومحاولة ضمه إلى الجمهورية العربية السورية كما هدد نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدام . تصدت له – فيما من تصدى – الأدارة الأمريكية في البداية ، ثم استوعبت خطوته بشرط أن لاتشكل خطورة على العدو الصهيوني ، بل وإخراج مقاتلي المقاومة الفلسطينية من لبنان ، و التخلص من قلق الحركة الوطنية اللبنانية ومشاكساتها ، وهو ما كان خريف 1982 .
بعدها حافظ الأسد على ستاتيكو و نسق مع تلك الإدارة في الأمورالمصيرية و الاسترتاتيجية بما يحفظ إلى حد ما توازن بين القوى الحليفة . تزامن ذلك مع اندلاع الثورة في إيران ومحاولة القائمين عليها تصديرالثورة إلى خارج حدودها، خلافًا لمعاهدة وستفاليا ، كما خرج عن ضوابط تلك المعاهدة الرئيس العراقي صدام حسين وتبنى ثقافة التنمية ،ومنها إلى تعزيز قوته مما يؤهله لتوسيع نفوذه و حدوده ، ووجدت الإدارة الأمريكية في مطالبته باسترداد «عربستان » التي تحتلها إيران منذ أيام الشاه خروجًا عن مبدأ «الحدود الموروثة» ، فشجعت الحرب بين العراق و إيران ( فضحت ذلك مجلة الشراع اللبنانية بسبق صحفي حمل اسم فضيحة إيران غيت ، وكادت تكلف صاحب المجلة و رئيس تحريرها الزميل حسن صبرا في محاولة اغتيال فاشلة) و دعمت كل منهما حفاظًا على توازن وضعت هي مداه، فتماثلت إيران مع الحكام العرب مستظلة القضية الفلسطينية باندفاع تحسبه تهورًا أكثر منه اندفاعًا ، وفي هذا ( الاستظلال )خروج ثانٍ على معاهدة وستفاليا لا تقبل به الإدارة الأمريكية ؛فحاولت إطالة مدى تلك الحرب التي استمرت ثمانية أعوام (1980- 1988) ، وبعد صمت المدافع وتراجع كل طرف إلى دياره؛ شجعت صدام حسين على احتلال الكويت خلافًا لمعاهدة وستفاليا أيضًا ، ووجدت في ذلك فرصة للتخلص من صدام حسين و إضعاف العراق و نهب ثرواته ، فاحتلته بدءًا من 2003 ، ثم تقاسمت النفوذ فيه مع إيران ، التي استمرت بتوطيد نفوذها خارج حدودها تحت راية دعم المقاومة الإسلامية في لبنان والقضية الفلسطينية و اليمن و سورية والحشد الشعبي في العراق، فهلتستفيد من تجربة التفاهم و التقاسم الأمريكي – الإيراني في العراق بمزيد من التفاهمات الثنائية ؛ فتجدد تلك الإدارة مساكنة حكام إيران من خلال محادثات الملف النووي ، أم تصل إلى الطريق المسدود ، وهل ستكون التداعيات تقسيم في الجغرافيا و تفتيت ديموغرافي، أم تقاسم نفوذ بين المشاركين في انتقال السلطة في سورية وترتيبات الوضع المؤقت،أم جوائز ترضية تنالها روسيا ( في أوكرانيا ) وتركيا بمواجهة الأكراد ،وإيران ( في محادثات الملف النووي إمساك الإدارة الأمريكية بمنطقتنا ونهب خيراتها مما يريح الأمريكي ويحمي النظام الإيراني ) ؟ أم بعث لحركات ثورية أو أصولية أو متطرفة تشعل المنطقة و العالم من جديد ؟ أم أكثر من حصيلة ، أم كلها مجتمعة، باستثناء الحفاظ على وحدة الكيانات العربية وفيها مقدمات صراعات طائفية مذهبية تفيد الصهيوأمريكي. وتبقى شعوب الأمة العربية هي الخاسر الأكبر ، وطاقم الحكم السابق في سورية و شركاؤه وحلفاؤه المتضرر الأكبر .
التاريخ يؤكد أن ما من غازٍ أقحم شعبه في وطننا العربي إلا انتهى عندنا ورحل عن أرضنا ، من الفرس إلى الأمبراطورية البيزنطية إلى التتار و المغول إلى الفرنجة وآخر فلولهم المستعمرين الإنكليز و الفرنسيين و الطليان والأمريكيين إلى العثمانيين، ولن يطول المقام بالصهاينة .
بانتظار عبد الناصر جديد يقود أمتنا مزمجرًا : « أرفع رأسك يا أخي فقد ولى عهد الاستعمار » ويعيد خلط الأوراق من جديد ،للتخلص من الصراعات الطائفية و المذهبية و القطرية والتخلف والجهل والاستغلال والفساد و المحسوبية والاستزلام ،و بناء وطن الإنسان العربي الموحد المتحرر من كل أشكال التجزئة والاستبداد .