أول إضراب طلابي في بيروت والشرق العربي ونظرية داروين في الجامعة الأميركية / كتب: عبد الهادي محيسن
الشراع 13 كانون الثاني 2025
كانت إدارة التعليم في الجامعة الأميركية في بيروت بيد مبشرين محافظين ، ولكن ذلك لم يحل دون وجود عدد من أساتذة في صفوف الهيئة التعليمية يضعون التحقيق العلمي فوق كل اعتبار ، ولا يجدون في النظريات العلمية الجديدة ما يحط من الشعور الديني ، وكان في طليعة أولئك المتحمسين للأخذ بالنظريات الحديثة الدكتور أدوين لويس الذي ألقى في احتفال الكلية السنوي خطبة على طلاب الصفوف المنتهية تحت عنوان : " المعرفة والعلم والحكمة " .
عرض فيها لمذهب داروين في النشوء والارتقاء الطبيعي فقال : " ولكن سواء أكان هذا المذهب يفي بكل ما يطلب منه أو لا يفي ، فلا ريب أنه مبني على أساس علمي وطيد ، وأنه رقّى عقولاً كثيرة وكشف الغطاء عن حقائق عديدة ..." فقد ظن غيرهم أنه إذا ثبت هذا المذهب تنحط عظمة الإنسان ، أما نحن فما لنا لمثل هذا الظنون ، لأنه إذا كان هذا المذهب غير صحيح فلا خوف منه لأن العلم يبطله وإن كان صحيحاً فلا يحط الإنسان من علو رتبته العقلية ذرة ولا يعريه من طبيعته الروحية البتة " .
وكانت نظرية داروين في أصل الأنواع قد ظهرت في أوروبا سنة 1859 وأخذت تتسرب الى دور العلم ومواطن الفكر ، وانقسم فيها العلماء الى مؤيدين ومعارضين وكان من طبيعة الأشياء أن يقف رجال الدين في صفوف معارضي هذه النظرية ، لا بل يذهبون الى حد منع المناقشة حولها لاعتقادهم أنها نظرية تتعارض كلياً مع المفهوم الديني .
ولذا كان وقع هذه المحاضرة سيئة في أوساط إدارة الجامعة الأميركية التي رأت فيه عملاً مخالفاً لمذهبها التبشيري الذي أنشئت من أجله ، ثم أنها رأت في صدور بحث كهذا يلقيه أدوين لويس بالذات تفسيرات شتى ذلك أن الدكتور أدوين لويس كان لا يرى موجباً للتعلق بالقشور ما دام المؤمن محافظاً على جوهر الدين ، فكان لا يتحرج من تناول قليلاً من النبيذ على مائدة الطعام في بعض الأحيان ، ويتخلف عن الصلوات التي يحرص الآخرون من زملائه على حضورها .
فإذا ما أضيفت هذه القضايا الفرعية الى تلك الخطبة كونت مستندات قوية تدعم رأي القائلين بأن الدكتور لويس : "خالف شروط العمل في الكلية بخروجه على المبادئ الدينية التي أنشئت لأجلها " ، فشكوه الى مجلس الكلية الأعلى في أميركا ، فكانت النتيجة أن قرر ذلك المجلس إعفاء أدوين لويس من منصبه في الكلية في كانون الأول 1882 ، فأثار هذا القرار قضية من أعمق القضايا في ذلك الحين ، وهي : قضية حرية الرأي .
فقد كان هذا القرار الى جانب ما كان يتمتع به أدوين لويس من حب واحترام في صفوف الطلاب – لما رأوه فيه من غزارة العلم وحسن الأسلوب والغيرة على مصالحهم – سبباً في أن يثير القرار مشكلة حرية الفكر في التعليم ، أو بالأحرى مشكلة الدين والعلوم الحديثة إبان حركة إنطلاق فكري تلفح معظم أقطار الشرق العربي ، فانتقلت هذه الحادثة من صعيد قضية مدرسية الى مناقشات عن طريق المجلات والصحف ، أو عن طريق تأليف الكتب .
أما داخل الجامعة الأميركية فقد كان للقرار وقعه السيء في نفوس الطلاب الذين انقسموا الى أكثرية تؤيد الدكتور لويس وقلة تؤيد القرار ، وقد لقي الطلاب المؤيدون للدكتور لويس تشجيعاً من الدكتور فانديك وبعض المعلمين الشرقيين في الكلية ، أما مؤيدو القرار فكان جلهم ممن أيد القرار الذي سبق للجامعة أن اتخذته بجعل اللغة الانكليزية مادة التدريس ، وفي اليوم الرابع من شهر كانون أول سنة 1882 انقطع الطلاب عن الدروس .
واجتمع خمسة وأربعون طالبا في إحدى قاعات المستشفى الألماني وألفوا لجنة لتقديم احتجاج الى المجلس الأعلى للكلية في أميركا ، يطلبون فيه إعادة الدكتور أدوين لويس منكرين صحة التهم التي وجهت إليه ، وانتخب جرجي زيدان رئيساً لهذه اللجنة التي وضعت قَسَماً تعهد فيه أعضاؤها بالتقيد بكل ما تقره اللجنة ، فكان هذا الإضرابكما يقول زيدان في مذكراته : " أول ثورة طلابية بالشرق " .
ولكن مطالب الطلاب هذه قوبلت بالرفض وأصدرت الإدارة بياناً أنذرتهم فيه بالعودة الى الدروس وإلاّ وقعوا تحت طائلة القصاص المدرسي ، وكان جواب الطلاب مذكرة وقّعوا عليها جميعهم " إن الطلاب مستمرون في الإنقطاع عن الدروس حتى تجاب مطالبهم " وتشدد الجانبان ولم تنفع الوساطة التي قام بها جماعة من الأساتذة بينهم الدكتور صروف ، واتصلت إدارة الكلية بجرجي زيدان لتثنيه عن رأيه مقابل عدم مطالبته بالمصاريف الجامعية فكان جوابه الرفض ، وقررت الكلية فصل الطلاب وانهارت تلك الأمال التي بناها زيدان بأنه سيتخرج بعد أربع سنوات ويمارس مهنة الطب .
وفي هذه الأثناء وصل كتاب السيد ملحم شكور بك رئيس المدارس الانكليزية بالفجالة في مصر يخبرهم فيه عن استعداد مدرسة القصر العيني بقبول الطلبة المفصولين بعد أن يتقدموا بامتحان دخول ، وهكذا ذهب زيدان مع بعض رفاقه الى مصر على ظهر باخرة تجارية تحمل شحنة من الغنم والبقر ووصل الى الاسكندرية في تشرين الأول 1882 وهي السنة التالية لثورة عرابي التي انتهت بهزيمة التل الكبير وضرب مدينة القاهرة بالقنابل وأسر عرابي ونفيه الى سيلان .
عبد الهاد محيسن .... مؤرخ وباحث .