بيروت | Clouds 28.7 c

المعجزة / بقلم الشيخ أسامة السيد - الشراع 16 كانون الثاني 2025

 

المعجزة 
بقلم الشيخ أسامة السيد

الشراع 16 كانون الثاني 2025


الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى:{اقتربت الساعة وانشق القمر وإن يروا ءايةً يُعرضُوا ويقولوا سحرٌ مستمر} سورة القمر. 
لا ريب أن الله تعالى قد أيَّد الأنبياء بمعجزاتٍ باهراتٍ دالةٍ على صدقهم فيما يدعون إليه فالمعجزة بُرهانٌ قاطعٌ على صدق المرسلين وهي نازلةٌ منزلةَ قوله تعالى صدق عبدي هذا فيما يُبلِّغ عني أي كأن الله تعالى قال: صدق عبدي محمدٌ في كل ما يبلغ عني صدق عبدي إبراهيم في كل ما يبلِّغ عني صدق عبدي موسى في كل ما يبلِّغ عني وهكذا، لأن تصديق الكاذب مستحيلٌ على الله تعالى. وفي هذا المقام يناسب الكلام على تعريف المعجزة فنقول: المعجزة أمرٌ خارق للعادة، يأتي على وفق دعوى من ادعوا النبوة، سالم من المعارضة بالمثل.
وقولنا:خارق للعادة معناه:مخالفٌ للعادة التي يعهدها الناس، فما كان من الأمور عجيبًا ولم يكن خارقًا للعادة فليس بمعجزةٍ كحفظ كتابٍ من عدة مجلداتٍ عن ظهر قلبٍ وكالصناعات الحديثة والتكنولوجيا المتطوِّرة، وكذلك ما كان من الأمور خارقًا لكنه لم يقترن بدعوى النبوة كالخوارق التي تظهر على أيدي الأولياء أتباع الأنبياء فليس بمعجزةٍ بل يُسمَّى كرامة ثم يشترط أن يأتي هذا الأمر الخارق للعادة على وَفْق دعوى من ادعوا النبوة.
فمن هنا يُعلم أن ما حصل على يد مسيلمة الكذاب من خوارق لم تكن معجزات بالمرة لأنها لم توافق دعواه، حيث رُوي أنه مسح عين أعور فعمي وتفل في بئر فغاض (جفَّ) ماؤه، فلو كان نبيًا صادقًا لظهرت بركته ولكنَّ الله أخزاه، وجاء أمره معاكسًا لما ادعاه فظهر كذبه للعيان.
ومن شرط المعجزة أن يكون هذا الخارق للعادة سالمًا من المعارضة بالمثل أي لا يستطيع المكذبون أن يفعلوا مثله، ولا يستطيع السحرة معارضته، لأن السحر قائم على الخداع أما المعجزة فأمر حقيقيٌ ثابتٌ، ولذلك عندما شاهد السحرة عصا موسى عليه السلام تنقلب حيَّةً حقيقةً علموا أن هذا حقٌ يقين وليس تمويهًا فآمنوا جميعًا، قال تعالى:{وألقِ ما في يمينك تَلْقَفْ ما صنعوا إنما صنعوا كيد ساحر ولا يُفلح الساحر حيث أتى فأُلقي السحرة سُجدًا قالوا ءامنا برب هارون وموسى} سورة طه.
المعجزة على قسمين
ثم ليس من شرط المعجزة أن تكون مقرونةً بالتحدي بل شرطها أن تكون صالحةً للتحدي، فقد تظهر المعجزة على يد نبي كريم من غير تحدٍ لأن المعجزة على قسمين: قسم يقع بعد اقتراح من القوم، وقسم يقع دون اقتراح من القوم.
فمما حصل من المعجزات بغير اقتراحٍ من القوم الإسراء والمعراج، ونبع الماء من بين أصابع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وقد ثبت ذلك بالمشاهدة العيانية من طرق كثيرة، يُفيد مجموعها العلم القطعي المستفاد من طريق التواتر بحيث لا يسع المعاند إنكاره.
فعن أنسٍ قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد حانت صلاة العصر والتمس الوَضُوء (ما يتوضأ به) فلم يجدوه، فأُتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بوَضُوء، فوضع يده في ذلك الإناء، فأمر الناس أن يتوضؤوا، فرأيت الماء ينبع من بين أصابعه، فتوضأ الناس حتى توضؤوا من عند آخرهم" متفقٌ عليه. وفي روايةٍ للبخاري عن جابرٍ قال: فجعل الماء يفور من بين أصابعه كأمثال العيون فشربنا وتوضأنا، فقيل: كم كنتم؟ فقال: لو كنا مائة ألف لكفانا كنّا خمس عشرة مائة.
وهنا يتضح أن هذه المعجزة قد حصلت من غير أن يكون هناك حالة تحدٍ للكفار، بل أظهرها الله تعالى على يد نبيه صلى الله عليه وسلم وسط مئات الصحابة الكرام.
هذا والمعجزة قد تكون أحيانًا بعد اقتراحٍ من القوم وبحالة تحدٍّ للكفار، ومن الأمثلة على ذلك حادثة تلك الناقة العظيمة التي خرجت من الصخرة ومعها فصيلها (ولدها) تأييدًا لنبي الله صالح عليه السلام بعد ما طلب المعاندون من قبيلة ثمود العربية ذلك منه فدعا الله القادر وضرب الصخرة بعصاه فانشقت وخرجت الناقة وهم ينظرون، قال الله تعالى:{كذبت ثمود بطغواهآ إذ انبعث أشقاها فقال لهم رسول الله ناقة الله وسُقياها} سورة الشمس. وقد أسلم يومها من ثمود خلقٌ كثير، بل قيل إن ملكهم قال بعدما أبصر هذه الآية: يا معشر قبائل ثمود لا عمى بعد الهدى أنا أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن صالحًا رسول الله.
ومن ذلك أيضًا حادثة انشقاق القمر حين طلب مشركو قريش ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم فأشار عليه السلام بيده الشريفة إلى القمر فانشق شطرين، كما دلَّت عليه الآية أول المقال ثم أشار إليه مرة أخرى فالتأم كما كان، مما أدهش كفَّار قريش فصاروا يسألون السُفَّار (التجار المسافرون) فشهدوا بأن القمر قد انشق فلقتين، ومع ذلك تمادى الكفار في تكذيبهم رغم وضوح الحق ونصاعة الدليل.
فإن سأل ملحدٌ فقال: قد زعمتم أن ناسًا رأوا المعجزات فآمنوا فكيف نؤمن نحن بما لم نره فنقول:
إن السبيل إلى العلم بالمعجزة بالقطع واليقين حاصل بالمشاهدة لمن شاهدوها، وببلوغ خبر التواتر في حق من لم يشاهدها، وذلك كعلمنا بالبلدان النائية والحوادث التاريخية الثابتة الواقعة لمن قبلنا من الملوك والأمم، والخبر المتواتر هو أن يُخبر عددٌ كثيرٌ عن جمع كثير بحادثة قولية أو فعلية بحيث لا يمكن أن يتواطؤوا على الكذب في أمر حسّيٍ شوهد بالمعاينة، وإنكار الأمور المتواترة يترتب عليه إنكار الشخصيات التاريخية المشهورة، وإنكار البلدان النائية كالصين بالنسبة لمن لم يرها، فيكون إنكار المتواتر ردًا للحقائق وتكذيبًا للوقائع ولا يقول بهذا عاقل.
ثم هذا القرآن الكريم بين أظهرنا معجزةٌ مستمرةٌ على تعاقب الشهور والسنين، تحدى الله تعالى به كفَّار قريش وما زال التحدي به قائمًا ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من حيَّ عن بينة، فلا وجه إذًا لإنكار دلائل الأنبياء العظيمة، فثبوت المعجزة أمرٌ يقبله العقل ويُصدّق بحدوثه بالإضافة إلى ثبوته من طريق النقل كمَّا بيَّناه، فلم يبق إلا التسليم والتصديق بالحق، وربنا تعالى يقول:{فإمَّا يأتينكم مني هدًى فمن اتَّبع هُداي فلا يضلُّ ولا يشقى} سورة طه.
والحمد لله أولًا وآخرًا.