الحكمة والحكماء
بقلم الشيخ أسامة السيد
الشراع 12 كانون الأول 2024
الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{يؤتِى الحكمة من يشآء ومن يؤت الحكمة فقد أوتى خيرًا كثيرًا وما يذَّكر إلآ ألو الألباب} سورة البقرة.
قال الطبري في "تفسيره" "يعني بذلك جل ثناؤه يؤتي الله الإصابة في القول والفعل من يشاء من عباده ومن يُؤت الإصابة في ذلك منهم فقد أُوتي خيرًا كثيرًا"
أن يكون المرء بصيرًا بزمانه عارفًا بمجريات الأحداث من حوله يُنزل الأمور منازلها ويسعى للوصول إلى الأهداف الحميدة بالطريقة الصحيحة متجمِّلًا بالإصابة في القول والعمل فهو رجلٌ حكيمٌ، ومن أٌوتي الحكمة فقد أوتي فضلًا كبيرًا، وقد مدح الله تعالى لقمان عليه السلام وهو رجلٌ صالحٌ وقيل بنبوته فقال فيه:{ولقد ءاتينا لقمان الحكمة أن اشكر لله} سورة لقمان. وقد تكلمنا عن بعض حكمه في مقال سابق بعنوان "من حكم لقمان" فليراجعه من شاء، وإنما يتَّعظ بما وعظَ اللهُ تعالى به في كتابه الكريم أولو الألباب أي أصحاب العقول الواعية.
وكم هو عظيمٌ أن تكون حكيمًا فتسعى في تهذيب نفسك وصيانتها من الأدران التي علقت بقلوب كثيرٍ من الناس فالحكمة غنًى للنفس وكم من غنيٍ في المال هو فقيرٌ من العلم والحكمة، بل كم من مُقدَّمٍ يرأس قومًا أوردهم المهالك بسوء تدبيره السفيه المفتقر إلى الحكمة الرشيدة.
والحكمة مأخوذةٌ من الإِحْكام وهو الإتقان في قولٍ أو فعلٍ وهي مانعةٌ من السَّفه ولذلك قيل للعلم: حكمةٌ لأنه مانعٌ لمن عمل به من السَّفه فالحكمة تقتضي فعل ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على النحو الذي ينبغي، وفي تفسير القرطبي عن مجاهدٍ "هي الإصابة في القول والفعل"
وقال الرازي في "التفسير الكبير" "واعلم أن الحكمة هي الإصابة في القول والعمل ولا يُسمى حكيمًا إلا من اجتمع له الأمران، وقيل: أصلها من أحكمت الشىء أي رددته فكأن الحكمة هي التي ترد عن الجهل والخطأ وذلك إنما يكون بما ذكرنا من الإصابة في القول والعمل ووضع كل شىءٍ في موضعه" وقال العراقي في "طرح التثريب" "الحكمة كل ما منع من الجهل وزجر عن القبيح"
والحكماء وإن كانوا في الدهر قلةً بالنسبة لبقية البشر لكن قد مضى مع ذلك في الزمان حكماء عظام يطول الكلام في مجرد سرد أسمائهم فضلًا عن بعض أخبارهم، ولا ريب أن أعظم من أوتي الحكمة هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأعظم الأنبياء سيدنا محمدٌ صلى الله عليه وسلم فهو بالتالي إمام الحكماء وسيد العظماء، وقد أمرنا ربنا سبحانه بالاقتداء بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم وبسائر الأنبياء عليهم السلام إلا فيما نُسخ من شرعهم من الأحكام العملية كمسائل الطهارة والصلاة والزكاة والصوم والحج وغيرها فنعمل في ذلك بشرع سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم فالعاقل إذًا من نظر في سيرة الأنبياء الكرام فاقتدى بهم في مكارم الأخلاق وحُسن المعاملة واعتقاد العقيدة الحقة المتضمنة تنزيه الله تعالى عن المكان والجهة وكل صفات المخلوقين. قال تعالى:{لقد كان لكم في رسول الله أسوةٌ حسنةٌ لمن كان يرجو الله واليوم الآخر} سورة الأحزاب. وقال تعالى أيضًا:{أولئك الذين ءاتيناهم الكتاب والحكم والنبوة فإن يكفر بها هؤلآء فقد وكَّلنا بها قومًا ليسوا بها بكافرين أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده قل لآ أسألكم عليه أجرًا إن هو إلا ذكرى للعَالمين} سورة الأنعام. فالاقتداء بالأنبياء عليهم السلام عين الحكمة فإن الله تعالى قد أرسلهم رحمةً للناس وأمر بطاعتهم فقال تعالى:{ومآ أرسلنا من رسولٍ إلا ليُطاع بإذن الله} سورة النساء.
اقتد بالأنبياء
وحيث جعل الله السلامة في اتباع الأنبياء فمن أرادها فليطلبها في إرشاداتهم التي ورثها عنهم الأئمة الصالحون فعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"وإن العلماء ورثةُ الأنبياء وإن الأنبياء لم يورِّثوا دينارًا ولا درهمًا وإنما ورَّثوا العلم فمن أخذه أخذ بحظٍ وافرٍ" رواه الترمذي وغيره. ولا تزال علوم وإرشادات الأنبياء منارات هدًى برغم تقدم الزمان وطول السنين وليس أهدى مما دلَّ عليه الأنبياء عليهم السلام ومهما يكن من تقدمٍ تكنولوجي فلا يغني ذلك عن التمسك بتعاليم الأنبياء عليهم السلام ولئن كان التطور التكنولوجي اليوم دليلًا على سعادة الدنيا فإن الاقتداء بالأنبياء دليلٌ على سعادة الدنيا والآخرة وما زال العلماء الأبرار يُخرجون الحِكم للناس في أبهى معانيها، ويمكن للمرء إذا ما كان ذا عقلٍ واعٍ ونظرٍ ثاقبٍ فصحب العلماء الأخيار واستفاد من هديهم الموروث عن الأنبياء عليهم السلام أن يكتسب علمًا غزيرًا وأن تتفجر منه ينابيع الحكمة فيظهر ذلك في أقواله وأفعاله فينتقل من السوء إلى الحسن أو من الحسن إلى الأحسن فإن من كانت الحكمة دليله نجا من الأخطار فلم يدخل فيما لا يعنيه ولم يصدق كل ما يسمع ولم يقل كل ما يعلم ولم يفعل كل ما يستطيع ولذلك فإن الحرص على صحبة أهل العلم والنظر في كتبهم للاطلاع على علومهم المستمدة من الكتاب والسنة ومعرفة سيرتهم للوقوف على محاسن أحوالهم الراقية ببركة اقتدائهم برسول الله صلى الله عليه وسلم من المهمات العظيمة، وفي الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا حسد إلا في اثنتين: رجلٌ آتاه الله مالًا فسلَّطه على هلَكَته في الحق، ورجلٌ آتاه الله الحكمةَ فهو يقضي بها ويُعلمُها" والمراد بالحسد "الغِبطة" وهو أن يتمنى لنفسه مثل ما لفلان من غير أن يعمل لزوال النعمة عن صاحبها، وقوله: فسلطه على هَلَكته أي على إنفاقه وفي الحق أي في وجوه البر، والمراد بالحكمة العلم النافع فهو يفصل بها بين المتخاصمين إن كان قاضيًا والمستفتين إن كان مفتيًّا ويعلمها الناس. وجاء في كتاب "الإحياء" للغزالي أن لقمان عليه السلام قال لابنه:"يا بُني جالس العلماء وزاحمهم بركبتيك فإن الله سبحانه يُحيي القلوب بنور الحكمة كما يُحيي الأرض بوابل السماء"
وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الحكمة ضالّةُ المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها" رواه الترمذي وغيره.
والحمد لله أولًا وآخرًا.