بيروت | Clouds 28.7 c

*أبريل في الذاكرة العربية: حادثة سفينة كليوباترا/ خميس القطيطي - الشراع 28 حزيران 2024

 

*أبريل في الذاكرة العربية: حادثة سفينة كليوباترا* 
 *خميس القطيطي
الشراع 28 حزيران 2024


شهد شهر أبريل من عام ١٩٦٠م إحدى أهم الأزمات في تاريخ القومية العربية، وتأتي أهمية هذه القضية من الناحية السياسية المعبرة عن قوة الموقف العربي في المواجهة مع قوى الاستعمار، وتعبر عما تمتلكه الأمة العربية من أوراق رابحة عندما تكون هناك قيادة محورية يحيط بها ملايين العرب في موقف موحد. ولنمعن في التفاصيل من خلال مقال للأستاذ سعيد الشحات نشره في صحيفة اليوم السابع باستعراض ما حدث للباخرة المصرية "كليوباترا" التي رست في ميناء نيويورك بتاريخ ١٣ أبريل / نيسان من عام ١٩٦٠م، وكانت تبلغ حمولتها (٨) آلاف طن وبطاقم عدده (103) من الرجال وبقيادة القائد (الكابتن) أحمد بهاء الدين، وهي محملة بشحنة من القطن المصري طويل التيلة وبضائع أخرى ،على أن تعود محملة بالقمح (العيش) الذي يستخدمة أبناء الجمهورية العربية المتحدة في إقليمها الجنوبي (مصر) كما يسمى في ذلك الوقت ،باعتبار الوحدة العربية بين مصر وسورية كانت قائمة، وما يمثله القمح من أهمية غذائية كبيرة لأبناء مصر في طعامهم اليومي .
لقد سبق وصول الباخرة "كليوباترا" حملة سياسية موجهة ضد مصر من قبل الاحتلال الإسرائيلي ،بسبب منع الرئيس جمال عبدالناصر سفن "الاحتلال" من عبور قناة السويس، كما تمت مصادرة عدد من السفن المتجهة من وإلى  الكيان الصهيوني وبعد تدخل الأمين العام للأمم المتحدة أفرجت مصر عن السفن مع الاحتفاظ بالبضائع التي كانت تحملها، ولجأت "إسرائيل" إلى مجلس الأمن لتقديم شكوى ضد مصر بسبب فرض سيادتها على معبر قناة السويس على الرغم من أنه معبر دولي للملاحة البحرية، وجاء رد عبدالناصر أن مصر لن تنفذ حتى لو حصلت "إسرائيل" على قرار من مجلس الأمن إلا إذا نفذت "إسرائيل" قرارات الأمم المتحدة بشأن فلسطين وخصوصا حق اللاجئين الفلسطينيين بالعودة إلى أراضيهم أو تعويضهم، وبالتالي فإن الحملة على مصر هنا اتخذت مسارا آخر عبر مناطق نفوذ "إسرائيل" وذلك من خلال علاقتها مع اتحاد البحارة الأميركيين الذي بدوره أصدر بيانا بمقاطعة تفريغ وشحن البواخر المصرية في الموانئ الأميركية، وقد تصل المقاطعة إلى دول أوروبا الغربية في محاولة لفرض إذعان على مصر فيما يتعلق بمرور سفن "إسرائيل" عبر قناة السويس، ولذلك فقد توقف عمال الشحن والتفريغ في ميناء نيويورك عن التعامل مع الباخرة كليوباترا، فقام السفير المصري في واشنطن مصطفى كامل بمناشدة وزارة الخارجية للتدخل ،والطلب من الرئيس "آيزنهاور" التدخل لحل الأزمة، إلا أن الخارجية الأميركية رفضت باعتبار أن تدخل الرئيس لا يكون إلا في الحالات التي تؤدي إلى تهديد الأمن القومي، ونقل خبر صحفي من الصحافة الأميركية بتاريخ الـ١٤ من أبريل ١٩٦٠م عن مظاهرة عمال الشحن والتفريغ في نيويورك ضد وصول الباخرة المصرية "كليوباترا" احتجاجا على المقاطعة العربية ضد "إسرائيل"، ونشرت الأهرام المصرية في صفحتها الأولى بتاريخ الـ١٥ من أبريل ١٩٦٠م "مانشيت" يقول: (إسرائيل تحرض عمال الشحن في أميركا ضدنا) وتشير الأهرام كذلك إلى ما نشر في الصحف الإسرائيلية التي تحرض الموانئ الأوروبية على فعل الشيء نفسه ، الذي قام به عمال نيويورك، وذكرت مصادر صحفية أن سكرتير عام عمال الموانئ الإسرائيلية "الهستدروت" كان قد أبرق إلى اتحاد العمال العالمي للشحن يشكره على موقفه من الباخرة كليوباترا .
حاول السفير المصري في واشنطن تفادي الأزمة واحتواءها في مهدها، لكن تأثير اللوبي الإسرائيلي كان له دور في تصعيدها، فكان لا بد من استخدام أوراق القوة السياسية الناعمة من قبل الرئيس عبدالناصر ،وذلك عندما توجه إلى تدويل الأزمة وإشراك اتحاد العمال العرب فيها (الأزمة) بعد أن شرح لهم ما حدث في ميناء نيويورك ومحاولة "إسرائيل" الضغط على مواقف الجمهورية العربية المتحدة الداعمة لحق أبناء الشعب الفلسطيني. وبالفعل تصاعدت الأزمة؛ ففي يوم الـ١٧ من أبريل ذكرت الأهرام أن حادثة الباخرة ستتحول إلى أزمة سياسية كبرى، وأولت موضوع الباخرة أولوية في التغطية الصحفية اليومية، وكل ذلك موثق بالأهرام ،(وتوجد نسخ منه لمن أراد الاطلاع عليها، )وهنا تحولت الأزمة إلى أزمة دولية بعد تهديد عمال الشحن العرب بالتوقف عن التعامل مع السفن الأميركية، ونشرت الأهرام نص حديث الرئيس جمال عبدالناصر إلى تلفزيون كولومبيا بتاريخ الـ٢٦ من أبريل مؤكدا انه  "لا يوجد أي حق لإسرائيل بالمرور عبر خليج العقبة ولا عبر قناة السويس وأن المنع لا يرتبط بحرية الملاحة، ولكن بحقوق الشعب الفلسطيني، وأن المنع سينتهي بتنفيذ إسرائيل للقرارات الدولية المتعلقة بفلسطين خصوصا حق اللاجئين بالعودة إلى بلادهم وتعويضهم وليس "أو" تعويضهم عما لحق بهم من خسائر، وأننا نعتبر كل ممتلكات إسرائيل هي ممتلكات عرب فلسطين الذين حرموا من ممتلكاتهم وأراضيهم" وفي  ذلك اليوم نفسه ،رفضت المحكمة الفيدرالية وللمرة الثالثة الدعوى القضائية المقدمة من قبل أصحاب الباخرة "كليوباترا" لرفع المقاطعة عنها، كما نشرت الأهرام أيضا برقية أرسلها اتحاد العمال العرب إلى الرئيس الأميركي "آيزنهاور" يطالبه فيها بالتدخل لانهاء الأزمة، كخيار أخير قبل أن تبدأ المقاطعة العربية للسفن الأميركية في الموانئ العربية من طنجة إلى البصرة، كما تشير الأهرام إلى أن محكمة الاستئناف في نيويورك قررت تأييد الحكم السابق بعدم تنزيل الباخرة، وعليه فقد أكد الأمين العام للأمم المتحدة "داغ همرشولد" أن مقاطعة الباخرة لن يؤدي إلى فتح قناة السويس أمام الملاحة الإسرائيلية .
وبعد أن وصلت الأزمة إلى نهاية مسدودة وصعَّد اتحاد العمال العرب موقفه بعدم التعامل مع السفن الأميركية، هنا جرت مشاورات بين وزير الخارجية "جيمس ديلون" مع رئيس اتحاد نقابات العمال ومجلس المنظمات الصناعية لإنهاء الأزمة بعد أن أحدثت الأزمة حرجا للإدارة الأميركية حينها ،وذلك بعد انتهاء مهلة اتحاد العمال العرب لتنفيذ حملة مقاطعة ضد السفن الأميركية والتوقف فعليا عن شحن وتفريغ السفن الأميركية في مختلف الموانئ العربية، فتم إرسال برقية عاجلة من قبل رئيس اتحاد نقابات العمال الأميركيين "جون ميني" إلى رئيس عمال البحر في نيويورك بتفريغ الباخرة "كليوباترا" وشحنها بالقمح وفقا لاتفاقية التبادل التجاري بين البلدين لتنتهي تلك الأزمة بانتصار سياسي سجله العرب بقيادة جمال عبدالناصر بعد أن تم تدويل القضية وإشراك اتحاد العمال العرب في القضية، وبعد ممارسة اتحاد العمال العرب دوره التاريخي المشهود والتهديد بالمقاطعة وتنفيذها بعد انتهاء المهلة المحددة، مما أدى إلى 
انتهاء أزمة الباخرة "كليوباترا".


كتبت صحيفة الأهرام في عددها الصادر بتاريخ الـ٧ من مايو ١٩٦٠م "مانشيت" عريضا بعنوان "انتصرنا" مثمنة وقوف الأمة العربية خلف الجمهورية العربية المتحدة، في واحدة من أهم معارك القومية العربية ضد الاستعمار، فعادت "كليوباترا" إلى مصر باستقبال شعبي كبير بعد تحقيق انتصار سياسي ،أكد  أهمية وحدة موقف الأمة العربية في ظل قيادة محورية التفت حولها الجماهير، رحم الله جمال عبدالناصر .
الشراع