بيروت | Clouds 28.7 c

أهمية الاشتغالِ بما يعنيك وتركِ ما لا يعنيك/  بقلم الشيخ أسامة السيد

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((مِنْ حُسنِ إسلامِ المرءِ تركُه ما لا يعنيه)) رواه الترمذي.

من المعلوم أن التشاغل عن الهدف الأساس في الحياة لا يؤدي بالمرء إلا إلى العثرات والتخلف عن القصد الأسمى الذي هو أداء الواجبات واجتناب المحرمات، فقد خلق الله تعالى الإنس والجن لتوحيده وطاعته ولم يخلقهم عبثًا ولا لأنه محتاجٌ إليهم، فإن الله منزهٌ عن الحاجة فلا يجتلب بخلقه لذاته نفعًا ولا يدفع بهم عن نفسه ضرًا ولم يستفد بهم صفةً جديدةً لم يكن متصفًا بها في الأزل، قال تعالى: ((وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزقٍ وما أريد أن يُطعمون)) سورة الذاريات.

ولكن أكثر الناس وللأسف يُعرضون عن الإيمان إلى الضلال وعن الخير إلى الشر وعن الطاعة إلى المعصية، ومصداق هذا في كتاب الله العزيز قال تعالى: ((وما أكثرُ الناسِ ولو حَرَصتَ بمؤمنين)) سورة يوسف، وقال أيضًا: ((وقليلٌ من عبادي الشكور)) سورة سبأ.

فالمؤمنون الكاملون قلة قليلة في الناس ونعني بالكاملين الذين يؤدون الفرائض ويتركون المحرمات فيلتزمون أحكام الشرع حق الالتزام، أما أكثر المؤمنين فلا يسلمون من الوقوع في المعاصي.

 

أَقْبِل على شأنك

إن كثيرًا من الناس قد شغلوا أنفسهم بالترهات ودخلوا في ما لا خير فيه مما لا يعنيهم من القول أو الفعل، وتراهم يُقحمون أنفسهم في ما لا شأن لهم فيه ويعصون الله تعالى ويُفسدون من حيث ظنوا الإصلاح، وربنا تعالى يقول في سورة البقرة: ((وإذا قيل لهم لا تُفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مُصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)) قال الطبري في ((تفسيره)): ((فإن الفساد هو الكفر والعمل بالمعصية)) وفيه: ((وإذا ركبوا معصيةَ الله فقيل لهم لا تفعلوا كذا وكذا قالوا: إنما نحن على الهدى مصلحون)).

وإنه لمن المصائب أن يعتقد الجاهلُ الباطلَ هدى فيَهْلِك ويُهلك غيره، ثم يُقحم نفسه فيما لا علم ولا شأن له فيه بدعوى المعاونة على الخير والنصيحة وهو لا يميز بين ما يضره وما ينفعه فكيف سيدلُّ الناس على سبُل السداد؟!! وحريٌ بالمرء أن يكون عاملاً بمقتضى الحديث أعلاه وهو أن يعتني بما يتعلق بحياته في معاشه وسلامته في معاده، أي أن يعتني بأموره على وَفقِ الشرع فيتحرى الطُرق المشروعة في كسب الرزق ويهتم للواجبات الدينية والتي منها طلب العلم الشرعي الواجب عليه وأداء الصلوات والصيام وغير ذلك.

ولكننا لو نظرنا في المجتمع نظرةً عامةً لوجدنا الأمر على خلاف هذا الرُقيّ الذي نَصْبو إليه ولرأينا أغلب تصرفات الناس لا سيما كثيرًا من الذين يدّعون العمل الإسلامي على خلاف الحكمة، فيزعم أحدهم أنه يعمل على نصرة الإسلام وأن أكبر همّه تطبيق شريعة الله تعالى في الأرض وأن ما يراه من المنكرات والفواحش يؤرق فؤاده ويُقلق باله، وإذا ما جرى الحوار بينك وبينه في أقل ما ينبغي أن يحصّله المؤمن من الأمور الدينية تراه من أجهل خلق الله بما فرض الله، فلم يعرف ما يعنيه ولم يتعلم ما أوجبه اللهُ على المكلفين فلا يحسن صلاته ولا صيامه ولا غيرهما من فرائض الله تعالى، بل وتجد بعض هؤلاء ما صح لهم أصل الإيمان أصلاً فلا يعرفون ما يجب لله من صفات الكمال التي تليق به، وما يستحيل على الله وما يجوز في حقه تعالى، ومن لم يعرف اللهَ لا يسمى مؤمنًا ولا مسلمًا وقد سبق وتكلمنا في بيان أهمية التوحيد ومعرفة الله تعالى في مقالاتٍ سابقة فلينظرها من شاء.

الدين يُسر

ونقول لهؤلاء: حريٌ بكم أن تعملوا على إصلاح أنفسكم  وأن لا تكونوا كمن يهدم مِصرًا ليبني قصرًا، فقد روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الدين يُسرٌ ولن يُشادَّ الدين أحدٌ إلا غَلَبَه فسددوا وقاربوا وأبشروا واستعينوا بالغَدْوةِ والرَّوْحةِ وشيءٍ من الدُّلجة)) وفي الحديث إشارة إلى يسر الدين وأن لا يُحمِّل المرء نفسه ما لا يطيق، وقوله: ((يسرٌ)) هو على سبيل المبالغة أي لشدة اليسر وكثرته فيه كأنه اليسر نفسه، وقوله ((ولن يُشادَّ الدينَ أحدٌ إلا غلبه)) معناه أن من حمّل نفسَه فوق ما يطيق وتركَ الرفقَ عجز وانقطع عن عمله كله أو بعضه، ومعنى ((فسددوا)) أي الزموا السداد وهو التوسط من غير إفراطٍ ولا تفريط، وقوله ((وقاربوا)) أي إن لم تستطيعوا العمل بالأكمل فاعملوا ما يقرُب منه، وهذا في غاية التيسير والإرشاد إلى الرفق ويؤيد هذا المعنى قولُ الله تعالى في سورة البقرة: ((لا يُكلِّف الله نفسًا إلا وُسعها)). والمراد بقوله ((وأبشروا)) أي بالثواب على العمل الدائم وإن قلَّ وذلك أن الله تعالى يجزي الثواب الجزيل على العمل الصالح وإن كان قليلاً، وأما قوله ((واستعينوا بالغَدوةِ والرَّوحةِ وشيءٍ من الدُّلجة)) فالغدوة سيرُ أول النهار، والرَّوحة سير آخر النهار، والدُّلجة سير آخر الليل. وفي الحديث استعارةٌ وتمثيلٌ بأن شبَّه استعانةَ السالكِ طريقَ الآخرة الذي يتحرَّى أوقات النشاط والفراغ ليتعبَّد فيها باستعانة المسافر السالك للطريق في أوقات النشاط هذه، حيث تنشط فيها الدواب وتقطع فيها المسافات بهمةٍ فيقرب المسافر بقطعها من المقصد الذي يريده.

ففي الحديث تعليمٌ وتوجيهٌ للاستعانة على طاعة الله تعالى باغتنام وقت النشاط وفراغ القلوب من علائق الدنيا ومشاغلها. فليُعلم هذا فإن النفس الأمَّارة بالسوء إن لم يشغلها صاحبها بالخير شغلته بالشر، ويمكن القول إن لم يشغلها بما يعنيه شغلته بما لا يعنيه، والعاقل لا يترك ما يعنيه ويسعى فيما لا يعنيه.

والحمد لله أولاً وآخراً.                     

الوسوم