بيروت | Clouds 28.7 c

معنى البدعة وحكمها الشرعي / بقلم الشيخ أسامة السيد

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى:((وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغآء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين ءامنوا منهم أجرهم وكثيرٌ منهم فاسقون)) سورة الحديد.

لا يختلف اثنان من المؤمنين أن أصول الدين الكتاب والسنة، ولكن ليس لأحدٍ أن يتأوّل القرآن والحديث برأيه المجرد بعيدًا عن دليل الشرع، وقد أوضح الأئمة نفائس المسائل وكشفوا الحقائق وشرحوا المتشابهات، فصنّفوا في شتى العلوم واستنبطوا قواعد الأحكام ودقائق التعريفات، فمن رام الهدى فليرجع إليها ولا يتخبط تخبط التائه بين الفرق المتناحرة التي يدّعي كلٌّ منها احتكار الحق حتى وصل الأمر ببعضهم إلى تحريم كل ما لم يفعله أو يقره النبي صلى الله عليه وسلم في أيامه، وهذا بابٌ يندرج تحته والعياذ بالله منع الاستفادة من كل ما حدث بعد أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم مما فيه نفعٌ للناس، ولا شك أن الصواب على خلاف ذلك، فقد جاء في الشرع تقسيم المحدَثات إلى قسمين: بدعة حسنة وبدعة سيئة، وها نحن نُقدم في هذا المقال الدليل على ذلك فنقول:

 

 

الدليل من القرآن على البدعة الحسنة

إن الآية المذكورة أعلاه فيها دليلٌ واضح لمن يقنع على أن البدعة قد تكون حسنة وفيها أجرٌ وأنه ليس كل بدعة ضلالة بالإطلاق، فقد وردت الآية بصيغة المدح كما هو مُلاحظ في قوله تعالى:((وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة)) والمراد الذين اتبعوا عيسى عليه السلام على الإيمان، فقد ابتدعوا بدعة حسنة بنص صريح القرآن الكريم قال تعالى:((ورهبانية ابتدعوها)) ويتأكد هذا بقوله:((ما كتبناها عليهم إلا ابتغآء رضوان الله)) أي أنه تعالى لم يفرضها عليهم، قال المفسر اللغوي أبو حيَّان الأندلسي في ((البحر المحيط)): ((وابتدعوا رهبانية يعني وأحدثوها من عند أنفسهم)). وإنما أرادوا هم بذلك التفرغ لطاعة الله والعبادة وترك الانشغال بالزواج ونحوه.

والبدعة لغةً: ما أُحدِث على غير مثال سابق. يقال: جئت بأمر بديع أي مُحدَثٍ عجيبٍ لم يُعرف قبل ذلك. والبدعة في الشرع: المحدَثُ الذي لم ينصَّ عليه القرآن ولا الحديث.

ولا يجوز تفسير القرآن بما يُخالف لغة العرب لقوله تعالى: ((إنَّا أنزلناه قرءانًا عربيا)) سورة يوسف. فالتفسير الموافق للُّغة يُفيد أنهم ابتدعوا شيئاً لم يأمرهم الله به في الإنجيل ولا نصَّ لهم على وجوبه المسيح عليه السلام وكان ما ابتدعوه حسنًا بدليل قوله تعالى: ((فما رعوها حق رعايتها)) وكلمة ((حق)) تُشعر بشرف المذكور، قال علم الهدى الماتريدي في ((تأويلات أهل السنة)): ((أخبر أنهم ابتدعوا شيئًا لم يُكتب عليهم ثم ذكر أنهم لم يرعوه حق رعايته، ذمّهم لتركهم الرعاية فيما ابتدعوه)).

فليس الذَم إذًا على مجرد بدعة الرهبانية كما ادّعى أدعياء السلفية، بل المعنى أنهم لو رعوها لكان حسنًا، كما يُفهم من تتمة الآية: ((فآتينا الذين ءامنوا منهم أجرهم وكثيرٌ منهم فاسقون)). قال الرازي في ((تفسيره)): ((إن الصالحين من قوم عيسى عليه السلام ابتدعوا الرهبانية وانقرضوا عليها ثم جاء بعدهم قومٌ اقتدوا بهم في اللسان وما كانوا مقتدين بهم في العمل فهم الذين ما رعوها حق رعايتها)).

 

الدليل من الحديث على البدعة الحسنة

 

وإذا ما عُلم هذا من القرآن الكريم فيناسب بعده ذكر الدليل الحديثي في تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة، فمن ذلك ما رواه مسلم عن جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((من سنَّ في الإسلام سنةً حسنةً فله أجرُها وأجرُ من عمِلَ بها بعده من غير أن ينقُص من أُجورهم شيء، ومن سنَّ في الإسلام سنةً سيئةً كان عليه وزرُها ووزرُ من عمِلَ بها من بعده من غير أن ينقُص من أوزارهم شيء)) فدلَّ الحديث صراحةً على تقسيم البدعة إلى حسنةٍ وسيئة.

فإن قيل: ((هذا خاصٌّ بمن سنَّ في حياة النبي صلى الله عليه وسلم لا بعد وفاته))، قلنا: ((الخصوصية لا تثبت إلا بدليل والدليل هنا يفيد خلاف ذلك، فإن النبي عليه الصلاة والسلام لم يقل: من سنَّ في حياتي بل جاء لفظه عامًّا والعبرة بعموم اللفظ، ولا يصح إخراج النص عن عمومه بغير دليل)). قال الرازي في ((المحصول)): ((صرف النص عن ظاهره بغير دليل عبثٌ والنُصوصُ تُصان عن العبث)).  وقد قال أهل العلم في الحديث الذي رواه مسلم وفيه ((وكلُّ بدعة ضلالة)) بأن المراد منه غالب البدع وليس كلها، وهي التي تكون على خلاف الكتاب والسنة كبدعة المجسمة القائلين والعياذ بالله بأن الله جسمٌ يتصف بالحد والأعضاء والنزول والصعود بذاته، وبدعة المعتزلة القائلين والعياذ بالله بأن الله لم يخلق الشر وأن العبد بزعمهم يخلق فعله الاختياري كالقيام والقعود وغير ذلك.

والأصل في لفظة ((كل)) العموم ما لم تُصرف عن العموم بقرينة نقليةٍ أو عقليةٍ، وحديث جريرٍ المتقدم دليل نقلي يقتضي صرف كلمة ((كل)) في هذا المقام عن العموم، وذلك كقوله تعالى في الريح التي دمّرت قوم عاد: ((تدمّر كلَّ شيء)) سورة الأحقاف. فإنّ لفظها عام ومعناها مخصوص بقرينةٍ عقليةٍ، حيث لم تدمر تلك الريحُ كلَّ ما على وجه الأرض بل دمرت ما تُدمّره الريح الشديدة عادةً.

قال النووي في ((شرحه على صحيح مسلم)): ((وكل بدعة ضلالة هذا عام مخصوص والمراد به غالب البدع)). ويؤيد هذا المعنى ما جاء في صحيح البخاري عن رفاعة بن رافع الزرقي قال: ((كنّا نصلي يومًا وراء النبي صلى الله عليه وسلم فلما رفع رأسه من الركعة قال: سمِعَ اللهُ لمن حمده، قال رجلٌ وراءه: ربنا ولك الحمد حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، فلما انصرف قال: من المتكلم؟ قال: أنا، قال: رأيت بضعةً وثلاثين ملكًا يبتدرونها أيهم يكتبها أول)). فإن قيل: ((هذا إقرارٌ منه صلى الله عليه وسلم فلا يكون حجةً في البدعة الحسنة))، قلنا: ((لو كانت البدعة مذمومةً لمجرد كونها بدعة لنهاه النبي صلى الله عليه وسلم عن البدعة أولاً ثم أقرّ الصيغة التي قالها، وحيث ابتدع هذا الصحابي شيئًا لم ينص عليه النبي صلى الله عليه وسلم ولم ينهه عليه الصلاة والسلام عن هذه البدعة بل أثنى على ما قال دلَّ الإقرار على جواز إحداث بدعة حسنة)).

وقد نصّ الشافعي على تقسيم البدعة إلى حسنة وسيئة كما روى ذلك عنه البيهقي بالإسناد الصحيح في ((مناقب الشافعي)) ورواه أيضًا زعيم الوهابية ابن تيمية كما في ((مجموع الفتاوى)).

 

المولد بدعة حسنة

وإذا ما عُلم هذا فليُعلم أنه قد ابتدع ناسٌ من الأكابر من السلف والخلف بدعًا حسنةً تلقتها الأمة بالقَبُول وما زال العمل عليها جاريًا إلى اليوم، فمن ذلك: جمعُ عمر بن الخطاب الناسَ على إمام في التراويح كما في ((صحيح البخاري)) وقال عمر: ((نِعْمَ البدعة هذه))، وزيادة عثمان بن عفَّان نداءً آخر يوم الجمعة كما في ((البخاري)) أيضًا، ونَقْطُ يحيى بن يعمر المصحفَ كما رواه ابن أبي داود في ((كتاب المصاحف)) وهناك أشياء كثيرة يطول سردها وهي ثابتة بلا نزاع.

ومن ذلك أيضًا الاحتفال بمولد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأول من أحدثه ملك إربل المظفر أبو سعيد كوكبري أحد الملوك الأمجاد والكُبراء الأجواد، كما روى ذلك السيوطي في ((حسن المقصد في عمل المولد)) واستحسن ذلك العلماء في أنحاء الأرض كالحافظ ابن حجر الذي قال في كتابه ((الحاوي للفتاوى)) في الكلام على حديث صوم عاشوراء: ((فيستفاد من هذا الحديث فعل الشكر لله تعالى على ما تفضّل به في يوم معين من حصول نعمة أو رفع نقمة، ويُعاد ذلك في نظير ذلك اليوم من كل سنة، والشكر لله يحصل بأنواع العبادة، كالسجود والصيام والصدقة والتلاوة وأي نعمة أعظم من نعمة بُروز النبي صلى الله عليه وسلم)).  وقال السيوطي في ((حسن المقصد)): ((وقد استخرج له (أي المولد) إمامُ الحفاظ أبو الفضل أحمد بن حجر أصلاً من السنة واستخرجت له أنا أصلاً ثانياً)).

وجاء في ((البداية والنهاية)) لابن كثير: ((كان يعمل المولد الشريف (يعني الملك المظفر) ويحتفل به احتفالاً هائلاً، وكان شهمًا شجاعًا عادلاً رحمه الله وأكرم مثواه)) ثم قال فيه: ((كان محمود السيرة والسريرة)).

وكذلك فإن زعيم الوهابية ابن تيمية يرى حصول الثواب لمن يحتفل بمولد النبي صلى الله عليه وسلم فيقول في كتابه ((اقتضاء الصراط المستقيم)): ((فتعظيم المولد واتخاذه موسمًا قد يفعله بعض الناس ويكون فيه أجرٌ عظيم لحسن قصده وتعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم)) وأما الوهابية فيُحرِّمونه، فماذا يقولون في شيخهم؟ أهو مبتدعٌ كافرٌ؟ أم ماذا؟؟؟

ونقول لمن ينكر البدعة الحسنة بدعوى أنّ النبي صلى الله عليه وسلم لم يفعل ذلك: لقد ابتدعتم أنتم في الدين ما لم يأذن به اللهُ ولا رسولُه ولا رخّص به أحدٌ من الأئمة حيث أفتيتم بتوسعة المسعى ((مكان السعي بين الصفا والمروة)) فأخرجتموه عن حدّه الذي بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم، وقد نصّ شيخكم ابن تيمية على بطلان السعي خارج حد المسعى القديم بنية العبادة كما في ((مجموع الفتاوى))، فماذا تقولون؟!! أم تسمون ذلك من المصالح المرسلة فيكون قولُكم هذا بدعةً لم ينصّ عليها النبي ومخالفة لما جاء عنه صلى الله عليه وسلم، وهذا تهور أعمى لا يستند إلى حجة.

 والحمد لله أولاً وآخراً.

 

الوسوم