بيروت | Clouds 28.7 c

إيران ـ أمريكا... من البادئ ؟ بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 22 كانون الثاني 2021

 

أما وقد ذهب دونالد ترامب الأرعن..

والذي أثبت من خلال تصرفاته في الأيام الأخيره جنونه للقاصي والداني، ولّى المتعجرف وقد سقطت رهاناته على إسقاط النظام في إيران قبل انتهاء عهده بفعل عقوباته الأشد في التاريخ، وخابت آماله في تحطيم الإقتصاد فيها نتيجة أقسى الحصار الخانق الذي فرضه على الشعب لينقلب على النظام، ولم تتحقق نبوءاته بأن المسؤولين في الجمهورية الإسلامية سيضطرون نتيجة خطواته تلك وكافة أنواع الضغوط الأخرى إلى الجلوس معه على طاولة المفاوضات، وأنه سيفرض عليهم حينئذٍ إتفاقاً جديداً ممهوراً باسم دونالد ترامب بدل ذلك الذي كان قد أبرمه سلفه.

وأتى جو بايدن وارث عهد باراك حسين أوباما، وهو الذي حقق إنجازاً أمريكياً لأول مرة منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979،  حيث كسر الحاجز بين الولايات المتحدة ونظام الجمهورية الإسلامية في إيران، وجلس وزير الخارجية الأمريكي مع وزير الخارجية الإيراني بصورة رسمية وعلنية، وهاتف رئيس الولايات المتحدة الأمريكية رئيس الجمهورية الإسلامية في إيران، وتبادل الرئيس باراك أوباما الرسائل أكثر من مرة مع قائد الثورة الإسلامية آية الله خامنئي، وتغيرت نتيجة لهذه التطورات قليلاً لغة التخاطب بين الدولتين..

وعلى الرغم من محاولات الرئيس السابق احمدي نجاد الدخول على الخط من خلال رسائل بعثها إلى الرئيس الأمريكي، لكن أوباما لم يعبأ به بل فتح الخط مباشرة مع القائد شخصياً..

 وبادر إلى كتابة الرسالة الأولى وفيها كل عبارات الإحترام والتبجيل لآية الله خامنئ!

 ثم التأكيد على الإحترام الكامل من جانب الولايات المتحدة لنظام الجمهورية الإسلامية، ورفض أية نية لزعزعة الحكم في إيران، والإستعداد لفتح صفحة جديدة في العلاقات على أساس الإحترام المتبادل بين البلدين.

إن هذه الخطوات والتي تُوّجت بالتوقيع على الإتفاق النووي 1+5  وتصويت مجلس الأمن عقب ذلك بإجماع أعضائه على الإتفاق، حيث أخذ الإتفاق بين دول بعينها بذلك طابع قرار أممي مُلزم صادر عن مجلس الأمن الدولي، لكن دونالد ترامب " المتفرعن " الذي لم يحترم التزامات الدولة الأمريكية ككيان بأية معاهدات واتفاقات مع دول العالم وحتى مع المؤسسات الدولية، أعلن خروجه أيضاً من الإتفاق الدولي الآنف الذكر، وحاول جاهداً حتى آخر يوم من عهده جرّ أحد من المجموعة التي أقرت الإتفاق إلى موقفه، لكنه لم يستطع، بل بقي الأعضاء الباقون متضامنين يبحثون جاهدين مع ترامب وغيره وجوب الإلتزام بالإتفاق النووي، لأنهم يعلمون أن أي خيار آخر لا يمكن أن يقبل به الإيرانيون...

 وكذلك إفهام الرئيس الأمريكي بحقيقة أن إيران اليوم لا يمكن التعامل معها كما كانت العادة أيام الشاه، لأن محمد رضا بهلوي كان رهينة مطيعة في قبضتهم، وأيضاً التبيان له أن أحداً في هذا العالم لا يستطيع فرض رأيه اليوم على أحد من أصحاب القرار في النظام الإسلامي أو أن يهددهم، والإستناد في ذلك إلى تجربة جميع الرؤساء الأمريكيين السابقين على اختلاف انتماءاتهم الحزبية وتوجهاتهم الفكرية طوال 40 عاماً، وسلوكهم شتى السبل، وابتداعهم مختلف الأساليب، واستعمالهم كافة الوسائل وأنواع الضغوط، لكن كل ذلك لم ينجح أبداً مع الجمهورية الإسلامية في إيران، بل على العكس من ذلك فإنه قد تسبب في الإعتماد الكامل على العنصر الإيراني؛ فالدولة التي استطاع الطيران الحربي العراقي استباحة أجوائه بالكامل طوال 8 سنوات نتيجة عدم وجود دفاعات جوية كافية لديها لمواجتهت قد تحولت اليوم إلى دولة يصل مدى صواريخها البالستية الذكية الى أكثر من 3000 كيلومتر، وصارت تمتلك ترسانة كبيرة للطائرات المسيّرة المتطورة جداً والقادرة على حمل القنابل والصواريخ الذكية إلى مسافة 4000 كيلومتر، وهي التي كانت لا تملك السيطرة الكاملة على الأرض نتيجة تدمير راداراتها مع بدء الحرب عليها، فأصبح لها اليوم شبكات متطورة جداً من وسائل الرصد والمراقبة على الأرض إضافة إلى قمر اصطناعي يجول في الفضاء ويقدم الصور الحية والمعلومات الدقيقة عن تحركات أعداء إيران لحظة بلحظة..

وكانت إيران في حيرة من أمرها بعدما ترك الألمان العمل في المفاعل النووي في مدينة بوشهر، ولم تتمكن إيران الثورة من فعل شيء للإستفادة من المبنى، وبقي البناء مهجوراً لمدة عقدين والمعدات أصابها الصدأ..

 لكن،

 الجمهورية الإسلامية اليوم بلغت مرحلة يتخوف أعداؤها من قدرتها على إنتاج القنبلة النووية، وهم يحاولون بمختلف الوسائل إبطاء التقدم الإيراني في المجال النووي حتى عن طريق الإستعانة بعملاء للتفجير ولاغتيال العلماء والخبراء النوويين الإيرانيين، وتسريب أجهزة حواسيب ملوثة ببرامج خبيثة إلى المراكز النووية، لكن الأيام أثبتت أن تلك المؤامرات قد فشلت كلها، وأن المسيرة مستمرة دون أي إبطاء، فبعد النجاح في تخصيب اليورانيوم بنسبة ٥٪ والذي قضّ مضاجع الدول الإستكبارية والكيان الصهيوني هاهي إيران قد رفعت مستوى التخصيب إلى ما فوق الـ 20% وهي قادرة أيضاً على التخصيب بنسبة 90%،  وأصبحت الجمهورية الإسلامية تملك اليوم أجهزة طرد مركزي متطورة جداً من صنع إيراني، فلا يمكن لأي حصار ولا لأية عقوبات عرقلة حركتها أو التأثير في عملها.

إن الجمهورية الإسلامية استعملت بمنتهى الذكاء " قوة المنطق " فكسبت إلى جانبها معظم دول العالم، وعزلت أمريكا الدولة العظمى عالمياً حتى لم تجد من يقف معها في مجلس الأمن سوى دولة صغيرة في البحر الكاريبي لا تكاد تُرى بالعين المجردة ولم يسمع احد باسمها، وفي المقابل استعمل الرئيس ترامب " منطق القوة " مستعيناً بأحدث الطائرات والأساطيل ومختلف الوسائل الأقتصادية والحرب النفسية، لكنه فشل في خطته، ونبذه العالم في الخارج وخذله الشعب في الداخل وسوّد الله وجهه أمام أقرب الناس إليه، وسيصير بإذن الله عبرة لكل من يقول: ( أنا ربكم الأعلى )

واليوم أيضاً تستعمل الجمهورية الإسلامية في إيران " قوة المنطق " نفسها..

إذ تطلب من الطرف الذي خرج من الإتفاق العودة أولاً إلى داخل المجموعة السابقة ومن دون أية شروط ليصبح بذلك صاحب كلمة فيها، ثم يمكنه التحدث مع الإيرانيين من ضمن تلك المجموعة، أما الطرف الإيراني،

 فهو موجود في الداخل وهو على اتصال دائم مع باقي الفريق الذي صادق على الإتفاق النووي، وفي حال أراد جو بايدن ومن معه استعمال " منطق القوة " من جديد فإن المثل يقول: " من جرب المجرّب كان عقله مخرّب ".

إن تأخر الإدارة الأمريكية الجديدة كل يوم في إعلان العودة إلى الإتفاق النووي يجعل إيران متحررة أكثر في التقدم بالمجال النووي، وإن ذلك يصعّب أكثر مخاطبة الإيرانيين، بالضبط كما حصل مع كوريا الشمالية التي توسل بها الرئيس السابق ترامب وتذلل لزعيمها كيم جونغ أون وسافر ثلاث مرات للقائه على أمل الحصول على تنازل من جانبه، لكنه عاد خالي الوفاض يجرّ أذيال الخيبة مكتفياً بالإبتهاج بالرسائل الودية التي كانت تصله من مكتب الزعيم الشيوعي لا من شخصه.

فإذا بدأ الايرانيون فعلاً بالتخصيب بنسبة 90% وصار لديهم مخزون من اليورانيوم المخصب من ذلك، فهل يمكن للأمريكيين يومئذٍ الحديث مع الإيرانيين عن نسبة الـ 5% وحتى الـ 20% ؟

 وهل يعقل أن يتنازل الإيراني بائع السجاد العجمي المحنك عن قدرته العلمية الفائقة هذه للأمريكي الذي جرب رئيسه السابق كافة الضغوط الصارمة ومنع حتى اللقاحات لتطعيم المصابين بفيروس كورونا عن الشعب الإيراني ولم يسمح لإيران حتى دفع رسوم عضويتها في منظمة الأمم المتحدة من تلك الأموال المحتجزة في البنوك الأمريكية ولدى مختلف المصارف في الدول الأخرى، وماذا يمكن أن يفعل إضافة إلى ذلك أي رئيس جديد إذا أراد الإستمرار في طريق المواجهة كما فعل سلف؟!

ثم،

 إن العاقبة السيئة للرئيس الأمريكي الذي دخل في صدام مع الجمهورية الإسلامية قد رآها العالم كله، والمآل الذليل للرجل الأرعن الذي أعلن أنه سيدمر إيران قد شاهده مباشرة كل البشرية، وإن عاقبة الرئيس الذي تعامل بودٍّ مع إيران قد شاهدها العالم أيضاً، حيث حافظ باراك أوباما على احترام شعبه له على الرغم من كل عمليات التخريب ضده والتي بدأها خلفه منذ اليوم الأول لجلوسه على كرسي الرئاسة، وكانت نتيجة موقعه الإيجابي أن انتخب الشعب وبأكبر نسبة اقتراع نائبه السابق رئيساً بعد ٤ سنوات فقط من خروجه من البيت الأبيض، فيما سلفه جورج بوش الإبن الذي دخل في عداء مع إيران لم يعُد له أي احترام وأية مكانة في أمريكا، ولم ينفع إعلانه التأييد لإعادة انتخاب ترامب بل ارتدّ سلباً عليه فاضطر إلى الإنسحاب إلى الخلف وعدم الظهور على الشاشة أبداً.

فإذا سلك جو بايدن طريق رئيسه السابق، وأكمل منهاجه، وتعامل مع الجمهورية الإسلامية في إيران بعيداً عن وساوس الشياطين المحيطين به والمندسين من حوله الذين سيعملون ليل نهار في سبيل وضع العراقيل في طريق خططه لإثبات فشله في سياساته الداخلية والخارجية، ليتذرع بها دونالد المفجوع هو وعائلته والتي لم تملك دموعها وهي تغادر خاسئة المكان الذي اطمأنت إلى أنها ستبقى فيه 4 سنوات أخرى على أقل تقدير، ثم يبني ترامب شيئاً فشيئاً على هذا الفشل " البايدني " مشروعه للعودة بعد 4 سنوات إلى البيت الأبيض مزهوّاً كما وعد مناصريه في خطاب الوداع.

إن دونالد ترامب الذي شاهد مدى ذلّه العالم وهو يودع المكتب البيضاوي، وتخلي أقوى حماته في حزبه عنه، وخسارته حتى الأكثرية في مجلس الشيوخ في الإنتخابات الفرعية  على الرغم من كل الجهود التي بذلها الرئيس شخصياً، بل وإعلان 17 نائباً جمهورياً في كتاب رسمي مساندة بايدن الديمقراطي بسبب سلوك ترامب غير العقلائي كلياً وخاصة بعد اقتحام مناصريه مبنى الكونغرس، وأخيراً تخلي نائبه مايك بنس عنه وحضوره جلسة المصادقة على انتخاب جو بايدن وتأييده النتائج المعلنة من قبل إعلان المجمع الإنتخابي، وذلك على الرغم من إصرار ترامب عليه أن " يملك الشجاعة " ويرفض إعلان المصادقة، وإصرار بنس أيضاً على المشاركة في حفل التنصيب لمنافس رئيسه، وفي نفس الوقت غيابه عن مراسم الوداع البسيطة لمن بقي إلى جانبه ونائباً له مدة 4  سنوات كاملة؛ هذا كله في الداخل الأمريكي.

أما في الخارج،

فإن دونالد ترامب أصبح اليوم مداناً لدى القضاء الإيراني وملاحق بموجب طلب للإنتربول بسبب اغتياله قائد لواء القدس في الحرس الثوري الفريق قاسم سليماني، ولإيران وسائل أخرى يمكن استعمالها للوصول إلى ترامب في حال رفض البوليس الدولي القيام بواجباته، والمحكمة العراقية أيضاً اصدرت حكماً ضد ترامب بسبب انتهاكه سيادة العراق واغتيال شخصية رسمية عراقية كانت في استقبال ضيف رسمي قدم بدعوة من رئيس الوزراء العراقي، وهذا الإعتداء الآثم على الضيف وقتله غيلة يعدّ أكبر إهانة في الثقافة العراقية العربية الأصيلة.

بناءً عليه فالرجل مطلوب من سلطتين قضائيتين في دولتين، وهو مكروه في نظر أغلب دول العالم، ومنبوذ من قبل آكثر أبناء شعبه، ومُحاط بإجراءات مقاضاته من قبل مجلس النواب ذي الأغلبية الديمقراطية مدعوما هذه المرة بمجلس الشيوخ ذات الأغلبية الديمقراطية أيضاً، لكنه يراهن على الجماعات العنصرية وأولئك الذين وصفهم الرئيس بايدن بـ " الإرهابيين في الداخل "، وهؤلاء قد حضروا فعلاً في جماعات إلى العاصمة واشنطن على الرغم  من كل التحذيرات الرسمية وفرض الأحكام العرفية وتحويل المدينة ثكنة عسكرية بكل معنى الكلمة من خلال الإجراءات العسكرية الصارمة..

 وإقامة حواجز كثيرة من مختلف الأنواع..

واستقدام 25000 من الحرس الوطني ما يزيد على كل القوات العسكرية الأمريكية الموجودة في ثلاث دول هي أفغانستان والعراق وسوريا..

 إضافة الى آلاف من عناصر FBI الذين ملأوا أسطح المباني وتغلغلوا بين صفوف المواطنين، وقد قام إخوان هؤلاء العنصريين في باقي المدن والولايات بمسيرات مسلحة يعلنون فيها ولاءهم لترامب ورفضهم الإعتراف بشرعية جو بايدن، وهؤلاء سيشكلون اللبنة الأولى في مسيرة ترامب بهدف تقويض سلطة الرئيس بايدن طوال الأربع سنوات القادمة وخلق مشاكل داخل المجتمع الأمريكي، ويقوم بتمويل حملة ترامب هذه أولئك الذين اغدقوا عليه الأموال طوال عهده والذين أمّن الرئيس الأمريكي الشرعية لهم والحماية في وجه كافة الحملات ضدهم.

إن الفُرص لن تستمر طويلاً، وإن انتهاز الفرصة واجب عقلي، وإن تردد جو بايدن في أخذ المبادرة والتوقيع سريعاً على إعلان العودة إلى الإتفاق النووي مع إيران كما وقّع على رزمة إعلانات مهمة أخرى في أولى لحظات تسلمه السلطة، ستعطي أعداء منهج الرئيس باراك أوباما الفرصة لخلق مشاكل وبناء عقبات تجعل العودة إلى الإتفاق أكثر صعوبة، وهذا يخدم إيران حيث تتقدم كل يوم في تطوير قدراتها النووية وبالنتيجة فهي تحسّن من شروطها حين تبدأ المفاوضات، والولايات المتحدة المنغمسة في الأزمات الداخلية والمتخبطة في لملمة الركام الذي تركه الرئيس السابق في مختلف الحقول فإنها تكون في موقف الضعف أكثر وتضطر إلى القبول بأمور لمصلحة إيران أكثر من الآن، وكان يقال عند العرب قديماً : " كل نصيحة بجمل ".

السيد صادق الموسوي

الوسوم