بيروت | Clouds 28.7 c

ترسيم الحدود البحرية: مفاوضات على نار حامية

مجلة الشراع 5 تشرين الأول 2020

 

  • *ما أنجزه بري خارطة طريق لضمان حقوق لبنان
  • *ما يريده لبنان هو ملحق لاتفاق الهدنة حول الحدود البحرية
  • *لا مفاوضات مباشرة ولا تطبيع ولا تكرار لاجتماعات اتفاق 17 ايار
  • *رهان اميركي على الضائقة الاقتصادية للبنان لتمرير ما تريده تل ابيب

كتب المحرر السياسي لـ "الشراع"

 لم يعد خافياً على احد بان التوقيت الذي تبدأ  فيه المفاوضات بين لبنان والكيان الصهيوني حول ترسيم الحدود البحرية بينهما برعاية الامم المتحدة و"وساطة" الولايات المتحدة في الرابع عشر من الشهر الجاري، هو توقيت استثنائي كان يؤمل ان يحدد في ظروف أفضل وأحسن.

ومهما قيل عن ان المفاوضات ستكون طويلة وستستغرق ما بين سنة وسنتين ، على ضوء المواقف المعروفة لبيروت وتل ابيب وكذلك واشنطن غير البعيدة عن الموقف الاسرائيلي، فان كل ذلك لا يسقط طبيعة الظروف والمناخات التي تجري فيها. وهي ظروف ومناخات أقل ما يمكن ان يقال فيها انها صعبة  وشاقة على لبنان ، في ظل الانقسام الداخلي  الحاد القائم المتمثل بشكل صارخ في العجز عن تشكيل حكومة جامعة تتولى العمل بكل الوسائل والامكانات من اجل لجم الانهيار الحاصل على كل المستويات والصعد والميادين لاسيما على الصعد المالية والنقدية والاقتصادية بعد انهيار قيمة الليرة اللبنانية وارتفاع نسبة اللبنانيين الذين يعيشون تحت خط الفقر الى ما يزيد عن 75 بالمائة منهم.

صحيح ان اتفاق الاطار للمفاوضات تم التوصل اليه قبل اشهر( في شهر تموز- الماضي) اي قبل تصاعد الازمة الحادة التي يعيشها لبنان، لكن الصحيح ايضاً ان واشنطن كما بات واضحاً لم تترك وسيلة الا واستخدمتها وفق ما يقوله خبراء معنيون بملف النفط والغاز لتفرض على لبنان الذهاب الى المفاوضات وسط اوضاع ضاغطة بفعل تدخلاتها التي اصبحت سافرة خصوصاً بعد شهادة نائب وزير الخارجية الاميركي دافيد هيل امام الكونغرس والذي كشف فيه عن ان بلاده انفقت عشرة مليارات دولار اميركي من اجل حث حلفائها في كل القطاعات( السياسة والاعلام ومجموعات في المجتمع المدني) على التحرك، وبما اعطى الحجة لخصوم الولايات المتحدة للقول بان كل ما توالى من أزمات في لبنان سببه "كلمة السر" الاميركية التي تريد لبنان خاضعاً وطيعاً لما فرضته وتفرضه من شروط في كل الملفات المطروحة على الطاولة من قبلها وفي مقدمتها ملف ترسيم الحدود البحرية المرتبط بملف بدء استخراج النفط والغاز من الحقول اللبنانية المتوقع وجودها  في باطنها.

وفي مراجعة لما حصل على امتداد المرحلة السابقة، كان لبنان وما زال متمسكاً بحقوقه جغرافياً من جهة ، وبثروته من النفط والغاز في قعر البحر ولاسيما في البلوكين رقم 8 ورقم 9 من جهة ثانية. ويعود الفضل في ذلك وبالدرجة الاولى الى الرئيس نبيه بري الذي تعاطى على مدى عشر سنوات مع الملف بحرفية عالية مع التنبه دائماً لكل ما يمكن ان يكون منصوباً من أفخاخ وكمائن اميركية واسرائيلية لجر لبنان الى ما لا يتلاءم مع حقوقه المثبتة ومن دون الخضوع لاي ضغط او تهديد.

وقد امتد ذلك سنوات وسنوات، كان الرهان الاميركي فيها كل مرة على تراجع المفاوض بري وتخليه عن القواعد التي حددها لاي عملية ترسيم حدود وابرزها ما يلي :

  1. اولاً: عدم القبول بمفاوضات مباشرة. وقد استند بري في ذلك الى تجربة اللقاء السداسي الذي افضى الى تفاهم العام 1996 الذي اعقب عدوان " عناقيد الغضب" الاسرائيلي وقضى بان ترد المقاومة على اي اعتداء على لبنان بالمثل ، وهي قاعدة الاشتباك الجديدة التي ادت دوراً اساسياً في الوصول الى انجاز التحرير وانسحاب قوات الاحتلال الاسرائيلي من الشريط الحدودي عام 2000.

المفاوضات السداسية التي عقدت في ذلك الوقت كانت سداسية ، وضمت لبنان والكيان الصهيوني وسورية اضافة الى الولايات المتحدة وفرنسا والامم المتحدة. ولم تكن تشهد كلاماً او نقاشاً مباشرا بين الاسرائيليين مع الوفد اللبناني او السوري ، بل كانت تتم عبر الوفود الثلاثة الاخرى المشاركة اي عبرممثلي واشنطن وباريس والمؤسسة الدولية.

وفي مفاوضات ترسيم الحدود ، لن يكون هناك نقاش او حديث مباشر بين الوفد العسكري – التقني اللبناني والوفد الصهيوني على الرغم من انهما سيجلسان على الطاولة نفسها في مقر للامم المتحدة في الناقورة، وسيتم التداول في المواضيع المطروحة من خلال الوفد الاميركي وكذلك من خلال قائد القوات الدولية في الجنوب وممثل الامم المتحدة .

ولن يكون هناك اي شكل من اشكال التطبيع او ما شابهه ، كما لن يكون من نوع المفاوضات التي جرت عام 1983 في خلدة ومستعمرة كريات شمونة التي ادت الى ما سمي اتفاق 17 ايار في عهد الرئيس السابق امين الجميل ، قبل ان ينتفض الثنائي نبيه بري ووليد جنبلاط  وحلفاؤهما عليه لاسقاطه من خلال انتفاضة الخامس من شباط – فبراير في العام 1985، علماً ان الاسرائيليين يعملون على اضفاء طابع سياسي ودبلوماسي على المفاوضات من خلال محاولة ايكال مهمة رئاسة الوفد الاسرائيلي الى وزير الطاقة او الى احد سفرائهم، وهو ما يرفضه لبنان جملة وتفصيلاً.

  1. ثانياً: ان لبنان يتمسك باتفاق الهدنة بين لبنان والكيان الصهيوني عام 1949 ، وهو ما استمر العمل بموجبه مع صدور عدة قرارات دولية بخصوصه وابرزها القرار 425 الذي صدر بعد الاجتياح الاسرائيلي عام 1978 والقرار 1701 الذي صدر بعد عدوان تموز- يوليو 2006. وهذا الالتزام يندرج تفاهم العام 1996  في اطاره ليؤكد منحاه واستمرار العمل والسير به.

ومعنى ذلك ان اي اتفاق سيتم التوصل اليه في المفاوضات المشار اليها سيكون بمثابة ملحق اضافي وجديد لاتفاق الهدنة ويتعلق بالحدود البحرية دون زيادة او نقصان. وهذا الامر لا مساومة عليه ولا تراجع عنه - وفقاً لمعلومات "الشراع"- مهما اشتدت الضغوط ومهما بلغ حجمها.

  1. ثالثاً: ان حقوق لبنان مثبتة ويوجد من الأدلة والوثائق والخرائط المعتمدة دولياً ما يضمنها ، وهو ما عمل الرئيس نبيه بري دائماً على اعداده وتجميعه والبناء عليه ، وحجر الاساس بالنسبة للحدود البرية وتالياً الحدود البحرية هو الخرائط المحددة من قبل سلطتي الانتداب الفرنسي على لبنان والانتداب البريطاني على فلسطين. وهذه الخرائط محددة على الارض وعلى امتداد الحدود وقد تم تثبيتها بعد التحرير عام 2000 ، علماً ان ثمة خروقات لها وإن كانت ليست كبيرة من خلال ما سمي الخط الازرق وتشمل نحو 13 نقطة.

وعندما أصر بري على تلازم الترسيم براً وبحراً انما كان ينطلق من ان اعتماد خرائط ترسيم البر والتي ثبتت الحدود  من قبل الانتدابين الفرنسي والبريطاني للبنان وفلسطين المحتلة يضمن ترسيماً موازياً مناسباً  للحدود البحرية من خلال اعتماد القوانين المعتمدة دوليا،وذلك من خلال البناء على الحد الفاصل على الشاطئ وتحديدا في الناقورة لتثبيت ما هو من حق لبنان وليس من خلال التلاعب به كما يحاول الاسرائيليون فعله، وهو ما شكل وما زال يشكل نقطة الخلاف في البلوكين رقم 8 ورقم 9 خصوصاً وان معا عرف بخط هوف نسبة للموفد الاميركي فريدريك هوف يؤدي العمل به الى خسارة لبنان نحو860 كيلومتراً مربعاً في البحر كما تطمح تل ابيب ، وهو ما رفضه ويرفضه بري .وسيرفضه الممثل اللبناني في مفاوضات ترسيم الحدود في الرابع عشر من الشهر الجاري وفقاً لمعلومات موثوقة توافرت لـ "الشراع" بهذا الخصوص.

وهذا الامر كان وما يزال الحجة الدامغة لرئيس مجلس النواب وخلفه كل لبنان في تمسكه بالتلازم بين الحدود البرية والبحرية ، لان ما هو مطلوب بالنسبة للحدود البحرية يستند وفق القوانين الدولية لما هو مثبت في الحدود البرية.

ولعل ما ينبغي الوقوف عنده في هذا المجال هو ان مصطلح ترسيم الحدود قد لا يكون دقيقاً , والأصح كما يقول خبير قانوني لبناني متابع للموضوع هو ان يعتمد مصطلح تثبيت الحدود لان الامر محسوم ولا يحتاج الى اعادة ترسيم وهو الامر الذي تولى الرئيس نبيه بري وبصلابة مشهود له بها التشدد به كونه يتعلق بحقوق لبنان.

 في ضوء ذلك كله ،فان بري وضع خارطة الطريق لمفاوضات ترسيم  او تثبيت الحدود وحدد قواعدها وضوابطها وما يمكن ان يقبل به لبنان بما يحفظ حقوقه وما لا يمكن السير به. وكل ذلك استناداً الى ما ورد انفاً من خرائط لا لبس فيها ولا "اجتهادات" وترتكز الى اسس وقوانين سارية المفعول في كل العالم و بينها قانون البحار المعتمد دولياً.

ولذلك،

 فان السؤال المطروح الان هو:

على ماذا تراهن تل ابيب ومعها واشنطن في الذهاب الى مفاوضات ترسيم الحدود البحرية وموقف لبنان معروف سلفاً ؟ وهل انها تراهن على ان ما افتعل من ازمات مالية واقتصادية ونقدية فضلاً عما يهدد لبنان من اخطار محدقة به في ميادين اخرى أدى ويؤدي الى  اضعاف المقاومة وتليين الارادة اللبنانية للقبول بما كان مرفوضا قبل الازمة الحالية لتدارك الانهيار الشامل والفوضى وزعزعة الاستقرارالامني والسلم الاهلي؟

وهل ان اسرائيل معها الولايات المتحدة تراهنان على ان لبنان سيستميت من اجل انجاح المفاوضات ولو على حسابه من اجل الخروج من الضائقة الخانقة التي يعيشها اقتصادياً؟

لا يمكن الجزم بذلك الان والاجابة على ذلك قبل بدء المفاوضات في جلستها الاولى على الاقل ومعرفة ما سيطرح فيها من قبل الوفد الصهيوني ومساعد وزير الخارجية الاميركي دافيد شينكر ، ليبنى على الشيء مقتضاه والحكم على المسار العام الذي ستسلكه هذه المفاوضات.

الا ان المؤكد هو ان المفاوضات  ستكون طويلة ، في ظل التوقعات بانها قد تمتد لفترة ما بين سنة وسنتين ، او بضعة اشهر على الاقل ، اضافة الى احتمال تعليقها في اي لحظة.

ووفق بعض التقديرات المستندة الى معطيات عديدة أمكن لفريق معني جمعها ،فان المفاوضات ستجري على نار حامية ، ويتوقع عقب كل جلسة او جولة يعبر فيها الجانب اللبناني عن تمسكه بحقوقه ورفض التنازل عنها ان يتعرض لبنان لهزة جديدة ، سواء من خلال احداث معينة او من خلال الاعلان عن فرض عقوبات جديدة عليه ، او من خلال زيادة الضغوط عليه في مجالات الاقتصاد والسياسة والامن وحتى الشارع  ...الخ اضافة الى استخدام وسائل اخرى تندرج في اطار الحروب البديلة للحرب العسكرية ضد لبنان غير المطروحة الآن حتى اشعار اخر.وعلى هذا الاساس فان لبنان سيكون امام خيارين : إما التنازل وفقاً للشروط الاميركية والاسرائيلية وإما الانهيارالشامل والكامل.

وفي معلومات خاصة بـ "الشراع" فان حسابات البيدر في هذا المجال لن تكون مطابقة لحسابات الحقل الاميركية والاسرائيلية ، خصوصاً وان  اتفاقاً انجز بين القيادات اللبنانية المعنية مباشرة بالملف بحكم صلاحياتها وبحكم اهتمامها به  على كل ما اعلن حتى الآن وما سيتخذ قريباً من خطوات ، بالاضافة الى ان حزب الله الذي تراهن واشنطن على انه" تراجع وضعف "بفعل اجراءاتها ضده وضده لبنان ليس بعيداً عن هذا الاتفاق  ومندرجاته وهو امر هام للغاية كونه يجعل لبنان في موقع ضاغط وليس فقط في موقع من يتعرض للضغوط .

وخلاصة القول ان المعنيين بملف ترسيم الحدود سيؤكدون وبشكل حازم وواضح وجلي ان ما لم يقدر الكيان الصهيوني على تحقيقه بالحروب العسكرية والامنية والاعلامية والدبلوماسية لن يكون بإمكانه الحصول عليه في مفاوضات أرادها الاميركيون ان تكون بعد حرب ضروس غير عسكرية بالمعنى التقليدي واستخدمت فيها كل الوسائل لتجويع اللبنانيين وقهرهم وإذلالهم .

"ونقطة على السطر" كما قال بري وفعل  غير مرة في تجارب سابقة وفي ظروف مشابهة بصعوباتها وتعقيداتها الشديدة.

 

 

 

الوسوم