بيروت | Clouds 28.7 c

ماذا يميز محرّم هذا العام ؟ / بقلم السيد صادق الموسوي

 

مجلة الشراع 13 آب 2020

كانت الأشهر القمرية متداولة كما هي اليوم بين العرب قبل بزوغ فجر الإسلام، ولا نريد التوسع في أسباب تسميات تلك الأشهر، فلما جاء الدين الإسلامي الحنيف صادق على ذلك، فكانت الفرائض المهمة الإسلامية مرتبطة ارتباطاً كلياً مع تلك الأشهر، حيث الصيام يكون في شهر رمضان، والحج يتمّ في ذي الحجة، وعيد الفطر يصادف أول شهر شوال، وعيد الأضحى يكون في العاشر من شهر ذي الحجة، وهكذا ولادات الرسول صلى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السلام ووفياتهم وعامة المناسبات الدينية مقرونة بالأشهر القمرية، لكن لشهر محرم ميزة  خصوصاً بين الإشهر القمرية على الرغم من أنه يأتي في آخر الأشهر الحُرُم الثلاث ذي القعدة الحرام وذي الحجة الحرام ومحرم الحرام، حيث كان العرب يحرمون القتال في هذه الأشهر إضافة لشهر منفرد هو شهر رجب الحرام؛ وكان محرم هو الشهر الأول من السنة القمرية وليس مقروناً بشيء أو مناسبة كما باقي الأشهر، بل إسمه محرم لحرمة القتال فيه خلافاً للشهر الحرام الذي قبله الذي يشير إلى وقوع الحج فيه مثلاً.

إن شهر محرم الحرام الذي كانت له خصوصية عند العرب أيام الجاهلية الأولى إضافة إلى حرمة القتال فيه وهي شروع العام القمري مع رؤية هلاله، هذا الشهر قد هُتكت حرمته بعد الإسلام على أيدي من كانوا يدّعون أنهم عرب اقحاح وأيضاً حماة هذا الدين الحنيف، وأول هذا الهتك وأفضعه كان قتل الإمام الحسين سبط الرسول صلى الله عليه وآله في العام ٦١ هجري في أرض كربلاء، إذ خرج سيد الشهداء عليه السلام من مكة لما علم أن يزيداً قد قرر اغتياله ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة، وكان قد أرسل فعلاً مجموعة لتنفيذ الجريمة النكراء، وبما أن ذلك سيكون فاتحة هتك لحرمة الشهر الحرام والأرض الحرام والبلد الحرام والمسجد الحرام والكعبة المشرفة في آن وهذا ما لا يرضاه فإن الإمام الحسين عليه السلام قرر الخروج من المنطقة لإفشال المؤامرة الخبيثة ولتبقى للشهر الحرام حرمته وللأرض الحرام حرمتها وللبلد الحرام والمسجد الحرام والكعبة المشرفة حرمتها أيضاً، ولكي لا يُسجّل في التاريخ أن المسلمين الذين يحرص دينهم على حفظ النفس البشرية وجاء في كتابهم السماوي " أن من أحيا نفساً فكأنما أحيا الناس جميعاً " قد استباحوا حرمة زمان كان العرب في الحاهلية يحافظون عليها، وهتكوا حرمة المسجد الحرام والكعبة المشرفة الذين هما أقدس مكان عندهم وهما قبلة صلواتهم، فبدّل الإمام الحسين غليه السلام ومن معه نية الحج بالعمرة وخرجوا قبل أن تبدأ مراسم الحج وابتعدوا عن جموع الحجاج لكي لا يشوشوا عليهم أداء فريضتهم الدينية، لكن الطرف الآخر لم يكن يأبه بكل القيم التي كان يلتزم العرب بها قبل الإسلام، ولم يكن يؤمن أساساً بأن ما جاء به محمد صلى الله عليه وآله هو وحي من السماء، وهذا ما صرح به يزيد بعدما وضعوا أمامه رأس الحسين عليه السلام الذي حمله معهم جنوده من كربلاء إذ قال في جملة ما قال مخاطباً أشياخه الذين قُتلوا في حرب بدر: " لعبت هاشم بالمُلك فلا خبر جاء ولا وحي نزل "، فيما كان منطق الحسين يقول؛ " إن كان دين محمد لم يستقم إلاّ بقتلي فيا سيوف خذيني ".

لقد بذل سيد الشهداء عليه السلام جهوداً وأجرى مفاوضات مع عمر بن سعد قائد جيش ابن زياد لتأجيل المواجهة في كربلاء حفاظاً على حرمة الشهر الحرام كون نزوله في المكان صادف حلول شهر محرم وبالتحديد يوم الثالث منه، لكن الإستعجال لحسم المعركة كان من جانب والي الكوفة متجاهلاً خصوصية الشهر وأيضاً لرمزية أن بهذا الشهر تبدأ السنة القمرية والتي اتفق المسلمون على إعطائها صفة إسلامية بعد ذلك من خلال نسبتها إلى هجرة النبي صلى الله عليه وآله من مكة المكرمة إلى مدينة " يثرب " التي اشتُهرت بعد ذلك باسم " المدينة المنورة " ومن ثم عُدّت الأعوام القمرية بناء على وقوع ذلك الحدث المصيري استنادا إلى اقتراح الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام.

لكن القدر الإلهي جعل من وقوع هذه الجريمة الكبرى في هذ الشهر وسيلة ليأخذ العام الهجري لوناً حسينياً إلى إبد الآبدين، ويتذكر المسلمون على مرّ التاريخ ومع شروع كل عام هجري ذكرى ثورة سبط رسول الإسلام صاحب الهجرة، والذي كان هدفه " الإصلاح في أمة جدي " بعدما كادت تعاليم الإسلام الحنيف تُمحى وتُعاد الحياة لعادات الجاهلية الأولى.

[7:28 PM, 8/13/2020] W.B: إن الجريمة الكبرى المتمثلة بقتل الحسين وأصحابه قد وقعت يوم العاشر من شهر محرم لكن أئمة أهل البيت عليهم اهتمّوا كثيرا وبصورة استثنائية بالحدث وأكدوا على ضرورة إحياء الذكرى مع بداية حلول الشهر، حتى أن مجرد وجود احتمال ضرر أو خطر عقلائي يوجب ترك أداء كثير من الفرائض الدينية حفاظاً على النفس وحرصاً على السلامة، لكن الأئمة المعصومين عليهم السلام كلهم قد حضّوا على زيارة قبر الإمام الحسين من أطراف الأرض على الرغم من وجود المخاطر الجمّة، بل هُم أنفسهم بادروا إلى إقامة مجالس العزاء في بيوتهم تخليداً للذكرى، وشجعوا الشيعة أيضاً على ضرورة أن يولوا اهتماماً خاصاً بالأمر، حتى أن الإمام الصادق عليه السلام " إذا هلّ هلال عاشور اشتدّ حزنه وعظم بكاؤه " والإمام موسى بن جعفر عليه السلام " كان إذا دخل شهر المحرّم لا يُرى ضاحكاً وكانت الكآبة تغلب عليه حتّى يمضي منه عشرة أيّام "، بل إن الإمام علي الرضا عليه السلام لخّص حال العرب قبل الإسلام والمسلمين بعد ذلك في التعاطي مع الشهر الحرام ومدى حفاظهم على حرمته بقوله: " إنّ المحرّم شهر كان أهل الجاهلية يحرّمون فيه القتال، فاستُحلّت فيه دماؤنا، وهُتكت فيه حُرَمنا، وسُبي فيه ذرارينا ونساؤنا، وأُضرمت النيران في مضاربنا، وانتُهب ما فيها من ثقلنا، ولم تُرع لرسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم حرمة في أمرنا ".

ولقد كان لثورة الحسين وإحياء ذكرى استشهاده رسالة مهمة لكافة الأجيال في التاريخ حيث بيّن الإمام للمسلمين في كل زمان ومكان أن لا قداسة أبدية للحاكم، ولا تبعية دائمة واجبة لسلطان، فإذا اتّبع الحاكم والسلطان التعاليم والتزما بالأحكام وسارا على المنهاج وجبت إطاعتهما أما إذا خرجا عن الجادة وانحرفا عن السنة ومارسا الظلم والجور بحق عباد الله عندئذٍ لا تبقى حرمة للحالكم بتاتاً ولا يبقى وجوب لاتّباع أمره ونهيه، بل يجب رفض بيعته والخروج عن طاعته والحؤول دون تشويهه صورة الإسلام الحنيف، وهذا ما يحتاج إليه المسلمون في كل عصر وحين، بل إن الشعلة الحسينية تنير الطريق لكل طلاب الحرية والعدالة على مرّ الزمن وفي جميع أنحاء العالم بمعزل عن الطائفة والدين والعِرق واللون.

أما ما يميز هذا الشهر وإحياء هذه المناسبة الأليمة في هذا الظرف وتذكّر الإمام الحسين عليه السلام في ظل تفشي الفيروس واضطرار الناس إلى تحاشي التجمعات حفاظاً على حياتهم، وتزامن إحياء الذكرى في لبنان مع جملة أحداث وتطورات تفرض علينا التوقف من جديد والتعمق في معاني ثورة الإمام الحسين سيد الشهداء عليه السلام واستخراج الدروس بما يتناسب مع المرحلة إذ أن مدرسة الإمام غنية بالدروس بحيث أمكن للمهاتما غاندي الهندوسي أن يستمدّ منه القوة لمواجهة الإستعمار البريطاني في أربعينيات القرن الماضي ويفوز باستقلال الهند، والإمام الخميني تمكن من خلال إحياء ذكرى عاشوراء الثورة على نظام الشاه والإنتصار عليه وإقامة الجمهورية الإسلامية في إيران في سبعينيات القرن الماضي، وفي لبنان استلهم المجاهدون من الثورة الحسينية الشجاعة والعزيمة واقتحموا صفوف الصهاينة المحتلين والقوات المتعددة الجنسيات فهزموهم بإذن الله، واندحرت الإساطيل في ثمانينيات القرن المضي واضطر الغزاة للفرار مذلولين في العام ٢٠٠٠، وفي العراق أثمر ثبات أهلها في الإعتصام بحبل الله والتمسك بالولاء لأهل البيت والإستلهام من مدرسة كربلاء الدروس فكانت النتيجة زوال نظام صدام عام ٢٠٠٣ والإنتصار على القوات الغربية المحتلة عام ٢٠٠٨ وأخيراً هزيمة عصابات داعش العميلة على ايدي المجاهدين في الحشد الشعبي والجيش العراقي، وملاحقة فلول التكفيريين مستمرة حتى اليوم.

أما حلول ذكرى عاشوراء بعد أيام ومع تعذر التجمع في الحسينيات والإحتشاد في الأماكن العامة حفاظاً على السلامة فلابد من التكيف مع الوضع الطارئ، والتعامل مع الذكرى بما لا يتعارض مع ضرورة الإحتياط لتجنب المخاطر الناتجة عن الإكتظاظ، لكن هذا الواقع أيضا يفسح المجال للموالين لأهل البيت عليهم السلام أن يخرجوا من الإطار الصيق الذي دأبوا عليه في السنوات الماضية والذي يجعل كل شخص مدفوعاً لسماع نمط خاص من الخطابات ويحضر مجلساً معيناً ذات صبغة تنظيمية دون غيره، حيث يمكنه الآن وهو في منزله الإنتقال عبر التلفاز من قناة إلى قناة والإستماع إلى خطباء من توجهات متعددة والتوسع في الإطلاع على معلومات ودروس جديدة عن الثورة الحسينية، وهذا ما كان يصعب الحصول عليه من قبل.

[7:28 PM, 8/13/2020] W.B: أما الواقع الأليم الذي يواجهه الشعب اللبناني اليوم نتيجة تفشي الوباء من جهة وبسبب الفوضى السياسية وانشغال مختلف الأطراف عن مصالح الناس بمصالحهم الشخصية والحزبية في وقت كان يبحث المواطن البسيط عن لقمة خبز يأكله ويُطعم أسرته ويمدّ يده مكرهاً إلى هذا وذاك ليحصل على مال قليل، وذلك قبل أن تأتيه الفاجعة الأكبر وتؤدي إلى تهدم مئات آلاف الأبنية وتصدع الأضعاف، فبات هذا الجائع الفقير بحاجة فورية إلى سقف آمن يُظلل تحتها عائلته إضافة إلى المعضلة المعيشية السابقة، إذ يضطر الكثيرون إلى الحصول على مال لإصلاح الأضرار في منازلهم فيعودوا للسكن فيها وهم كانوا قبل ذلك عاجزون عن تأمين ثمن رغيف لأسرهم، في وقت يرزح البلد كله تحت حصار أمريكي ظالم ويحكمه في الوقت نفسه طغمة فاسدة متعددة الطوائف والمذاهب والوجوه تشاركها أحزاب وتنظيمات متلوّنة بألوان مختلفة، ولا يهم هؤلاء معاً سوى نهب ما يمكن من مال الدولة وثروات البلد وقوت الفقراء وتهريب الملايين والمليارات إلى حسابات خاصة في المصارف الأجنبية، وترك عامة الشعب من ذوي الدخل المحدود تتخبط في المشاكل المتراكمة والأزمات المتلاحقة والمصائب المتعاقبة، وتُثقل كاهلها الديون الداخلية والخارجية بمئات مليارات الدولارات؛ أمام هذا الواقع لا بد للخطباء أن لا بأخذوا الناس إلى الماضي ليبكوا فقط على مظلومية سبط الرسول صلى الله عليه وآله يوم عاشوراء وهذا مطلوب بذاته وتذكّر ما أصاب أهله وأصحابه من ظلم وجور لا مثيل لهما في العالم وهذا ضروري جداً، بل أن يستحضروا في نفس الوقت الحسين عليه السلام إلى واقعنا المعاصر وهو الذي خاطب الناس يوم قرر الإنطلاق في مسيرته قائلاً: " ألا ترون إلى الحق لا يُعمل وإلى الباطل لا يُتناهى عنه ؟ "، فإذا كان السبب الرئيسي لنهضة الحسين عليه السلام هو ترك العمل بالحق وعدم التناهي عن الباطل، وإذا كان " كل يوم عاشوراء وكل أرض كربلاء "، فعلى من يحب الحسين صادقاً ويبكي على الحسين بحرقة ولوعة ويقول: يا ليتني كنت مع الحسين أن يجعل العمل بالحق والتناهي عن الباطل ديدناً ومعياراً، فإذا رأى أحد في أي زمان وأي مكان أن الحق لا يُعمل به وأن الباطل لا يُتناهى عنه فعليه أن يتخذ نفس القرار الدي اتخذه سيد شباب أهل الجنة وأصحابه الميامين وهو: " فليرغب المؤمن في لقاء ربه "، وأن ينطلق في المسيرة الجهادية التي حمل رايتها سبط الرسول صلى الله عليه وآله ولحقه القليلون من طبقات متعددة من أبناء الأمة ممن لم تزل جذوة الإيمان مشتعلة في نفوسهم ولم يتمكن التعريف الأموي الكاذب للإسلام الحنيف من مسخ أفكارهم ومسح الصورة المشرقة التي تعلموها من طريق أهل بيت النبوة، فباعوا الدنيا الزائلة وكسبوا الأخرى الباقية، وصاروا نتيحة موقفهم هذا المَثَل لكل الأحرار والنبراس لجميع المجاهدين، والذين يقف أمام قبورهم أعظم العظماء وأعلم العلماء وأفقه الفقهاء بكل خصوع ليقولوا لهم: " السلام عليكم يا أولياء الله وأحبّاءه، السلام عليكم يا أصفياء الله وأودّاءه، ثم يعبّروا عن غاية مناهم أمامهم وهي: " يا ليتنا كنا معكم فنفوز فوزاً عظيماً "

إن الحسين لو حضر اليوم لوقف مع الفقراء ضد الفاسدين، وقاد صفوف المعارضين لحكام الجور والمطالبين بإنصاف المحرومين، ولصرخ بأعلى الصوت في وجوه الطغاة الظالمين، وإذا لزم الأمر حمل مرة أخرى طفله الرضيع على يديه لعل القلوب القاسية لهؤلاء المجرمين في عصرنا تلين فيرحموا قليلاً الأطفال والنساء، ولقدّم قرباناً أعزّ الناس لديه وهو أخوه العباس ليأتي بقليل من الماء يروي به عطش الأطفال، فأين المستجيبون لنداء سيد شباب أهل الجنة، والزاهدون في هذه الدنيا والطامعون بالبقاء والخلود وأن يكونوا أحياءً عند ربهم يُرزقون ؟.

السيد صادق الموسوي

الوسوم