بيروت | Clouds 28.7 c

وعد بلفور: سر الصياغة النهائية / باريس- بقلم علي أحمد

 

 

وعد بلفور: سر الصياغة النهائية/ باريس- بقلم علي أحمد

الشراع 14 كانون ثاني 2022

نص وعد بلفور في صيغته النهائية على ان "حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين الرضى الى اقامة وطن قومي في فلسطين وانها ستبذل ما في وسعها لتسهيل تحقيق هذا الهدف, على ان يفهم انه لن يؤتى بأي عمل من شأنه الانتقاص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها حقوق الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين او من حقوق اليهود وأضاعهم السياسية في كافة البلدان الأخرى".

جاء هذا الوعد في رسالة وجهها وزير خارجية انجلترا آنذاك آرثر بلفور بتاريخ 2 تشرين الثاني من عام 1917، الى اللورد ليونيل روتشيلد أحد ابرز وجود الطائفة اليهودية البريطانية وذلك لنقلها الى حاييم وايزمن رئيس الاتحاد الصهيوني لبريطانيا العظمى وايرلندا...

ومن المعروف ان الصيغة الأولى لوعد بلفور كانت جد مقتضبة واقتصرت على الجزء الأول فقط من الاعلان النهائي (أي تأييد اقامة وطن قومي لليهود في فلسطين ودعم هذا الهدف)..

فما هي الأسباب التي دعت الى اضافة مسألة حقوق الطوائف غير الهيودية من جهة ووضع اليهود المقيمين في البلدان الأخرى؟

الواقع ان الاضافات المشار اليها جاءت يومها لإرضاء المعارضىة لوعد بلفور التي لم تتوان عن نقدها لهذا الاعلان الذي يسعى الى خلق وطن قومي لليهود في فلسطين ويبرر المساس بصورة غير مقبولة بحقوق السكان الفلسطينيين من جهة وتشجيع انتشار معاداة السامية ضد اليهود حيثما وجدوا.

ان أبرز وجوه المعارضة تمثلت يومها:

باللورد ادوين مونتاغي Edwin Montagy الوزير اليهودي الوحيد في حكومة لويد جورج الذي صدر اعلان بلفور بإسمها اللورد جورج كيرزون Curzon عضو الحكومة ونائب الملك السابق للهند والخبير في شؤون الشرق الأوسط.

ركز جورج كيرزون انتقاداته لوعد بلفور بأنه غير عملي وغير واقعي بفلسطين ليست البلد المهيأ لاستقبال أعداد كبيرة من اليهود. ضف الى ذلك الى ان هجرة اليهود الكثيفىة ستؤدي حتماً الى طرد سكان فلسطين الأصليين من بلادهم. ويتابع كيرزون بأن مدينة القدس تحتل أهمية كبرى في نظر المسلمين والمسيحيين على حد سواء، ولا يجوز السماح بأن تقع تحت سيطرة اليهود دون غيرهم. وأخيراً فإن مدينة الخليل هي ذات أهمية تاريخية في نظر المسلملين ايضاً.

وبعد اشارة كيرزون الى ضعف الحركة الصهيونية التي لا تمثل في نظره سوى أقلية ضئيلة من يهود العالم فإنه ينتهي الى اعتبار ان الحل العملي الواقعي يكمن في الاعتراف بحقوق دينية ومدنية متساوية بين المسلمين والمسيحيين واليهود في فلسطين.

أما ادوين مونتاغي فـإنه فضل (على الرغم من موافقته على الانتقادات التي وجهها اللورد جورج كيرزون لوعد بلفور من زاوية عدم واقعيته وفاعليته) التركيز على الجوانب المبدئية في رفضه لوعد بلفور وآثاره السلبية بل والكارثية لا على سكان فلسطين فحسب بل وعلى كافة اليهود أينما وجدوا.

يبدأ مونتاغي بالقول ان ما دفعه للكتابة مذكرة شديدة اللهجة موجهىة الى الحكومة البريطانية هو اطلاعه على الرسائل المتبادلة بين وزير الخارجية آرثر بلفور واللورد روتشيلد (رسالة روتشيلد في 18 تموز ورد بلفور في شهر آب من عام 1917) واكتشافه بأن الحكومة البريطانية تعلن موافقتها على خلق أمة جديدة ووطن قومي جديد في فلسطين، وان هذه الأمة تتكون تحديداً من روس يهود وانجليز ورومانييين يهود وبلغاريين يهود ومن مواطنين يهود من كافة الأمم الأخرى. (نشير هنا الى ان مونتاغي يتعمد الرد على حاييم وايزمن الذي يعتبر، شأنه شأن الحركة الصيهونية، بأنه لا وجود ليهود انجليز او فرنسيين او ألمان اميركيين، بل يوجد يهود يعيشون في انجلترا وفرنسا وألمانيا وأميركا.. فقط).

ثم ينتقل مونتاغي الى توجيه انتقاد صريح ولاذع للحركة الصهيونية قائلاً: "ان الصهيونية بدت لي منذ البداية عقيدة ضارة ومؤذية ولا يمكن لأي مواطن يحب وطنه في المملكة المتحدة ان يدافع عنها. فإذا انجليزي يهيودي يتطلع نحو جبل الزيتون في فلسطين ويحلم باليوم الذي سيهاجر فيه الى هناك ليمارس نشاطاَ زراعياً هو انسان لا يستحق في نظري ان يحمل الجنسيىة البريطانية لأنه يعترف بعدم جدارته بالمشاركة في الحياة العامة البريطانية وبالمعاملة كإنجليزي".

ويضيف مونتاغي، بأن ايمان بعض اليهود بالصهيونية كان مبرره تعرضهم للمضايقات وحرمانهم من حقهم في الحرية، كما كان عليه حال يهود روسيا. أما بعد الاقرار بحقوق هؤلاء كروس يهود ومنحهم الحركة كسواهم من المواطنين الروس" فأنني لا أفهم إقدام الحكومة  البريطانية على الاعتراف رسمياً بالحركة الصهيونية وأن يسمح للسيد بلفور بأن يقرر بأن فلسطين يجب ان تتحول الى وطن قومي للشعب اليهودي. ومع انني لا يمكن ان أدرك كل ما يكن ان ينطوي عليه مثل هذا الاجراء، الا انني افترض بأن على المسلمين والمسيحيين الفلسطينيين ان يخلوا المكان لليهود، وان هؤلاء سيحتلون عندها كل المراكز الهامة وستصبح علاقتهم بفلسطين شبيهة بعلاقة الانجليز بإنجلترا والفرنسيين بفرنسا، وأن المسلمين في فلسطين سيعاملون كأجانب كما ان اليهود في كافة البلاد الأخرى سيعاملون كأجانب الا في فلسطين.

يؤكد مونتاغي على أربعة مبادىء:

  1. أولاً: لا وجود لأمة يهودية، وأفراد أسرته الذين يقيمون في انجلترا منذ بضعة أجيال لا يشاركون اليهود الذين يقيمون في البلدان الأخرى لا أفكارهم وأمانيهم والعامل الوحيد المشترك بينهم هو اعتناقهم، الى هذا الحد او ذاك، الديانة اليهودية. فليس صحيحاً الوحيد الادعاء بأن الانجليزي اليهودي والاسباني اليهودي فينتميان الى أمة واحدة كما أنه ليس صحيحاً القول بأن الانجليزي المسيحي والفرنسي المسيحي ينتميان الى أمة واحدة.
  2. ثانياً: ان الادعاء بأن فلسطين هي الوطن القومي لليهود سيدفع حتماً البلاد الأخرى الى طرد مواطنيها اليهود وأن هؤلاء سيعمدون ايضاً الى طرد سكان فلسطين الأصليين وسيستولون على أفضل ما في البلاد من أراضي وممتلكات. ويتساءل مونتاغي، بأنه اذا كانت الفكرة الشائعة بين اليهود، قبل ظهور الصهيونية، تقول بأن عودة اليهود الى فلسطين هي نتيجة ارادة الهية، فهل آرثر بلفور وليونيل روتشيلد يمثلان السيد المسيح؟ويتابع قوله بأن الحياة التي عاشها اليهود البريطانيين والدور الذي لعبوه في الحياة العامة تسمح لهم بأن يعتبروا أنفسهم لا كيهود انجيز وانما كإنجليز يهود. وأنه رغم انه سيستمر في اعتبار المنظمة الصيهونية منظمة غير شرعية معادية للمصلحة الوطنية، الا انه وفي الوقت نفسه يريد من الحكومة البريطانية ان ترفض الاستنتاج الذي يجعل من المواطنين البريطانيين اليهود أجانب ومن ثم حرمانهم من جنسيتهم اما بصورة ضمنية او صراحة عن طريق القانون.
  3. ثالثاً: يرفض مونتاغي فكرة ربط مصير فلسطين باليهود واعتبارها كوطن ملائم لهم. فالوصايا العشر مثلاً أنزلت في سيناء "صحيح ان فلسطين تلعب دوراً كبيراً في التاريخ اليهودي"، ولكنها، في الوقت نفسه تلعب نفس الدور في التاريخ الاسلامي الحديث كما انها تلعب دوراً هاماً في التاريخ المسيحي. قد يكون المبدأ اليهودي موجود في فلسطين ولكن قسم الجبل وصلب السيد المسيح حصل في فلسطين ايضاً. ونتيجة لذلك فإن كل ما يطلبه مونتاغي ليهود فلسطين هو ان يتمتعوا بحقوق متساوية مع الفلسطينيين المسلمين او المسيحيين، ولذلك فهو يرفض كل رؤية ضيقة ومتعصبة تركز على حقبة بعينها من تاريخ فلسطين وتطالب لليهود بحقوق لا مبرر لها وبمواقع لا حق لهم فيها.
  4. رابعاً: أسباب العداء لليهود في الدول التي يقيمون فيها.

يرد مونتاغي أسباب هذا العداء بأن المواطنين اليهود يملكون عموماً  ثروات تتجاوز الى حد كبير متوسط ما يملكه باقي السكان، يضاف الى ذلك أنهم يصلون سن البلوغ قبل غيرهم، وينافسون الآخر في منافسة غير عادلة، كما ان الكثيرين منهم لا يصادقون الا من هم على ديانتهم ولا يعاملون سواهم من المواطنين معاملة حسنة. هذه الأسباب تدفعه الى القول أنه يتفهم ميل الكثير من المواطنين الى التخلص من اليهود.

على انه يصر، من جهة ثانية، على وجود رغبة أكيدة بين أعداد كبيرة من اليهود للاندماج دون تردد في المجتمع الانجليزي. فعدد اليهود الذين يتلقون تعليمهم في المدارس والجامعات الرسمية الانجليزية يزداد على الدوام. وهناك رغبة كبيرة للمشاركة في الحياة العامة والانخراط في الجيش وفي الوظائف الادارية وتراجع رفض الزيجات المختلطة. هذا كله هو دليل على وجود تطورات ايجابية لا يمكن انكارها، ولكن ما ان يحصل اليهود على وطن قومي في فلسطين فإن الضغط سيزداد بهدف حرمان اليهود من الجنسية الانجليزية. وستتحول فلسطين الى "غيتو" العالم كله. وفي مثل هذه الحالة لماذا سيكون على روسيا مثلاً ان تمنح اليهود حقوقاً متساوية مع مواطنيها الآخرين طالما ان وطن اليهود القومي هو فلسطين؟

ويختم ومونتاغي مذكرته بالتوكيد على انه لو كان هو صاحب القرار في الحكومة الانجليزية لوعد اللورد روتشيلد بأن هذه الأخيرة ستعمل كل ما في وسعها لكي يتمتع يهود فلسطين بالحرية الكاملة في الاقامة والعيش في فلسطين على قدم المساواة مع باقي سكان هذا البلد الذين يعتنقون ديانات أخرى، ولطلب من حكومة صاحب الجلالة ان لا تذهب الىى أبعد من ذلك.

خلاصة،

عموماً لا يولي الذين يعالجون وعد بلفور اهتماماً كبيراً بالدور الذي لعبه المعارضون الانجليز لهذا الاعلان وفي مقدمتهم أدوين مونتاغي، وهذا يشكل تغاضياً عن جانب أساسي من تاريخ هذا الحدث.

ونشير هنا الى ان المعارضة الانجليزية يومها لم تكن وحيدة بل كانت جزءاً من معارضة هامة من قبل الكثيرين من اليهود المقيمين في دول أوروبا الغربية لا سيما في فرنسا والمانيا. وعلى سبيل المثال نذكر هنا بأن المؤتمر الصهيوني الأول كان من المفترض ان يعقد في مدينة ميونيخ في ألمانيا، ولكن احتجاج اليهود الألمان المعادين للصهيونية جعل منظمي المؤتمر يستبدلون "ميونيخ" بمدينة "بال"، السويسرية.

عند الحديث عن وعد بلفور لا بد من الاشارة الى مسألتين هامتين:

المسألة الأولى هي: اذا كان حلفاء بريطانيا العظمى قد وافقوا عموماً على اعلان بلفور، فإن ايطاليا كانت أكثر وضوحاً من سواها في تفسيرها لهذا الاعلان، اذ أشارت مباشرة الى ضرورة احترام الحقوق السياسية للطوائف غير اليهودية في فلسطين.

وفي هذه الاشارة الى الحقوق السياسية هي مصدر إزعاج مستمر للمؤرخين الصهاينة كما يذكر المؤرخ الفرنسي الشهير هنري لورانس.. فيعمدون إما الى القول كذباً ان حلفاء بريطانيا وافقوا من دون استثناء على وعد بلفور كما هو.

المسألة الثانية هي ان الفقرة المتعلقة بأوضاع اليهود في البلدان الأخرى تركت أثرها في قانون العودة الاسرائيلي (1950) الذي يمنح الجنسية الاسرائيلية لكافة اليهود الراغبين بالهجرة الى اسرائيل، حيث ينص هذا القانون على ان كل يهودي يطلب الحصول على الجنسية الاسرائيلية يجب ان يكون مقيماً في اسرائيل من جهة وأن يتقدم بطلب شخصي من جهة أخرى..


باريس من علي أحمد

الوسوم