بيروت | Clouds 28.7 c

الصحفي البريطاني ومراسل صحيفة الإنديبندت روبرت فيسك، يكتب عن مجازر مدينة حماة السورية

 

الصحفي البريطاني ومراسل صحيفة الإنديبندت روبرت فيسك

يكتب عن مجازر مدينة حماة السورية

كتب: عبد الهادي محيسن 

الشراع 30 كانون الأول 2024

 

عندما نشبت الثورة في مدينة حماة في شهر شباط عام 1982 قطع المسؤولون في الحال جميع الاتصالات التلفونية والبرية مع المدينة ، وكان بإمكان الصحفيين الأجانب أن يسافروا الى دمشق لكنهم كانوا يحذرون هناك من الأخطار التي يعرضون حياتهم لها إذا هم زاروا حماة ، وصدف أن كان إثنان من أصدقائي الإيرلنديين يعيشون عندئذ في حلب ، فتوجهت في 17 شباط الى تلك المدينة بسيارة أجرة وأنا أعرف جيداً أن الطريق الى حلب تمر بحماة ، ومن المؤكد أن المسافرالأجنبي لم يكن ليعتقل لمجرد مروره بتلك المدينة .

ومهما يكن من أمر فقد كان رجال البوليس يأمرون سائق السيارة عندما يصل الى حماة أن يدور حولها ، وعليه فلم يكن هناك ما يدعوا الى الاعتقاد بأن المسافر سيكون أكثر نجاحاً في رؤية حماة خلال عودته في اليوم التالي الى دمشق ، وفي دمشق كان دبلوماسيوا السفارات الذينكانوا يعتبرون عادة من المراجع الموثوقة سيئة السمعة والذين كانوا يتصيدون تقارير المراسلين الصحفيين وهؤلاء كانوا يتحدثون عن آلاف الموتى في حماة بعد أسبوعين من القتال ، لكن لم يكن قد سمح لأي من المراسلين الصحفيين بالذهاب الى هناك ، ولم يكن من المحتمل أن ينجح أجنبي في المرور إليها .

وفي الطريق الى دمشق في اليوم التالي وعلى بعد إثني عشر ميلاً من حماة كان باستطاعة المرء أن يرى إطاراً من الدخان في الأفق يغطي منطقة عرضها أربعة أو خمسة أميال ، وعندما تقدمنا باتجاه حماة أوقف البوليس التاكسي وأمرنا أن ندور حول حماة عبر طريق كانت ستؤدي بنا الى شرق المدينة ، ولكن اقترب جنديان من السيارة وألقيا نظرة علي وطلبا من السائق أن يعود بهما الى وحدتهما في حماة ، فنظر السائق إلي فقلت له : " خذهما الى حماة " وكان لبنان قد علمني منذ زمن طويل أن وجود الجندي السوري معك في السيارة يمكنك من الذهاب الى أمكنة لا يستطيع الآخرون الوصول إليها .

كان الجنديان غير سعيدين بالعودة من عطلتهما وقال أحدهما : مضى على القتال ستة عشر يوماً ولا يوجد ما يدل على أنها ستنتهي ، وسألني أحد الجنديين من أين أنت ؟ فقلت انكلترا فقال انكلترا ..جيد ، وكنت قد مررت بتجارب شبيهة فلم أقل أنني صحفي وتساءلت بيني وبين نفسي : ألم يشعر هذان الجنديان بشيء من الغرابة في مرافقتهما انكليزياً الى مدية حماة المغلقة ؟ ،  من الواضح أنهما لم يشعرا بذلك لأنهما هما اللذان طلبا منا أن نذهب الى حماة .

عندما اجتازت السيارة إحدى نقاط التقاطع أطلت مدينة حماة القديمة من وراء الأشجار ، وكانت سحابة كثيفة سمراء تخرج من الجدران والأزقة الضيقة وراء نهر العاصي ، وكان لا يزال القتال في الشوارع دائراً لأننا سمعنا أصوات العيارات النارية داخل المدينة ، وكانت تصطف على ضفتي العاصي دبابات ت62 وفي كل دقيقة أو نحو ذلك تهتز ماسورة إحداها فترتد الدبابة الى الخلف وتنطلق قذيفة وتنفجر في إحدى جدران المباني المقابلة وهنا طلب الجنديان من السائق التوقف .

فوقفنا الى جانب السيارة ننظر الى ستار الدخان الذي كان يتصاعد باضطراد من الضفة الأخرى ، وكانت إحدى النواعير قد ضربتها قذيفة وحطمت ألواحها الخشبية تقف بيننا وبين المدينة ، عاد أحد الجنديان إلينا وبيده فنجان شاي ، وبرفقته زملاء ذقونهم غير محلوقة وأعينهم حمراء من قلة النوم ، وانفجرت على بعد نصف ميل الى الغرب قذيفتان حول مجموعة مبان فخرج عمود من الدخان الأسود مننافذة بيت دهانه أزرق .

كان رجال المخابرات في كل مكان الى جانب أطقم الدبابات يراقبون أفرادها وينظرون عبر النهر بطريقة قاسية تثير الأعصاب ، وكان خلفنا جماعة من النساء يلبسن أردية سوداء وبعضهن محجبات ينظرن الى الدخان ، واندلع لهب فوق إحدى السطوح ثم اختفى وأخذ رجال الأمن ينظرون إلينا بارتياب فتظاهرنا أنا والسائق بتوديع الجنديين وأخذنا نصافحهما بحرارة وعندئذ تقدم إحدهما من رجال الأمن وتحدث معه .

وقال السائق : علينا أن نذهب الآن ، ولم يرتح لاهتمام رجال المخابرات بنا فقال مرة أخرى بطريقة توحي بضرورة الإسراع .. هيا علينا أن نذهب ، فدخلنا في السيارة وانطلق السائق بنا من ضفة النهر وفي تلك اللحظة أطلقت إحدى الدبابات النار ، رجانا رجل شرطة أن ننقله معنا فانضم إلينا ثم رأينا فلاحة في العشرينات من عمرها تعترض طريق السيارة وحول وجهها منديل وتوسلت إلينا أن نسمح لها بالركوب ، وجلست الى جانبي في المقعد الخلفي وقالتبهدوء ذهبت لأبحث عن أخي فوجدت بيته يحترق ولم يكن هو هناك فذهبت الى المقبرة لكني لم أر جثته .. رحمتك يارب .

ثم دوى انفجار آخر في المدينة تلتها أصوات طلقات نارية في أحد الشوارع ، واعترضت السيارة امرأة أخرى ترتدي لباساً أسوداً ومعها طفل وتوسلت " يارحمة الله وجلست في المقعد الخلفي بيني وبين الشابة وطفلها الصغير يبكي ، وكانت رائحتها تزكم الأنوف ويبدوا أنها وطفلها لم يغتسلا منذ أسبوعين .. قالت : أنا هنا منذ أيام وجئت لأبحث عن أسرتي في أحد المقابر ورأيت الجثث مسجاة وكانوا يراقبوننا .

ومما قاله ضابط أخذ مكان الشرطي وكانت تعلو وجهه صفرة مخيفة من أثر الغبار الدقيق وجلس صامتاً والسيارة تحاول الدخول في شارع آخر والثقوب ظاهرة على جدرانالبيوت وأخذ الضابط يحثنا على الإسراع في الشوارع التي تدوي فيها أصوات القذائف ثم قال : لقد انضم بعض جنودنا الى الطرف الآخر ، هل تعلم أننا كنا نحارب تحت الأرض .. وسكت الضابط وكان على رأس كل ياردة نقطة تفتيش يحرسها أفراد من ميليشيا البعث ، ورجانا ضابط آخر أن ننقله معنا .

وتبين أن الضابطين يعرفان إحدهما الآخر وأن لكل منهما بيت في حماة ، فقال الضابط الجديد لزميله " كم وددت لو كنا نحارب بالجولان بدلاً من هنا في مدينة حماة " ورأينا دبابات أخرى وشاحنات عسكرية ربطت خلفها مدافع هاوتزر والى جانبها جنود يتصببون عرقاً ووصلنا مسرعين الى طريق ورأينا سحابات من الدخان الأسود تتصاعد من الشوارع الواقعة بجوار النهر ، ورأينا نساء جميعن يرتدين ثياباً سوداء وينظرن الى الدخان وكأنهن متفرجات في معركة من معارك الحرب العالمية الثانية وبينهن من كانت تبكي وتتوسل الى سائق السيارة أن ينقلها بينما كانت الدراجات النارية والشاحنات ناقلات الجند المسلحة تمر مسرعة .

عبد الهادي محيسن .... باحث ومؤرخ