بيروت | Clouds 28.7 c

الهجرة المباركة تثبيتٌ لنهج الأنبياء الكرام / بقلم الشيخ أسامة السيد


الهجرة المباركة تثبيتٌ لنهج الأنبياء الكرام
بقلم الشيخ أسامة السيد

الشراع 11 تموز 2024


الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.          
قال الله تعالى في القرءان الكريم:{إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيزٌ حكيم} سورة التوبة.
ما زالت الهجرة النبوية الشريفة نبراسًا يشع نورًا يهدي الحيارى في مدى الزمان ودرسًا عظيمًا جدًا تستمد منه الأجيال عبر التاريخ معاني الصبر والصمود والإخلاص والثبات على الحق والدعوة إليه لإخراج الناس من الظلمات إلى النور والعمل الدؤوب على رفع الظلم والحيف، وتلك ولا ريب كانت دعوة كل الأنبياء والمرسلين الكرام عليهم الصلاة السلام، فلم يأت خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم بعقيدة جديدة أبدًا، ومخطئٌ من ظن ذلك، بل كانت دعوته المباركة امتدادًا وتجديدًا لدعوة الأنبياء السابقين السيد المسيح عيسى ابن مريم ويحيى وزكريا وموسى بن عمران وأخيه نبي الله هارون ويوسف ويعقوب وإسماعيل وإسحاق ويونس وأيوب ولوطٍ وإبراهيم وصالح وهودٍ ونوحٍ وإدريس وآدم وسائر الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام، ذلك أن عقيدة جميع الأنبياء التي جاؤوا بها ودعوا الناس إليها عقيدة واحدة، وهي كذلك عقيدة الملائكة الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، قال الله تعالى:{قل ءامنَّا بالله وما أُنزل علينا وما أُنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أُوتي موسى وعيسى والنبيون من ربهم لا نفرِّق بين أحدٍ منهم ونحن له مسلمون ومن يبتغِ غير الإسلام دينًا فلن يُقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} سورة آل عمران.
لقد كانت الهجرة الشريفة في وقتٍ من الأوقات فرضًا على المستطيع من المسلمين وذلك قبل أن يفتح النبي صلى الله عليه وسلم مكة المكرَّمة، أما بعد الفتح فنُسخت فرضية الهجرة فعن أم المؤمنين عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهادٌ ونيةٌ" متفقٌ عليه.
لقد جاءت الهجرة تأسيسًا لقيام دولة الإيمان الحقيقية المبنية على القواعد الصحيحة التي أسس لها سيدُ المرسلين رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الهادفةِ إلى صلاح البلاد والعباد في زمن كان إبليس يصول فيه ويجول، فكانت تدفن فيه الطفلة وهي على قيد الحياة، وتمنع فيه المرأة من حقها ويُظلم فيه النساء والأطفال، وتندلع حرب ضروس لعشرات السنين لأجل ناقة، ويأكل القوي فيه الضعيف، ويُعبد فيه الحجر والنار وغير ذلك من دون الله رب العالمين، فكانت مبادئ تلك الدولة العظيمة العدل والإحسان والرحمة، ونبذ التطرف والإرهاب المذموم الذي نشهد آثاره السيئة والمدمّرة في هذه الأيام، كيف لا والداعي الى ذلك النبيُّ الرحيمُ العطوف، سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم الذي قال الله تعالى فيه:{وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين} سورة الأنبياء.
لم تكن الهجرة أبدًا طلبًا للراحة والاستجمام، ولم يكن الطريق الى المدينة المنورة مفروشًا بالورد والريحان، ولا تم أمر الهجرة بالسيارات الفخمة المصفحة، فبوركت مساعي أولئك الأكابر الأبرار الذين تكبدوا وعثاء السفر ومتاعب الطريق الطويل وسط رمال البيداء الملتهبة بحرارة شمس الحجاز، متخذين من رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوةً حسنة لهم، حيث هاجر مع صاحبه أبي بكر الصديق على ناقته القصواء، وأخذ الله بأبصار الطغاة الذين أرادوا قتله حيث رأوا في دعوته المباركة تهديدًا لزعاماتهم التي شد عراها لهم إبليسُ اللعين، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم ولم يروه، وما استيقظوا إلا على حر الشمس ثم خرجوا يقتفون إثره ويعرضون المغريات لمن يعثر على رسول الله وصاحبه الصديق، فويح قوم جفوا نبيًا بأرض ألفته هضابها والظباء، فأخرجوه منها وآواه غار، وكان الفخار لعنكبوت وحمامة ورقاء، وفي هذا المعنى قيل:
قل  لمن  يدعي  الفخار                            دع الفخر لذي الكبرياء والجبروت
نسج داود لم يُفد ليلة الغار                              وكان الفخار للعنكبوت
وأراد بنسج داود عليه السلام دروع الحرب فقد قيل إن داود عليه السلام كان أول من صنعها.
لقد أيد اللهُ تعالى نبيَّه في المدينة بصحابة بررة، فآخى بينهم وبين المهاجرين من أهل مكة، حيث ضربوا أروع الأمثلة في المؤاخاة والتضحية والتعاون على البر والتقوى، فكان الأنصاري من أهل المدينة يقسم ماله شطرين بينه وبين أخيه من المهاجرين الذي لم تلده أمه، ويكون لأحدهم داران فيترك دارًا منهما لأخيه من المهاجرين ابتغاء وجه الله تعالى، فحملوا إلى الناس مشاعل النور التي أضاءت غياهب الجهل الذي طالما خيم على الأرض منذ قرون وقرون، فلقد جمع النبي صلى الله عليه وسلم القبائل على قلب رجل واحد فصاروا موحدين على الحق يشتركون في السعي لهدف نبيل منشود.
لقد آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين حمزة بن عبد المطلب الهاشمي وزيد بن حارثة الكلبي مولى النبي صلى الله عليه وسلم، وبين أبي بكرٍ التيمي القرشي وخارجة بن زهير الخزرجي، وبين عمر بن الخطاب العدوي القرشي وعتبَان بن مالك الخزرجي، وبين أبي عبيدة بن الجراح الفِهري القرشي وسعد بن معاذٍ الأوسي، وبين أبي الدرداء الخزرجي العربي وسلمان الفارسي، وبين بلال بن رباحٍ الحبشي وأبي رُويحة الخثعمي العربي، ولو راجعنا هذه الأسماء وغيرها من أسماء الذين آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم لوجدنا أن تلك المؤاخاة لم تُقم وزنًا للاعتبارات القبلية أو الفوارق الطبقية بل جمعت بين القوي والضعيف والغني والفقير والأبيض والأسود والحر والعبد والعربي والعجمي وبذلك استطاعت هذه الأخوة أن تنتصر على العصبية القبلية النتنة وغيرها من نوازع النفس الأمَّارة بالسوء واتحدت أفئدتهم على قلب رجلٍ واحد. قال الله تعالى:{واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألَّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانًا} سورة آل عمران. فكان ذلك الخير العظيم الذي ما زلنا نعيش بركاته بعد ما يزيد على ألفٍ وأربعمائة سنةٍ وما زالت الهجرة درسًا لكل داعٍ إلى الله لا سيما في زمن الغربة الذي نعيش فيه.
والحمد لله أولًا وآخرًا.
1