"جذاب وقوي البنية".. ترامب يشيد بالرئيس السوري أحمد الشرع على متن الطائرة الرئاسية متجها نحو قطر
الإمام الشَّاب سيبويه رضي الله عنه / بقلم الشيخ أسامة السيد
مجلة الشراع 5 تشرن ثاني 2021
الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
قال الله تعالى في القرآن الكريم:{يرفع الله الذين ءامنوا منكم والذين أُوتوا العلمَ درجات والله بما تعملون خبير} سورة المجادلة.
وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم وضع يده على سلمان الفارسي ثم قال:" لو كان الإيمان عند الثريا (طائفة من النجوم) لناله رجال أو رجل من هؤلاء" رواه البخاري. ورواه الترمذي بلفظ: "لتناوله رجال من فارس".
لقد رفع الله تعالى بالإسلام أقوامًا من قوميَّاتٍ شتَّى فكانوا نجومًا يهتدي بهم الحائر في الظلام الدَّامس وكان الفضل لهم بالإيمان لا بالنسب، وحقيقة الأمر ما دلَّ عليه قولُ الله تعالى:{يآ أيها الناس إنَّا خلقناكم من ذكرٍ وأنثى وجعلناكم شُعوبًا وقبآئل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} سورة الحجرات. وقد كان لكثيرٍ من أبناء الفرس من ذلك الحظ الأوفر وإنما نقول ذلك من باب الاعتراف بالفضل لأهله فإنه لا ينبغي الحطُّ من قدر الشخص لمجرد اختلافك معه في القومية فليس أحدٌ يختار جنسه ونسبه ولونه، وهكذا علَّمنا دينُنا العظيم. ولو أردنا أن نسترسل في عرض أسماء أعلام أبناء الفرس الذين رفعهم الإسلامُ لطال الكلام وكلَّت الأقلام ولكن حسبنا من هؤلاء: أبو حنيفة في الفقه، والبخاري في الحديث، وسيبويه في النحو، إذ كان كل واحدٍ منهم إمامَ الناس في الفنِّ الذي عُرف به، ولا نبالغ لو قلنا: الناس عيالٌ في الفقه على أبي حنيفة وفي الحديث على البخاري وفي النحو على سيبويه. ومن تمكَّن في هذه العلوم عرف معنى ما نقول وللعلماء المعتبرين ثناء عظيم على الثلاثة وقد كان بعض الصالحين يقول: "إذا ذُكر سيبويه جديرٌ أن يُترضَّى عنه" أي أن يقال: رضي الله عنه، ولذلك رأينا عرض بعض أخبار هذا الإمام الشاب ولو بإيجازٍ.
سيبويه الإمام
هو أبو بِشرٍ عمرو بن عثمان بن قنبر قال الأنباري في "نزهة الألباء": "وسيبويه لقبٌ له ومعناه بالفارسية رائحة التفاح ويُقال إن أمه كانت تُرقصه (تُداعبه) وهو صغير بذلك". وفي "سير أعلام النبلاء" للذهبي عن إبراهيم الحربي قال: "سمي سيبويه لأن وجنتيه كانتا كالتُّفاحتين بديع الحسن". ولد سنة 148ه بقرية من قُرى شيراز يقال لها "البيضاء" ونشأ في البصرة، وكان أنيقًا جميلًا ظريفًا لا يملُّ منه جليسه، اشتغل بطلب الحديث والفقه وله في الحديث رواية. قال الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد": "كان سيبويه في أول أيامه يعجبه الفقهاء وأهل الحديث وكان يستملي (يكتب) على حمَّاد بن سلمة فلحَن (أخطأ) في حرفٍ فعابه حمَّاد فأنِفَ من ذلك ولزم الخليل". والخليل هو ابن أحمد الفراهيدي شيخ العربية أخذ عنه سيبويه فبرع وهو أعلم أصحاب الخليل بل قيل إنه فاق الخليل، وهو أثبت من روى عنه. وصنَّف في النحو كتابًا سمَّاه "الكتاب" لم يُصنع قبله ولا بعده في النحو مثله ولا يزال يُضرب به المثل في ذلك، وإذا ما تناظر أهلُ العربية في شىء كان العمدة سيبويه. ووصفه الذهبي في "السِيَر" بقوله: "إمام النحو حجة العرب أبو بشر عمرو بن عثمان بن قنبر الفارسي ثم البصري وقد طلب الفقه والحديث مدة ثم أقبل على العربية فبرع وساد أهل العصر وألّف فيها كتابه الكبير الذي لا يُدرك شأوه فيه". وفي "تاريخ بغداد" للخطيب البغدادي عن إبراهيم الحربي (إمام مجتهد من أقران الأئمة الأربعة) قال: سمعت ابن عائشة يقول: كنا نجلس إلى سيبويه النحوي في المسجد وكان شابًّا جميلًا نظيفًا قد تعلَّق من كل علم بسبب وضرب في كل أدبٍ بسهم مع حداثة سنه وبراعته في النحو". وقال أبو بكر الزبيدي في "الطبقات": وقال أبو إسحاق الزجَّاج: إذا تأملت الأمثلةَ في كتاب سيبويه تبيَّنت أنه أعلم الناس باللغة" وفيه: عن أبي عمر الجرمي قال: "أنا أفتي الناسَ في الفقه من كتاب سيبويه". قلت: وقد كان أبو عمر هذا صاحبَ حديثٍ حظُّه الرواية فلمَّا تعلَّم كتاب سيبويه تفقَّه في الحديث فتكشَّفت له معاني ما يروي فلذلك قال ما قال، وهذا فيه إشارةٌ إلى أهمية الاعتناء بالعربية لفهم حقائق المعاني فإنه لا يجوز لراوي الحديث أن يقرأ إن لم يحط بطرفٍ من علم النحو أو ينقله مضبوطًا عن شيخٍ. وبهذا يظهر أن سيبويه كان إمامًا في الدين واللغة.
وقاحة ابن تيمية
وبالتالي فما أحوج ناشئة اليوم للاعتناء بالعربية لفهم نصوص الشريعة على طريقة السلف الصَّالح لا على طريقة الوهابية الذين طعن شيخهم ابن تيمية بسيبويه وهيهات لابن تيمية أن يطال كعبَ سيبويه، ولكن كعادته في الطعن بالأئمة الكبار حيث لم يسلم منه الأكابر فقد طعن من قبل بعمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب. قال ابن حجر الهيتمي في "الفتاوى الحديثية" في ابن تيمية: "بل اعترض على مثل عمر بن الخطاب وعلي بن ابي طالب" وفيه أيضًا: "وقد ذكر (أي ابن تيمية) عمر بن الخطَّاب فقال: "إن عمر له غلطات وبليَّات وأي بليَّات" وزعم أن علي بن أبي طالب "أخطأ في أكثر من ثلاثمائة مكان". قلت: فليس ببعيد على من تجرَّأ على أكابر الصحابة أن يتطاول على سيبويه ففي "الدرر الكامنة" للحافظ ابن حجر قال: "ثم دار بينهما (أبو حيَّان وابن تيمية) كلامٌ فجرى ذكرُ سيبويه فأغلظ ابنُ تيمية القولَ في سيبويه فنافره أبو حيَّان وقطعه". وقد ذكر ابن حجر لفظ ابن تيمية في سيبويه وإنما أعرضت عن ذكره لبشاعته، وهكذا نرى الوهابية اليوم يقتدون بكبيرهم ابن تيمية حتى في الغلظة وسوء الأدب مع من لا يُساوي أحدهم غرزةً في نعله.
وفاة سيبويه
يظن الناظر في سيرة سيبويه ودلائل عظمته أنه عاش عمرًا طويلًا جدًا فإذا به تعتريه الدهشة حين يرى أنه توفي عام 180 ه عن اثنتين وثلاثين وقيل عن ثلاثٍ وثلاثين سنة. وكان قد رحل من بغداد في أيام الرشيد إلى الأهواز فتوفّي فيها، وتبقى العبرة للشباب بل وللشيوخ في سيرة هذا الشاب الإمام فلا تقاس الإنجازات بمجرد طول الأعمار وهذه شخصية سيبويه شاهدٌ على ذلك فكفى افتتانًا بمن حظُّهم الشهرة وحقيقتهم الأراذل وليكن أمثال سيبويه قدوةً للشيب والشباب.
فائدة: قال الحطاب المالكي في "مواهب الجليل": "وحكى ابنُ جنِّي أن سيبويه رُئي بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك. فقال: خيرًا. وذكر كرامةً عظيمة. فقيل: بم. فقال: لقولي إن اسم الله أعرف المعارف" معناه كل ما في الكون يدل على وجوده تعالى. وذكر ابنُ يعيش في ترجمة سيبويه أنه رُئي في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك. فقال: غفر لي. قيل: بماذا قال: بكلامي في لفظ الجلالة.
والحمد لله أولًا وآخرًا.