بيروت | Clouds 28.7 c

رسائل الشعوب العربية الى قمة تونس:تغيير سلمي جذري.. أو موجة ثانية من الثورات/ بقلم: محمد خليفة

رسائل الشعوب العربية الى قمة تونس:تغيير سلمي جذري.. أو موجة ثانية من الثورات/ بقلم: محمد خليفة

مجلة الشراع 29 اذار 2019 العدد 1894

 

*القادة يبحثون عشرين ملفاً, ليس بينها ملف الانتفاضات الشعبية!

*هل المهددات الخارجية أخطر من الاستحقاقات الداخلية..؟

*موجة ثانية من الثورات العربية في العراق والسودان والجزائر  أكثر نضجاً وتنظيماً من الموجة الأولى, والحراك الغزاوي هو الأكثر تراجيدية وتعبيرية!

*سؤال الى القادة العرب: هل يمكن حماية الأمن القومي من أعداء الخارج بدون توفير الأمن والسلام والاصلاح والمناعة والقوة في الداخل..؟!

 

يستعد قادة الدول العربية للتوجه الى قمتهم السنوية الجديدة المقررة في تونس (( 30 - 31 / آذار/ مارس الجاري)) حاملين عشرين ملفاً سياسياً وأمنياً واقتصادياً, رتبها الناطق الرسمي باسم الأمين العام لجامعة الدول العربية محمود عفيفي بأنها ((القضية الفلسطينية, وأزمات سورية وليبيا واليمن, ومكافحة الإرعاب, واحتلال ايران للجزر الاماراتية في الخليج, وتدخلاتها في بعض الدول العربية, وكذا تدخلات تركيا في العراق وسورية, ودعم السلام والتنمية في السودان, ودعم الصومال, ومتابعة تطوير منظومة الأمن القومي العربي)).

كل هذه الملفات مستحقة وملحة بلا شك, ولكن لا بد من مصارحة القادة بأن ثمة ملفاً يفوقها أهمية, ولكنه لم يندرج على جدول أعمال القمة رسمياً, ولن يبحثه القادة العرب في قمتهم, يتمثل في بحث ما تشهده بلدانهم من انتفاضات وثورات جماهيرية احتجاجية غاضبة, كالتي شهدتها العراق والسودان والجزائر للمطالبة بتغيير الأنظمة والحكام. ويعزى السبب الى أن ميثاق ونظام جامعة الدول العربية يمنعان مناقشة الشؤون الداخلية لأي بلد عضو, ويركزان على التهديدات الخارجية والقضايا المشتركة  فقط.

وربما يكمن حل هذه الاشكالية أو المفارقة بقيام الجامعة من خلال أجهزتها المتخصصة بتذكير الحكومات بأن مستقبل الأمة العربية مرهون بالاصلاحات التي تطالب بها الشعوب, وأن التهرب منها يهدد الجميع.

لقد تأسست الجامعة قبل 75 سنة في عصر مختلف عن عصرنا الحالي, وكان للدولة مفهوم مختلف في العالم, ولزعماء الدول حصانة خاصة, وكانت الشعوب لا تثور وتناضل إلا في سبيل الاستقلال والتحرر من الاستعمار الأجنبي. وقد جاء ميثاق ((الجامعة)) مسايراً لتلك القيم في حينها. أما الآن فالقيم العالمية اختلفت جذرياً, وصارت الديمقراطية وحقوق الانسان جزءاً من قيم العالم والعصر, وصارت الشعوب تثور لتحقيق مطالبها الوطنية والسياسية والاجتماعية, وتنزل للشارع لفرض التغييرات التي تريدها, وإسقاط الشرعية عن حكامها وحكوماتها المتشبثين بالسلطة المطلقة.

لقد التحق العالم العربي بهذا التطور في بداية العشرية الثانية من القرن الحالي متأخراً لا مبكراً, وثورات ((الربيع العربي)) التي شهدناها عام 2011 حاكت ثورات ((الربيع الأوروبي)) التي أسقطت الأنظمة الشيوعية الشمولية عام 1989 ثم تنقلت رياحها بين الصين شرقاً, وكوبا غرباً, مروراً بأفريقيا. ولكن ثورات الشعوب العربية قبل ثماني سنوات تعرضت لتآمر مزدوج من جماعات الاسلام السياسي وزمر الأنظمة القديمة, فأجهضتها وشيطنتها, واعتبرتها مؤامرة امبريالية على الدول الوطنية, رافضة مبدأ الاصلاح السياسي العميق, فتراكمت وتفاقمت عوامل الثورة الشعبية في عدد غير قليل من الدول العربية.

 وكان من الطبيعي أن تعود الجماهير للشارع لكسر الجمود وإزالة الإنسداد الذي أغلق منافذ التطور والاصلاح التقليدية والشرعية من داخل الأنظمة, وأن تظهر موجة ثانية من ((الربيع العربي)) أكثر تنظيماً ورشداً من سابقتها, تجسدها جماهير السودان منذ ثلاثة شهور, والجزائر منذ شهرين . وكان قد سبقهما حراك مشابه في الأردن في الصيف الماضي. وهناك مؤشرات على ((حمل)) مشابه في بلدان أخرى, يعكسه الحراك الشعبي الغزاوي ضد سلطة الأمر الواقع الحمساوية تحت شعار ((بدنا نعيش)), وهناك من يتنبأ بعودة جماهير تونس - مهد الربيع العربي - الى الثورة ثانية , ضد تحالف النظام القديم وحركة النهضة الاسلامية التي تخلت عن مطالب الشارع , مقابل حصة من كعكة السلطة , مما يجعلها هدفا لنقمة الناس!

السلطة والشارع: صراع عدمي

لا بد من الاعتراف بأن غالبية الأقطار العربية مرت في العقود الثلاثة بحالة انفصال وخصام متفاقمة بين الشارع والسلطة, حتى أصبحت ((الدولة العربية)) مثالاً عالمياً لمركبات الفساد والاستبداد والعجز. ومع أن أهل الفكر حذروا من مفاعيل هذه الحالة, فإن أهل الحكم لم يبالوا بها, واكتفوا بمعالجتها بالوسائل والأساليب الأمنية والقمعية, بدلاً من اللجوء لاجراء الإصلاحات السياسية والاجتماعية والاقتصادية المطلوبة, مما فاقمها وهيأ الظروف لإنفجار الشارع مرة بعد أخرى, منذ انتفاضة كانون الثاني/ يناير 1977 الشعبية في مصر, ثم انتفاضة الخبز في تونس 1984, وثورة عام 1985 في السودان, والصراع الدموي عام 1989 في الجزائر.. إلخ .         

هذه الأوضاع تفرض على القادة العرب الذين سيجتمعون في تونس عدم التهرب مما يواجهونه من التحديات والمخاطر الداخلية, قبل الخارجية, فالتجارب والشواهد التاريخية تثبت دائماً أن الأعداء لا يحققون أهدافهم إلا إذا كانت المناعة الداخلية مفقودة. وما يجري اليوم يحتاج لجرأة من القادة في المصارحة ومواجهة الذات والواقع, ولا يحتاج للديماغوجيا والخطابات المنمقة. فهناك قوى خارجية تستبيح الأمن القومي العربي بشكل متزايد يغريها الضعف المتفاقم والانقسامات بين العرب.

ولكن هذه المهددات والتحديات ما كان لها أن تحقق أغراضها, لولا أن الأوضاع الداخلية مهترئة, وتعاني من أزمة حكم وفقدان للثقة بين الشعوب وحكامها, ما يعني أن أنماط الحكم العربية لم تعد تصلح للتعامل مع الشعوب ولا تلبي مطالبها, ولا لمواجهة أعداء الخارج, واستراتيجياتهم المتطورة في الغزو والحرب والتهديد والنفوذ.

أزمات العالم العربي متعددة ومعقدة, ولكنها تتركز في بؤرة رئيسية هي طبيعة السلطة الحاكمة وعلاقتها بشعوبها. ولا مناص للقادة العرب من الاعتراف بهذه الحقيقة, قبل إلقاء المسؤولية على أعداء الخارج, وعليهم العمل على إصلاحها بجدية, وإجراء تغييرات بنيوية وجوهرية في أنظمتهم ودولهم, تنعكس على حياة الشعوب اليومية, وخصوصاً في مجال الحريات السياسية الخاصة والعامة, وفي مجال سيادة القانون وضمان العدالة والمشاركة في السلطة والحكم والادارة, ومكافحة الفساد المستشري, أي كل ما يمكن إدراجه في مستويين اثنين هما الحوكمة الرشيدة, والتنمية المستدامة.

لا بد أن نصارح القادة من منطلق المسؤولية بأن شعوبنا باتت ترى في نموذج ((السلطة)) القائم عدواً داخلياً حل محل الاستعمار الأجنبي, وحطم شعورها بالانتماء لأوطانها, وولد نقمتها عليه, ودفعها للثورة وحمل السلاح, كما رأينا في سورية, وفي أماكن أخرى, وأفقد المسكنات القومية والثورية والدينية مفاعيلها التخديرية, فلم تعد كافية لتهدئة الناس وتخفيف مشاعر السخط, واقناعهم بتأجيل مطالبهم المادية المحقة لأي ذريعة, بدلالة الشعار الذي يرفعه الحراك الغزاوي في وجه سلطة حماس ((بدنا نعيش)), ويعني أولوية الحرية والعيش الكريم والعدالة على العيش على شعارات التصدي للعدو الخارجي ومؤامراته المزعومة.

لا بد أن نصارحهم أن الوعي القومي بين الشعوب العربية يتجسد حالياً في شعور الناس بأن الأنظمة القائمة سلبتهم كرامتهم وبالغت في تحقيرهم والاستهانة بهم, حتى تجرأت على ترشيح بوتفليقة للحكم مرة خامسة, رغم عجزه عجزاً كلياً, وتجرأت على تسليم العراق للصوص والمفسدين في الأرض, وتجرأت على التمديد لعمر البشير حتى قسم البلاد وحكمها, وهو مطلوب دولياً لمحكمة الجنايات الدولية.

لا بد أن نصارح القادة العرب من منطلق المسؤولية أولاً, بأن غالبية أقطارهم مهيأة لموجة ثانية من ثورات الربيع العربي, أكثر تطوراً ونضجاً من موجته الأولى عام 2011 بدأت مقدماتها ورياحها من البصرة, وامتدت للخرطوم, ومن الشمال السوري المحرر, الى الجزائر, مروراً بغزة, وقابلة للتوسع أكثر فأكثر في أفق قومي واحد يتخلله الغضب والعنف والدم لشعوب لم تعد تطيق الطغيان والتسلط, وترسل رسائل واضحة عن استعدادها للتمرد والثورة من أجل تغيير واقعها المرير وإسقاط نموذج الدولة المتوحشة والزمر اللصوصية, في سبيل الحد الأدنى من حاجاتها وطموحاتها في نيل الحرية, والتناوب السلمي على السلطة, وحكم القانون, والعيش الكريم ككل شعوب الأرض.

لا بد من القول لقادة العرب إما أن تتحملوا مسؤولياتكم اليوم قبل الغد, وإلا فإن الطوفان واقع لا محالة وسيغرق الجميع.

 

الوسوم