بيروت | Clouds 28.7 c

فضل برّ الوالدين/ بقلم الشيخ أسامة السيد

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى: ((وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إيَّاه وبالوالدين إحسانًا إما يبلُغنَّ عندك الكِبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً واخفض لهما جناح الذُّل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا} سورة الإسراء.

وعن أبي الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يدخل الجنة عاق)) رواه الإمام أحمد. ومعناه لا يدخل الجنة مع الأولين إن لم يتب إلى الله لأنه مستحقٌ للعذاب، والعقوق هو ما يتأذَّى به الوالدان أو أحدهما تأذِّيًا ليس بالهيِّن في العُرف أي في عُرف أهل العلم.

إن الإحسان إلى الوالدين من أعظم القُربات، والنفقة عليهما من قِبل ولدهما المستطيع بعد البلوغ في حال الحاجة فرض، فينبغي الاعتناء بهذا الشأن والحرص عليه أبلغ الحرص عملاً بما حثَّ عليه الشرع الشريف. ونرجو أن يكون هذا المقال تنبيهًا لكل عاقٍّ لعله يتوب وتذكيرًا لكل بارٍّ ليستكثر من البرّ فنقول:

قوله تعالى((وقضى ربك)) معناه أمر ربك ((أن لا تعبدوا إلا إيَّاه)) لأنه لا يستحق أحدٌ أن يُعبد أي أن يُتذلل له نهاية التذلل إلا الله. وقوله تعالى((وبالوالدين إحساناً)) تضمنت الآية بعد الأمر بتوحيده تعالى الأمر بالإحسان إلى الوالدين وهذه وصية مؤكدة، والإحسانُ هو البرُّ والإكرام. قال الحافظ ابن الجوزي الحنبلي في ((زاد المسير)): ((قال ابن عبَّاس: لا تنفض ثوبك فيصيبهما الغبار)) أي أن من البر أن لا تنفض ثوبك في حضور والديك حتى لا يصيبهما شيءٌ من غباره فيتأذيان به.

وينبغي أن يُراعي حالهما عند الشيخوخة كما أوصى ربنا بقوله: ((إما يبلُغنَّ عندك الكِبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أُفٍ)) أي فإن عاش أحد والديك حتى أدرك الكِبَر أو كلاهما فلا تقل له أو لهما قولاً رديئًا ولو لفظ أُفٍّ، وكلمة أُفٍ صوتٌ يدل على التضجر، وبهذا النهي يُفهم النهي عن سائر ما يؤذيهما فإذا نهى الله عن قول أُفٍ لهما فما كان فوق ذلك من الأذى هو منهيٌ عنه من باب الأولى. ونهى تعالى عن زجرهما فقال ((ولا تنهرهما)) أي لا تزجرهما عمَّا يتعاطيانه مما لا يعجبك ما لم يكن حرامًا، وأمر بتحسين القول لهما فقال ((وقل لهما قولاً كريماً)) أي لينًا لطيفًا أحسن ما تجدُ كما يقتضيه حسن الأدب. وفائدة ((عندك)) في قوله تعالى ((إما يبلغنَّ عندك)) أنهما إذا صارا ثِقْلاً على ولدهما ولا كافل لهما غيره فهما عنده في بيته وتحت رعايته وذلك أشقُّ عليه فهو مأمورٌ بأن يستعمل معهما لينَ الخُلق وأن يكون متواضعًا لهما كما دلَّ على ذلك قوله تعالى ((واخفض لهما جناح الذل من الرحمة)) وهذه استعارةٌ في الشفقة والرحمة بهما والتذلل لهما أي وألِنْ لهما جانبك متذللاً لهما من فَرط رحمتك إيَّاهما لكِبَرهما وافتقارهما اليوم إليك.

وقد أمر ربنا زيادة على هذا كله أن يسأل الولدُ ربَّه الرحمةَ لوالديه المؤمنين وأن يجعل ذلك جزاءً لرحمتهما به في صغره، فقال تعالى ((وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا)) وليس شرطًا أن يكون هذا الاستغفار بعد وفاتهما بل هو حسنٌ وقُربةٌ لله سواءٌ كان في حياتهما أم بعد موتهما لأنهما ينتفعان به لأن النص لم يُقيِّد الأمر بالاستغفار لهما حال حياتهما ولا بعد موتهما، فما أجدر أن نصدع بهذا نحن المؤمنين في وجه أولئك الذين لا يعرفون بر الأم ولا بر الأب إلا في الواحد والعشرين من شهر آذار وتراهم بقية العام يُبكون والديهم من شدة العقوق.

 

رضا الله في رضا الوالدين

 

 ولو لم يرد في التوصية بالوالدين إلا ما تضمنته هاتان الآيتان لكفى فكيف وقد جاءت آثارٌ كثيرةٌ في القرآن والحديث فيها الحض على البر والنهي عن العقوق، وحيث قد تكلمنا بإيجازٍ في شرح ما سبق ذكره من كتاب الله فيناسب ذكر شيءٍ من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الشأن أيضًا فنقول: عن عبد الله بن عمروٍ قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((رضا الله في رضا الوالدين وسَخَط الله في سَخَط الوالدين)) رواه البيهقي. ويُفهم من الحديث أن برَّ الوالدين بركةٌ في الدنيا والآخرة وأما العاقُّ فإنه آثمٌ عاصٍ يستحق عقوبة الله إن لم يتب من العقوق مع العلم أن كثيرًا من العاقِّين ساءت أحوالهم في الدنيا قبل الآخرة وهذا مصداق ما رواه البخاري في ((الأدب المفرد)) عن بكار بن عبد العزيز عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّ ذُنُوبٍ يؤخرُ الله منها ما شاء إلى يوم القيامة إلا البغي وعقوق الوالدين أو قطيعة الرحم يُعجَّلُ لصاحبها في الدنيا قبل الآخرة)). والبغي هو الظلم، والمعنى أن الله تعالى يؤخر الجزاء على ما شاء من الذنوب إلى يوم القيامة إلا ما استُثني فإنه كثيرًا ما يُعجَّل لصاحبه العقاب في الدنيا مع ما ينتظره في الآخرة ما لم يتب.

وقد قدَّم النبي صلى الله عليه وسلم برَّ الوالدين على الجهاد في سبيل الله في بعض الأحوال وقولنا في بعض الأحوال أي ليس مطلقًا فالجهاد أحيانًا أفضل من برِّهما، وبِرُّهما يُقدَّم على الجهاد أحيانًا وذلك في الحديث الذي رواه البخاري عن عبد الله بن عمر في الرجل الذي جاء يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم للجهاد فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((أحيٌّ والداك؟ قال: نعم. قال: ففيهما فجاهد)). قال الحافظ ابن حجر في ((الفتح)): ((أي إن كان لك أبوان فابْلُغ جَهْدَك في بِرهما والإحسان إليهما)).

هذا والكلام في بر الوالدين يطول جدًا ولكن فيما ذكرناه كفايةٌ وذكرى للعاقل.

والحمد لله أولاً وآخراً.

  

الوسوم