بيروت | Clouds 28.7 c

من هنا نبدأ/14 عاماً على رحيله في 14 شباط: حافظ الأسد جاء بالحريري أما بشار الأسد../ كتب: حسن صبرا

بات معروفاً ان حافظ الأسد اختار رفيق الحريري لرئاسة الوزراء في لبنان في خريف 1992، بعد ان أصبح سعر الدولار يساوي 3000 ليرة لبنانية كمؤشر على انهيار العملة الوطنية.. وخسارة قيمتها الشرائية.. وارتفاع التضخم بما يعنيه كل هذا من أزمات اجتماعية خانقة.. جعلت بعض اليائسين يقول كانت الحرب أرحم.. وكان هذا يعني فشل الأسد في إنهاء حرب لبنان عملياً. لذا فإن الانقاذ كان له الأولوية.. وكان رفيق الحريري هو بطله.

احتج أصوليو العلويين الذين يلتقيهم الأسد بين الوقت والآخر على اختيار رجل أعمال سني قوي لرئاسة الحكومة، يحمل الجنسية السعودية ويعامله الامراء السعوديون كواحد منهم، وله في عقل وقلب ومصالح الملك فهد مكانة مميزة، ويقيم علاقات ممتازة مع فرنسا وبريطانيا والمانيا وايطاليا وتركيا.. ومع الولايات المتحدة الاميركية وروسيا.. وهو محتضن من كل من يعتبره أصوليو العلويين خصوماً لهم في كل البلاد العربية من المحيط الى الخليج، وهو رجل غني جداً ولا يكتفي بعدم حاجته للربح من السلطة في لبنان، بل هو قادر على شراء رجال السلطة في سورية، ضباطاً ومدنيين ومنزله في دمشق قرب السفارة السعودية. بات مقصداً للكثيرين في عاصمة الأمويين وساحل سورية وجبله ومدنها..

قال لهم الأسد مقنعاً إياهم في لحظتها: بات لبنان كله تحت سيطرتنا، ولم يبق سوى جعجع وسننتهي منه.. لكن لبنان يحتاج الى نهوض حتى لا يسقط بين أيدينا.. ولن يستطيع أحد انقاذ الوضع الاقتصادي فيه سوى هذا الرجل.. وما قلتموه عنه يدفع أكثر نحو المجيء به رئيساً للوزراء.. فليس في لبنان من يستطيع ان يثق به العرب كلهم والعالم، أميركا وروسيا  وأوروبا والصين إلا رفيق الحريري.. وهذا كله لمصلحة سورية.

وعندما قيل لحافظ الأسد: لكن هذه القوى ستجعله ينفرد بالسلطة في لبنان تحت عنوان انقاذه.. رد الأسد واثقاً: اتفاق الطائف والدستور اللبناني والتركيبة الداخلية كلها تحت اشرافنا.. وسنجعل هذا الرجل أيضاً تحت رقابتنا.. وفي لبنان لدينا جيشنا ورجالنا وسياسيون يمسكون بالسلطة.. كلهم سيجعلونه يحسب حسابنا بشكل حاسم.

داهية القرن العشرين حافظ الأسد.. وبإسلوب الابتزاز الذي يتقنه جيداً أرسل وزير خارجيته فاروق الشرع الى المملكة العربية السعودية للقاء ملكها فهد بن عبدالعزيز، ليعرض ما يلي:

قال الشرع للملك فهد بحضور وزير الاعلام السعودي مستشار الملك السعودي المقرب الفريق علي الشاعر:

((جلالة الملك لقد أوفدني سيادة الرئيس حافظ الأسد اليكم ليطلع على رأيكم في اختيار ابنكم رفيق الحريري رئيساً للوزراء في لبنان)).

فرد عليه العاهل السعودي وهو أيضاً أحد دهاة السياسة العربية..

((أبلغ تحياتي لأبي باسل وقل له ان رفيق الحريري هو مواطن لبناني، واختياره لرئاسة الحكومة هو شأن لا تقحم السعودية نفسها فيه، وهي تتمنى له النجاح في مسؤوليته، ولن تتخلى عن لبنان في جميع الحالات)).

لم يستطع حافظ الأسد ان يبيع اختيار الحريري للملك فهد.. لكن الحقيقة التي يجب ان تقال ان الرئيس السوري الراحل، كان مقتنعاً أولاً بخيار وجود الحريري على رأس حكومة لبنان عام 1992.. خصوصاً بعد ان جدد الرئيس الاميركي جورج بوش الأب للأسد عقد تلزيمه لبنان الذي أبرمه هنري كيسنجر مع حافظ الأسد بعد توقيع اتفاقية فصل القوات على الجبهة السورية – الفلسطينية المحتلة في شباط/ فبراير 1974.

وبعد تجربة حكم استمرت ست سنوات شكل خلالها عدة وزارات أقنعت ادارة الحريري للملف الاقتصادي في لبنان حافظ الأسد في ان الرجل هو محل ثقة في جميع المجالات حتى السياسية منها، خصوصاً وان الحريري كان أميناً جداً في نقل وجهة نظر حافظ الأسد بل وحسن الترويج لها في العواصم التي كان الأسد حريصاً على التواصل معها، وخصوصاً في الرياض وفي باريس وفي واشنطن نفسها.

كانت علاقات الأسد تحسنت كثيراً مع دول الخليج العربي بعد ان أرسل 15 ألف جندي الى السعودية لتشارك تحت راية التحالف الدولي الذي شكلته أميركا في حرب تحرير الكويت.. وفتحت السعودية المجال لرجال أعمال فيها بالاستثمار في سورية وضخّت السعودية ودول خليجية أخرى أموالاً الى مصرف سورية المركزي، وجاء الحريري بالرئيس الفرنسي جاك شيراك لزيارة دمشق وجال في سوق الحميدية، أما أميركا فقد نتج عن نجاح الحريري في إزالة عقبات تطبيع العلاقات معها وصف جريدة ((لوموند)) الفرنسية رفيق الحريري بأنه وزير خارجيتي سورية ولبنان.

وكان الى جانب قناعة الأسد بالحريري وهو يراقب أعماله وانجازاته وإخلاصه له وللبنان وسورية.. وجود مجموعة من كبار رجال الأسد الى جانبه مقتنعين لأسباب مختلفة مجتمعة او متفرقة بأن رفيق الحريري هو أفضل خيار سياسي شخصي لسورية في لبنان.. وأبرز هؤلاء حكمت الشهابي، عبدالحليم خدام، علي دوبا فضلاً عن تقارير غازي كنعان الايجابية في معظم الأحيان عن رفيق الحريري.

كان رفيق الحريري مؤمناً بأن تحسن أوضاع لبنان الاقتصادية سينعكس أيضاً على سورية بما يريح نفسية حاكمها ويطمئن الى ارتداد الخير عليه وعلى جماعاته وبلده، فيخفف القبضة الأمنية القاسية عنه والتعامل الفظ مع مواطنيه.

لذا

وبعد ان انتهى التمديد لحكم الياس الهراوي لمدة ثلاث سنوات (1989- 1995- ثم 1998) التي جاءت برغبة من الهراوي نفسه والحريري أيضاً القلق من مجيء قائد الجيش اميل لحود رئيساً للجمهورية جاء لحود بدعم مباشر وملح من بشار الأسد الذي كان الملف اللبناني يحال اليه ورقة اثر ورقة حتى بات كله بين يديه..

وفي أول ملمح الى تمكن بشار من ملف لبنان حتى لو كان خالف والده.. رد لحود على سؤال حافظ الأسد عمن سيشكل حكومته الأولى في أول حكمه فقال لحود لقد اخترت الرئيس سليم الحص.

فرد الأسد بمودة: الرئيس الحص كويس ولكن أنت تحتاج في أول حكمك لرفيق الحريري حتى يكمل المشاريع التي بدأها وجعلت لبنان يقف على رجليه.

هذا يعني ان حافظ الأسد كان يريد رفيق الحريري، وهو على قناعة تامة بأنه الأجدر باستمرار ادارته الاقتصادية للبنان.

قبل رفيق الحريري، كان حافظ الأسد وضع رشيد كرامي مثالاً لمن سيكون رئيساً لوزراء لبنان.

الأفندي هو ابن المفتي الرئيس عبدالحميد كرامي وهو داعي وحدة لبنانية مع سورية، زعيم طرابلس الأقرب الى سورية.. وكان يعتبره عروبياً أقرب الى سورية.. منه الى أي بلد عربي آخر، خصوصاً  بعد غياب جمال عبدالناصر قبل 51 يوماً من الانقلاب الذي جاء بالأسد الى السلطة في سورية.

كان حافظ الأسد يكره زعامات المدن السورية واللبنانية، فلم يكن يحب صائب سلام او تقي الدين الصلح وغيرهما من بيروت.. ولا صبري العسلي وخالد العظم من دمشق.. وطبعاً كان يكره أكرم الحوراني ومعروف الدواليبي وشكري القوتلي..

قرأ سليم الحص تصنيفات الأسد لزعامات السنة في لبنان في مقال نشرناه في ((الشراع)) عام 1983 وابتسم..

بعد رفيق الحريري أدرك حافظ الأسد انه الأنسب لسورية ولنظامه.. وطبعاً للبنان.. لذا طلب من اميل لحود ان يكون الحريري أول رئيس وزراء في حكمه ليحمل لبنان اقتصادياً.. ونصح لحود بأن يؤجل ترئيس الحص رغم قناعته به.. فمن الذي جاء بسليم الحص رئيساً لحكومة لبنان في ذلك العام 1998؟

انه بشار الأسد.. النجل الثاني من الصبيان لحافظ، وكان هذا يهيىء ابنه باسل لوراثته قبل ان يقتل في حادث سير في ك2/ يناير 1994.

لم يملك بشار شيئاً من مؤهلات والده في الذكاء والدهاء والصبر والفطنة، وحسن الاختيار والمفاوضات والصدقية في التعامل مع الآخرين..

وعندما كان حافظ الأسد يطلب من رفيق الحريري ان يقابل بشار وان يتحدث معه، وان يقدم له معلوماته عن رؤساء وملوك العرب والعالم، كان الحريري ينقل هذا الطلب الى اثنين من رجال حافظ هما حكمت الشهابي وعبدالحليم خدام.. وكان الاثنان ينصحانه ألا يقابل هذا الولد الأجدب كما كان الشهابي وخدام يصفان بشار.

مرتان طلب الأسد من الحريري ان يلتقي بشار.. وفي المرتين كانت النصيحة من خدام والشهابي: دعك منه انه ولد أجدب.. لا تضيع وقتك معه.

كانت زيارات الحريري الى دمشق تتسرب بشكل عفوي ومتعمد.. يحرص الرجل عليها لأنه كان يلقى المودة من كل الذين يلتقيهم.. غير آبه بمن يعرف انه يحفر له الخنادق فيها.. وهؤلاء يزينون لبشار ان عليه اذا أراد الامساك بالسلطة في سورية ان يحسن امساكها في لبنان، وان خصومه في سورية جعلوا من رفيق الحريري سداً في وجه من يحاربهم في سورية وأولهم هو بشار نفسه.. من خلال تجاهل الحريري له.

كانت في سورية معادلة ركبها حافظ الأسد وهي ان يجعل ملف ادارة لبنان بين يدي الرباعي خدام – الشهابي- دوبا – كنعان.. وهؤلاء اختاروا لادارته رباعياً آخر مشكلاً من نبيه بري – الحريري – الهراوي – وليد جنبلاط.

ولأن لبنان كان مولوداً ديموقراطياً فإن منافسي هؤلاء كانوا ذوي حضور شعبي وسياسي ولم يكن ممكناً تجاهلهم، وفق المعادلة التي رسمها الأسد للبنان وهو حاكمه الفعلي.

ففي مقابل بري كان هناك الرئيس حسين الحسيني وفي مقابل الحريري كان هناك الرئيس سليم الحص وفي مقابل جنبلاط كان هناك طلال ارسلان.

هذا عند المسلمين.

أما عند المسيحيين ففشل السوريون في ايجاد أي بديل محترم وذي حضور شعبي او سياسي لكميل شمعون وبيار الجميل وبشير الجميل.. لذا كانت حصيلة العمل السوري في الوسط المسيحي هو لملمة عملاء اسرائيل (ما عدا سليمان فرنجية الحفيد والجد) ليكونوا حصان طروادة السورية في الوسط المسيحي.. جعلوا من بعضهم نواباً ووزراء.. وما نجحوا، (بعد ذلك التقط السيد حسن نصرالله المعادلة من مكامنها العملية واختار التفاهم مع ميشال عون.. وتلك قضية أخرى فنجح حيث فشل حافظ الأسد).

وفي الوسط الديني السني تحديداً.. فشل السوريون في التفاهم مع المفتي الشيخ حسن خالد فقتلوه.. وفشلوا في إسكات الشيخ صبحي الصالح فقتلوه..

كان الامام محمد مهدي شمس الدين عروبياً معتدلاً ميثاقياً.. وهذا كله لم يكن يعجب حافظ الأسد.. لكن تجسيد السلطة شيعياً وتشريعياً في لبنان بين ايدي الرئيس نبيه بري كان يريح الأسد كثيراً في الوسط الشيعي.. خصوصاً مع صعود نجم حزب الله بقيادة السيد حسن نصرالله لقيادة المقاومة الناجحة ضد الاحتلال الصهيوني التي وضعت في رصيد الأسد شبه الخاوي عربياً ذخيرة دعم المقاومة حتى تحقيق الانتصار على اسرائيل.. وما غادر الأسد الحياة في 11 – 6 – 2000، إلا بعد ان كان حزب الله حرر الأراضي اللبنانية المحتلة قبل 15 يوماً بالتحديد.

المعادلة اللبنانية الممسوكة سورياً في عهد حافظ الأسد.. انقلبت الى ضدها في عهد وريثه بشار.

هذا لا يعني ان الحريري لم يكن يتلقى السهام من جماعات لبنانية مرتبطة بأجهزة استخبارات سورية في زمن حافظ الأسد.. بل ان هؤلاء بكروا كثيراً في التطاول عليه مباشرة بعد تشكيله حكومته الأولى موصوفة بأنها حكومة مشروع الشرق الأوسط الذي كان يتحدث عنه رئيس الكيان الصهيوني يومها شمعون بيريس، في عهد رئيس وزرائه اسحاق شامير.

لكن بشار محكوماً بكراهية أصوليي العلويين وفي مقدمتهم مربيه اللواء محمد ناصيف.. كانت تصله أصداء وأسباب ابتعاد رفيق الحريري عنه، وكانت عصبية هذه الأصولية متغلغلة في نفسيته الضعيفة وبضيق صدره الضيق أصلاً بمكانة رفيق الحريري وقد قال أكثر من مرة بأنه لا يطيق شكل هذا الرجل ولا مشيته المختالة ولا يحب سماع صوته.. وكان بشار لا يلتقط حرفاً او موقفاً ايجابياً من والده المعجب بحيوية الحريري وطموحه وأفكاره وقدرته على تغيير سياسات دول كبرى تجاه سورية. كان رفيق الحريري يتجنب اللقاء مع بشار في عهد حافظ الأسد.. صار بشار يكره استقبال رفيق الحريري بعد ان صار هذا رئيساً.

لكن

في مرة واحدة التقى رفيق الحريري بشار  في عهد حافظ.. وقد قرر الحريري زيارته متجاهلاً نصائح الشهابي وخدام.. ولنترك الحريري يروي ما حصل كما رواها لـ((الشراع)) عبدالحليم خدام.

((تكاثر الذين ينصحون الحريري بأن يطلب موعداً من بشار.. حدد له هذا موعداً خارج دمشق وتحديداً في ((غرسونييرة)) في جبل قاسيون قدمها لبشار أحد رجال الأعمال..

قال الحريري لخدام بعد ان عاد من اللقاء متجهم الوجه جالساً على كنبة في منـزل ابو جمال: لقد كبسني.. سأله خدام من الذي كبسك ابو بهاء؟

انه بشار؟

وهل زرته؟ ولماذا؟

قال الحريري: زرته تحت إلحاح كثيرين في بيروت، وكانت المقابلة مهينة..

يتابع الحريري: كان يمكن لي ان أتحمل الاهانة لو كنت وحدي لكنه تعمد ان يستقبلني بحضور سليمان فرنجية.. وهذا يعني انني بمجرد ان طلبت موعداً منه فهو اتصل بسليمان كي يحضر وكي يهينني أمامه (كان سليمان فرنجية كثير الانتقاد للحريري وحكوماته رغم انه كان وزيراً شبه ثابت فيها).

انها المرة الأولى التي استقبل فيها بشار الأسد رفيق الحريري وقبل ان يتسلم طبيب العيون رئاسة سورية بعد وفاة والده.

ولنترك تفاصيل لقاء المرة الأخيرة للرئيس المظلوم رفيق الحريري مع بشار الأسد لسفير السعودية في واشنطن رئيس جهاز الأمن القومي السعودي فيما بعد الأمير بندر بن سلطان كما نشرتها جريدة ((الاندبندنت)) في حديث أجرته معه.

 

في الحلقة المقبلة:

تفاصيل تهديد بشار للحريري

تفاصيل كلام الملك عبدالله لبشار

حسن صبرا

 

الوسوم