بيروت | Clouds 28.7 c

حقيقة معنى: إنما الأعمال بالنيات / بقلم الشيخ أسامة السيد

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى: ((وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسولهُ والمؤمنون وستُردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون)) سورة التوبة.

وعن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئٍ ما نوى فمن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله فهجرتُه إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته لدنيا يُصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) رواه البخاري ومسلم.

إن مما يؤسف في هذا الزمان العجيب أن نرى كثيرًا من الناس يحتجون بهذا الحديث في غير محله ولغير معناه جهلاً منهم بحقيقة مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومؤدى كلامهم تحريف المعنى الأصلي للحديث الشريف فترى مثلاً بعض الجهلاء يقتحمون الحرام ثم إذا ما نصحهم ناصح يقول قائلهم: قال عليه الصلاة والسلام ((إنما الأعمال بالنيات)) وكأنهم يرون ذلك قاعدةً تُبيح لهم الإثم بدعوى أن العبرة بالنية وأن نواياهم صافية، ولا يقبلون منك أي شرحٍ للحديث على خلاف ظنهم الفاسد.

ونحن نقول: من صفت نيته انعكس أثر ذلك على جوارحه فحفظ نفسه من الحرام ووقف عند حدِّ الشرع، وليس لأحدٍ أن يدخل في تأويلات نصوص القرآن والحديث بمجرد الرأي البعيد عن دليل الشرع، وإذا ما كان العلماء الفطاحل يتوقفون عن الخوض في كثيرٍ من المسائل خوفًا من الله تعالى، ولا يتكلمون في التأويل إلا إذا دلَّ عليه الدليل فما بال الغوغاء من العوام يُقحم بعضهم أنفسهم فيما لا علم لهم فيه، إن يتبعون بذلك إلا هوى النفس الذي يقود أصحابه إلى الهلاك المبين، فإن كثيرًا من البلاء يتأتى من مجاوزة الشخص حدَّه.

ومن المصائب الكبرى أن بعض هؤلاء المغرورين يظنون بأنفسهم العلم ومعرفة التأويل وإنما مثلهم في واقع الأمر كمثل من قال ربنا فيه: ((واتل عليهم نبأ الذي ءاتيناه ءاياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطانُ فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتَّبع هواه فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث ذلك مثل القوم الذين كذَّبوا بآياتنا فاقصُص القَصص لعلهم يتفكرون)) سورة الأعراف. ومعنى ((فانسلخ منها)) خرج منها ولم يقبلها وهذا حال المعاند الذي تبين له معنى الآية أو الحديث بالحجة والبرهان ويُصر مع هذا على قوله الفاسد تبعًا لهواه فيردى مع الغاوين، وحيث عُلم هذا فالحذر الحذر من حمل كلام الله ورسوله على خلاف الحق. ونحن نشرع إن شاء الله في بيان معنى هذا الحديث الشريف فنقول:

الأعمال بالنيات

ليعلم أولاً أن هذا الحديث متفقٌ على صحته وعظيم موقعه وجلالته وكثرة فوائده، قال الحافظ ابن دقيق العيد في ((شرح الأربعين النووية)): ((قال الإمام أحمد والشافعي رحمهما الله يدخل في حديث الأعمال بالنيات ثلث العلم)) وسبب ذلك أن كسب العبد للخير أو الشر يكون بقلبه ولسانه وجوارحه أي أعضاء جسمه والنية بالقلب أحد هذه الأقسام الثلاثة، وقد صدَّر الإمام البخاري كتابه ((الصحيح)) بهذا الحديث وأقامه مقام الخُطبة له إشارة منه إلى أن كل عملٍ لا يُراد به وجهُ الله فهو باطل لا ثمرة فيه في الدنيا ولا في الآخرة، وقد نقل النووي في ((شرح صحيح مسلم)) وغيره عن عبدالرحمان بن مهدي أنه قال: ((ينبغي لكل من صنَّف كتابًا أن يبتدىء فيه بهذا الحديث تنبيهًا للطالب على تصحيح النية)). وفي ((كشف المشكل)) لابن الجوزي أن الإمام الشافعي قال: ((يدخل هذا الحديث في سبعين بابًا من الفقه)).

وحيث ظهر لك أهميةُ الحديث فكن منتبهًا لما سيأتي من بيان معناه فقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات)) المراد به الأعمال الشرعية أي لا يُعتدُّ بالأعمال الصالحة مثل الوضوء والغسل من الجنابة والتيمم والصلاة والزكاة والصوم والحج والصدقة وغير ذلك من سائر العبادات إلا بالنية على تفصيل في ذلك عند الفقهاء حيث قال الحنفية: إن الأعمال الصالحة المستقلة كالصلاة لا تصح إلا بالنية، أما الأعمال التي تكون كالوسيلة للأعمال المستقلة كالوضوء مثلاً هو وسيلة أي شرطٌ لصحة الصلاة فلا تشترط فيها النية.

والنية في اللغة العزم أي التصميم المؤكد بالقلب، وشرعًا النية عقد القلب أي العزم بالقلب على الفعل مقترنًا به على قول السادة الشافعية، ولذلك اشترطوا النية عند أول الوضوء أي عند إصابة الماء الوجه وعند تكبيرة الإحرام في الصلاة، ويصح في بعض الأعمال تقديم النية على العمل كنية الصوم من الليل في رمضان وغيره. أما من فهم من هذه الجملة من الحديث خلاف هذا المعنى وزعم أن الأعمال المخالفة للشرع لا يعصي فاعلها إلا إذا نوى فعل المعصية فقد فتح بابًا كبيرًا للفساد، لأن هذا معناه أن الشخص إذا كفر أو زنا أو سرق أو شتم أو ضرب بغير حقٍ أو فعل غير ذلك من المنكرات لا يكون آثمًا إلا إذا نوى فعل الذنب، وهذا لا يقول به عاقلٌ ولا يُسلِّم به مُنصف.

وكذلك لا تكفي النية وحدها لصحة العمل فإنه قد يصلي شخصٌ صلاةً فاسدةً أو يصوم صيامًا فاسدًا بسبب جهله بالأحكام وإذا ما نصحه ناصحٌ يدافع عن نفسه فيقول العبرة بالنية والأعمال بالنيات.

النية والعمل

 وحيث بينَّا أن المراد بذلك أن صحة الأعمال الصالحة بالنية فنقول: من صلى صلاةً فاسدةً أو صام صيامًا فاسدًا لم يأت بعملٍ صالح أصلاً لعدم موافقته الأحكام الشرعية، فهو في الحقيقة عملٌ على خلاف الشرع فلا يُعتد به أصلاً ولا تقوم مجرد النية مقام تحسين العمل فإن الله تعالى قد كلّفنا بأمرين هما: تحسين النية وتحسين العمل ولا بد لمريد السلامة والثواب من الاعتناء بالأمرين. وتدخل النية أيضًا في نحو الطلاق غير الصريح لأن الطلاق نوعان: صريح وهو ما يقع الطلاق به سواءٌ نوى الطلاق أم لا وذلك كأن يقول شخصٌ لزوجه أنت طالق. وكناية وهو ما لا يكون طلاقًا إلا بنية وذلك أن يأتي بلفظٍ يحتمل الطلاق وغيره، فيكون طلاقًا إن نواه، ولا يقع به الطلاق إن لم ينوه، وذلك كأن يقول: الحقي بأهلك فإنه طلاقٌ بالنسبة لمن نوى به الطلاق ولا يكون طلاقًا إن لم ينوه إنما أراد به مثلاً أن تذهب إلى أهلها فقط. وفي مثل هذا ينظر المفتي إلى نية القائل ويُصدر الحكم بناءً على ذلك لأن هذا عملٌ قلبي فلا يُعلم إلا من جهة قائله.  

وحيث عُلم هذا فلا أريد الإطالة أكثر في شرح ذلك وإنما أحيل من أراد أن يتعمق في معرفة المزيد إلى سؤال أهل العلم، وإذا ما اتضح لك المعنى الإجمالي فقف عند حد الشرع وإياك وغرور النفس فيحملك الشيطان على الدخول في تأويلاتٍ ما أنزل الله بها من سلطان.

وأما قوله صلى الله عليه وسلم: ((وإنما لكل امرئٍ ما نوى)) فإنه يفيد معنىً خاصًا غير المعنى الأول كما قال الخطابي في ((أعلام الحديث)) وهو تعين العمل بالنية أي أن تعيين المنوي شرط، فلو أن إنسانًا مثلاً لزمه قضاء صلواتٍ فاتته فلا يكفي أن ينوي قضاء الصلاة الفائتة بل يشترط أن ينوي كونها ظهرًا أو عصرًا أو غيرهما، ولولا اللفظ الثاني لاقتضى الأول صحة النية بلا تعيينٍ أو أوهم ذلك فأوضح النبي صلى الله عليه وسلم في الجملة الثانية معنىً آخر بعبارة موجزةٍ، وهذا من قوة بلاغته وحُسن فصاحته عليه الصلاة والسلام. ويُعلم من هذه الجملة أيضًا أن النية سر العمل ويُمكن أن تُجعل العادات عباداتٍ كالمآكل والمشارب إذا نوى بها نيةً حسنةً بأن يأكل ويشرب مثلاً بنية أن يقوي بدنه على طاعة الله.

هذا ويمكن أن يعمل اثنان العمل نفسه فيُثاب أحدهما ويأثم الآخر، وذلك كأن يُطعِم اثنان الناس فيقصد أحدهما التقرُّب إلى الله بإكرام المؤمنين فيكون مأجورًا، ويقصد الآخر طلب محمدة الناس له فيكون آثمًا.

مهاجر أم قيس

وبالتالي فعلى المرء أن يتنبه لهذا ويعتني بإصلاح قلبه ليصلح له مقصده، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله)) من قصد بهجرته التقرُّبَ إلى الله وحده فهجرته مقبولةٌ عند الله وعند رسوله، أي ينال الثواب من الله على ذلك. وقد كانت الهجرة إلى المدينة في وقتٍ من الأوقات فرضًا على المستطيع من المسلمين ثم نُسخ هذا الحكم بعد فتح مكة فما عادت الهجرة فرضًا، ويُفهم من قوله عليه الصلاة والسلام: ((ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأةٍ ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه)) أن من هاجر يريد أن يُصيب حظًا من حُظوظ الدنيا أو لأجل امرأةٍ يريد نكاحها فحظه من هجرته ما قصد إليه من دنيا أو امرأة. وقد اشتهر أن هذا الحديث ورد على سببٍ وهو أن رجلاً أحب امرأةً بمكة يقال لها أم قيس فهاجرت إلى المدينة فهاجر ليتبعها رغبةً في نكاحها لا يريد بذلك فضيلة الهجرة، فقيل له: مهاجر أم قيس. قال نجم الدين الحنبلي في ((التعيين في شرح الأربعين)): ((يحتمل أن مهاجر أم قيس المذكور كان يُحبها لمالها وجمالها فجمعهما (أي بقوله: لدنيا يُصيبها أو امرأةٍ ينكحها) في التعريض به)).

وحيث ظهر لك معنى الحديث فكن على استحضار له وإياك والتأويل الباطل واعتن بإصلاح نواياك فإن الله يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور.

والحمد لله أولاً وآخراً.          

الوسوم