بيروت | Clouds 28.7 c

وديعة  خالد جمال عبد الناصر بعد 30 عاماً، للمرة الأولى أسرار ((تنظيم ثورة مصر)) كاملة، التمويل والسلاح والتخطيط والتنفيذ،خالد عبد الناصر: أنا القائد الأول والأخير للتنظيم / بقلم: محمد خليفة

خالد عبدالناصر مقدمة ((الشراع))

جماهير جمال عبدالناصر من المحيط الى الخليج، مواطنين، مثقفين، سياسيين، حزبيين، تداولوا كثيراً ربما في حياة جمال.. وبعد رحيله بشكل شبه دائم أسئلة عن عائلة الزعيم، منها: أين أبناء جمال؟ لماذا لم يظهروا في أي عمل سياسي، او تنظيمي، او شعبي، خصوصاً عندما كان أنور السادات أطلق العنان لحملات حاولت النيل من الزعيم وعصره ومبادئه وسياساته وحتى ذمته المالية.. ليصل بعدها الى هذه الحملة ومعها الى العدو الصهيوني عام 1977، ثم الى اعتماد مقولة ان أميركا تملك 99 % من أوراق قضية فلسطين، مسلماً بذلك في السياسة وفي الثقافة وفي النهج، حتى أخرج مصر ومنذ العام 1974 وحتى اليوم من دائرة أي تأثير عربي او أفريقي او اسلامي.

كانت الأسئلة هذه تحمل طابع اللوم لجمال لأنه لا يجهز أبناءه للعمل السياسي او التنظيمي، تماماً كالأسئلة التي يتبجح بإطلاقها حزبيون (شيوعيون، بعثيون..) حول انعدام وجود حزب ناصري في مصر في عصر جمال عبدالناصر، في تجاهل أعمى لوجود تنظيم الطليعة العربية او طليعة الاشتراكيين الذي أسسه جمال عام 1965.. وهو الذي ما زال في ثقافته وفي رجاله في صلب الحياة السياسية والحزبية والادارية لمصر شعباً ودولة.. طيلة فترة أنور السادات وحسني مبارك.. بعض الوزراء من بين رجاله والمحافظين وقادة الأحزاب والنقابات والاتحادات المهنية.. وحتى رؤساء جامعات واتحادات طلابية.. لوقت طويل.

كنا نعلم ان جمال حظر على أولاده العمل التنظيمي وبالتالي السياسي في حياته.. وعندما سأله أعضاء في الاتحاد الاشتراكي في أحد مؤتمراته: ((يا ريس عبدالحليم بيغني اديك أهو خدت العضوية وصبحت في اللجنة الأساسية (للاتحاد الاشتراكي) فلماذا  لا يشارك خالد في معسكرات الشباب التي ينظمها الاتحاد تمهيداً لدخوله الاتحاد الاشتراكي؟.

يبتسم جمال لكنه يرد حاسماً: ((يعني لو دخل خالد أي لجنة أساسية مش حيجي هو أمين اللجنة حتى لو كان غير مهيأ لذلك؟.. طبعاً عشان هو ابن رئيس الجمهورية.. يعني حيبتدي واسطة من أولها.. لا بلاش كده)).

ولم يعرف عن أولاد جمال انخراطهم في أي شأن عام بعد رحيله، وقد تفرغوا للدراسة بعدها، وكنا نتابع ان بعضهم يتابع دراساته العليا، او يعمل في مجال تخصصه بعد التخرج.. وكانت هدى جمال عبدالناصر هي الأكثر حضوراً في هذا المجال لأن تخصصها كان في صميم اهتمامات جمال كرئيس وزعيم فهي في مجال السياسة والاقتصاد، وكان شريك حياتها حاتم صادق عضواً في لجنة تخليد جمال بعد رحيله.. لكنه انصرف بعدها الى العمل المصرفي حتى كان مدير عام أحد المصارف العربية في القاهرة..

الآن نترك لزميلنا الكاتب محمد خليفة ان يقدم لنا عن قرب ولأول مرة مسار ابن الزعيم الذي حمل جمال كنيته خالد وهو ابو خالد من خلال هذه الحلقات التي تكشف أسراراً خطيرة جداً من داخل مصر تحديداً وبعض المحطات المهمة، كاشفاً اللثام عن خفايا ستنشغل أجهزة استخبارات العالم بها، خصوصاً لمن عاصر منهم أحداثاً او كلف بملاحقتها.. او كان ضحية لها..

  • *تفوقنا على الاستخبارات المصرية والاسرائيلية والاميركية
  • *الموساد طارد خالد خارج مصر
  • *حرّمنا جرح أي مصري, أما مبارك فقررنا بالاجماع قتله!
  • *هربنا الأسلحة من أوروبا على طائرة أشرف مروان!
  • *اتصل بنا أبو نضال وجبريل فرفضناهما بالمطلق
  • *أمنية عبدالناصر قبل وفاته كانت تحرير سيناء والعودة الى سورية
  • *كنا نمر بأزمة مالية في البيت وأمي كانت تشتكي من عدم توافر المال الكافي وتطلب منا الانتظار الى نهاية الشهر
  • *السادات أراد ان يقوم بدور الوصي على أسرة عبدالناصر لكن الخلافات سرعان ما نشبت بينه وبينها
  • *خالد عبدالناصر حمل السادات مسؤولية حملات العداء والكراهية على والده

كتب محمد خليفة

في لقائي مع ((الاستاذ )) محمد حسنين هيكل في كانون الثاني/ يناير 1990 وكانت قضية خالد منظورة أمام القضاء, ومادة دسمة للاعلام داخل وخارج مصر سألت الصحافي الكبير الذي يعرف جمال عبدالناصر أكثر من أي شخص آخر, كما يعرف أولاده منذ أن كانوا صغاراً حتى غدوا رجالاً: مَنْ مِنْ أولاد الزعيم الراحل الأقرب الى شخصية أبيه..؟

لمعت عيناه وابتسم وقال لي: هل تعلم أن هذا من الأسئلة التي لم يسبق أن طرحها أحد عليّ, وكنت أرغب بالحديث عنها..؟

علقت: هذا من دواعي سروري يا سيدي!

  قال: من سوء حظ جمال عبدالناصر, وربما من جوانب محنته الانسانية كشخص ورب أسرة أن أولاده لا يشبهونه, بل أجزم أن أحداً منهم لم يقتبس, أو يكتسب شيئاً من خصائص شخصيته الفذة والعظيمة.

سألته: ولا حتى خالد..؟

رد: صديقك خالد يعلم رأيي. ولا شك أنه الأفضل بين أخوته وربما الأقرب بين أشقائه الى أبيه, ولكنه رغم ذلك يظل بعيداً عنه. هذا رأيي بموضوعية, عبدالناصر رجل عظيم وعبقري, وللأسف لم تنتقل ملكاته الى أبنائه!

اختلفت  مع ((الاستاذ)), وأعتقد أن نرجسيته المتضخمة هي ما أغشى بصيرته عن رؤية المزايا الكثيرة في شخصية خالد. وما سأسرده في هذه المدونات التي تتألف من قسمين, الأول هو مقابلة أجريتها معه وسجلتها على الورق, أملاها عليّ وتتعلق بأدق المعلومات وأخص الأسرار الخاصة بتجربة ((تنظيم ثورة مصر)). والثاني هو أقوال سمعتها منه, وذكريات عشتها معه, وأسردها بكل أمانة, كما هي من دون زيادة, أو نقصان.

 لقد اعتبرت ما باح لي به من معلومات وأسرار لم يسلمها لأحد سواي بمثابة ((وديعة)) غالية, حافظت عليها واحتفظت بها ثلاثين عاماً, وقد حان الآن أوان نشرها, لأهميتها التاريخية, واهمية المعلومات الواردة فيها, والتي تعيد كتابة فصل من فصول التاريخ السياسي لمصر, وإضاءة جوانب مجهولة من دوره وشخصيته.

وأعترف بتقصيري في نشرها, إذ ربما كان عليّ أن أنشرها منذ وفاة المرحوم عام 2011 وعذري الوحيد ولعله الكافي هو انهماكي واستغراقي الكليان غصباً عني في متابعة شؤون ومسائل الثورة السورية منذ آذار/ مارس 2011 حتى اليوم, مما صرفني عما عداها من مهام ونشاطات . والأرجح أنها كانت ستبقى خبيئة الادراج مدة أطول لولا مبادرة الاخ والصديق والزميل حسن صبرا بإحياء  الذكرى المئوية لميلاد جمال عبد الناصر 1918 - 2018, فقد أنبأته بوديعة خالد, ففرح بها وألح علي لتجهيزها للنشر فوراً, فتفرغت لها, ويستحق الشكر لأنه لولا إلحاحه لربما تأخرت أكثر في إعدادها ونشرها. 

الأوراق الاصلية مفتوحة بين يدي الآن, وأجد مكتوباً على زاوية صفحتها الأولى العليا تاريخ كتابتها ((21 / 1 / 1989)) . وها هي تنشر في التاريخ نفسه بعد ثلاثين عاماً تماماً. والله يعلم كم كنت أتمنى أن تنشر في حياة المرحوم خالد, وأن يراجعها قبل نشرها ليضيف عليها, أو يعدل فيها.

 على أي حال سأنقل رواية خالد لقصة ((تنظيم ثورة مصر)) كما رواها لي بنفسه بكل أمانة ودقة من دون زيادة أو نقصان, ولكن بعد أن أقدم عرضاً سريعاً لمسيرة خالد السياسية, من قبل, ومن بعد, تجربة العمل المسلح , لإيضاح الظروف والدوافع والعوامل التي استحثته لخوض هذه التجربة.  

 وهكذا, فما سأكتبه واقدمه ليس مجرد كشف ((للوديعة)) التي ائتمنني المرحوم عليها, ولا مجرد تدوين لذكريات وأحاديث معه, ولكنها محاولة لتسجيل سيرته بشكل موجز, ومحاولة لرسم صورة شخصية ((بروفايل)) موضوعية له, للمرة الأولى.                       

والحصيلة  تدحض تقييم الاستاذ هيكل لشخصية خالد, وتقدم أكثر من برهان دامغ ودليل قاطع على أن خالد هو ((سر أبيه)) وأنه بطل مصري وعربي صنع تجربة استثنائية في مقاومة كامب ديفيد, لم تتكرر, ولم تقم أي منظمة أو جهة من المعارضة المصرية بمثلها. وكان رحمه الله يجهز نفسه لمواجهة الرئيس حسني مبارك, وابنه جمال إذا حاول توريثه الحكم, ولكن الظروف لم تمهله, وهو بهذا حفر بصمته بعمق في تاريخ مصر المعاصر.

خالد: النشأة والتكوين

خالد هو النجل الأكبر للزعيم الراحل جمال عبدالناصر بين أبنائه الذكور, والثالث بعد هدى ومنى . ولد في 26 كانون الأول/ ديسمبر1949.

كان في الثالثة من عمره عندما قامت ثورة 23 تموز/ يوليو 1952، وبلغ الحادية والعشرين يوم رحل والده في 28 كانون الأول/ ديسمبر 1970. أكمل تعليمه, ودرس الهندسة المدنية في مصر, ثم تخصص في لندن وحصل على الدكتوراه عام  1970. وعمل استاذاً في جامعة القاهرة, وبرز إسمه كمهندس مميز على المستوى العالمي في تخطيط المدن ومشاريع الطرق والسكك الحديدية والجسور العملاقة, وعمل مستشاراً لشركات عربية وعالمية, وأخبرني مرات عديدة عن مشاركته في مؤتمرات وندوات علمية في هذه المجالات, في الاميركيتين وأوروبا.   

يحتفظ خالد في ذاكرته بشريط الأحداث الكبرى التي مرت بها مصر بعد ثورة يوليو منذ العدوان الثلاثي عام 1956.

 إنه يتذكر ويعي جيداً تجربة الوحدة مع سورية, وقال لي أكثر من مرة انه سمع أباه مرات كثيرة يتحدث عن سورية وشعبها بحب وإعجاب. وسمعه يتحدث عن أمنياته الكبرى قبل أن يتوفاه الله, وأولها أن يستعيد كرامة مصر ويحرر سيناء من العدو الاسرائيلي, وثانيها أن يعود الى سورية.

ويتذكر خالد الثورات العربية الكبرى في الجزائر واليمن وفلسطين  وعدوان اسرائيل 1967 على مصر والاردن وسورية وما تلاه. ويتذكر خطابات والده ومواقفه ومعاركه, ولا سيما بعد العدوان المذكور.

 وروى لي بعض ذكرياته من تلك المرحلة, والتي تدور حول حياته في البيت والمدرسة والجامعة, وعلاقاته مع زملائه وأترابه, وتجاربه في مرحلة الشباب, كأي مواطن عادي لا يتمتع بأي مزايا أو امتيازات استثنائية.

 من حكاياته التي رواها لي أن أباه شاهده ذات يوم وهم على مائدة الغداء مصاباً ((معوراً)) وضمادة طبية على وجهه, فسأله عما اصابه, فأجابه إنه تشاجر مع زميل في المدرسة, وأصيب بجرح, وأسعفه المدير الى المشفى.

 وقال لي خالد: إستمع أبي لي بهدوء, ثم سألني: هل أخبرت عمك سامي ((سامي شرف مدير مكتبه وسكرتيره)) بالحادثة ؟ فنفيت, فطلب مني أن أذهب فوراًَ وأطلعه على الحادثة, لكي يتصل بالمدرسة والشرطة, ويطمئن على الولد ((المعتدي)), خوفاً من أن تكون الشرطة قد اعتقلته, أو اعتقلت أحداً من أهله!.      

ومن الذكريات المعبرة التي سردها لي أنه كان يراقب أباه كل ليلة خلال فترة حرب الاستنزاف 1968 - 1970 حين يذهب الجميع الى أسرتهم للنوم يبقى هو منتظراً رئيس الأركان عبد المنعم رياض, أو وزير الدفاع محمد فوزي, أو كليهما, فيصل أو يصلان بعد العاشرة ليلاً, حاملاً أو حاملين ملفات ضخمة, فيجلسون في المكتب, ويبدأون العمل معاً فيفتحون الملفات ويتابعون شؤون الجبهة والحرب والقوات المسلحة.

 قال خالد كنت أخلد للنوم في الواحدة أو الثانية ليلاً, وهما في المكتب, وحين أستيقظ في السادسة أو السابعة أجدهم جالسين الجلسة نفسها. وكنت أشعر أن هذا الجهد المضني لا بد أن يقتل أبي! .

ومن الأشياء التي كشفها لي: في بعض المناسبات والفترات كنا نشعر بأزمة مالية في البيت, إذ كنا نطلب أشياء نرغبها, وكانت أمي تشتكي من عدم توفر المال الكافي لسد كل احتياجاتنا وطلباتنا, وتطلب منا الانتظار الى نهاية الشهر, أو أن نصطبر شهراً أو شهرين, ولم نكن نحصل على كل ما نرغب. وخصوصاً متعة السفر للسياحة والنـزهة خارج مصر, فهذه كانت خارج التمنيات.

بعد أن أنهى خالد دراسته الجامعية, التحق بالخدمة العسكرية مثله مثل أي مواطن مصري آخر, وامتيازه الوحيد أنه أداها في جهاز الاستخبارات, فأتقن استعمال السلاح, وفنون القتال, والأمن, وهي أشياء ساعدته في نشاطه لاحقاً.

ومارس خالد ألعاباً رياضية عديدة, السباحة, وكرة اليد, وكرة اليد في الماء, اضافة لرياضة المشي. اكتسب بفضلها قوة بدنية ولياقة ورشاقة. كان فارع الطول حوالى 187 سم, متوسط البنية, بدون سمنة أو ترهل, وأقرب للنحافة. ولكنه كان مدخناًَ شرهاً كوالده, فترك التدخين أثره على صحته.

وورث خالد عن أبيه أيضاً فضيلة القراءة, فهو قارئ نهم ومتابع للصحف والكتب السياسية حصراً, ويمتاز بسرعة خارقة في القراءة ((خارقة جداً)) وقال لي: هذه من الأشياء التي ورثتها عن أبي الذي كان قادراً على قراءة 20 - 30 سطراً في الدقيقة, مع قدرة عالية على التركيز.

كنت أحياناً أطلب منه قراءة مقال مهم في مجلة, أو صحيفة, فيقول لي حاضر, يلقي عليه نظرة لا تزيد عن دقيقتين أو ثلاثة, ويردها لي, أقول له: لماذا لم تتابع القراءة؟ يبتسم ويقول: بلى قرأته كاملاً, وأعلق: معقول؟ فيضحك ويقول لي: قرأته بإمعان, وبإمكانك أن تختبرني, إسألني عن أي شيء في المقال!

أقول له ما شاء الله, هذه ميزة فريدة, فيعلق: هل تتصور أن أبي كان يستطيع قراءة مئات التقارير والملفات يومياًَ اضافة لعشرات الصحف المصرية والعربية لولا هذه الميزة..؟! 

الخروج من عباءة الأب

بعد وفاة ناصر غابت أخبار وأسماء أفراد أسرة الزعيم الراحل الى الظل تدريجياً, ولم يبرز إلا  إسم خالد في الاعلام, بصفته ممثلاً للأسرة, والمتحدث بإسمها في المناسبات الرسمية وغير الرسمية. تزوج خالد في أواخر 1971 من السيدة داليا فهمي (شقيقة وزير النفط المصري لاحقاً..سامح فهمي). وحضر أنور السادات حفل الزواج المتواضع الذي اقتصر على العائلتين, من دون فرح أو طرب أو بذخ. وشهد السادات على عقد القران.

 وظهر خالد بجانب السادات في السنوات التالية مرات عديدة. كما ظهر بعد ذلك مع الرئيس حسني مبارك في مناسبات وطنية قليلة, كالاحتفال بذكرى ثورة 23 تموز/ يوليو, أو في ذكرى رحيل والده عبدالناصر .

 السادات هو الذي استن سنة زيارة ضريح سلفه في مناسبة ذكرى ثورة 23 تموز/ يوليو التي قادها الزعيم الخالد, وفي ذكرى وفاته 28 ايلول/ سبتمبر. واقتدى الرئيس مبارك بسلفه في السير عليها. وتضمنت تقليداً هو أن يكون أكبر أبناء عبدالناصر في استقبال الرئيس عند الضريح, ممثلاً أسرة الزعيم مؤسس مصر المعاصرة, ونظامها الوطني.

 حتى 1979 تفرغ خالد للدراسة ومتابعة تعليمه العالي بين مصر وبريطانيا,  فلم يمارس أي نشاط سياسي بإستثناء المشاركة في ((اللجنة العربية لتخليد جمال عبدالناصر)) أو بعض فعاليات الجماعات الناصرية والقومية العربية, او استقبال بعض الوفود العربية التي تزور أسرة الزعيم الراحل تعبيراً عن وفائها له.. وهو زار لبنان في عصر جمال لاعباً لكرة اليد، وزاره بعد رحيل جمال ليزيح الستار عن تمثال عبدالناصر في بلدة قب الياس في البقاع (نسفه الظلاميون بعد ذلك).

وتلقت الأسرة عروضاً مغرية للمساعدة من حكام وأثرياء عرب اعتذرت عن عدم قبولها كافة, وأبرمت ((عهداً)) فيما بينها على تجنب كل ما يسيء لإسم الراحل الكبير وذكراه, بما في ذلك استثمار اسمه في سوق السياسة.

 التزم خالد بميثاق الأسرة طوال السنوات التي تلت رحيل الوالد, ونأى بنفسه عن المشاركة في أي نشاط يمكن أن يفسر تفسيراً مسيئاً لأبيه, قطعاً للطريق على المناوئين الذين كانوا يتصيدون أي هفوة لفبركة اتهامات مغرضة للأب وللأسرة معاً وخصوصاً شبهة التكسب, أو التربح في سوق السياسة, أو المنافع المادية والاقتصادية من أي جهة مصرية أو عربية أو أجنبية.

  وبديهي أن هذا السلوك لم يأت من فراغ, بل انبنى على قواعد سلوك صارمة أرساها عبدالناصر في نطاق عائلته وبيته, منذ بواكير عهده في السلطة عام 1952, وطبقها على أبيه وأعمامه وأبنائهم, ثم رسخها في بيته, وألزم بها أبناءه, بحزم أشد, إلى حد أن الرئيس كان يحذر خالد مرة بعد أخرى, ويقول له إياك أن تستغل اسمي في أي مجال, لأني لن أتردد في سجنك!. والى حد أن أول مرة استعملت السيدة تحية (زوج عبدالناصر) سيارة الرئاسة في مشوار خاص لها بعد سنوات طويلة, تحولت الحادثة غير المعتادة الى ((حدوتة)) يتناقلها العاملون في مكتب الرئيس باستغراب ومفاجأة أياماً طويلة!

 وقد دعم ذلك التفاهم الأسري الصارم أصدقاء الزعيم, ورجاله المقربون, وعلى رأسهم هيكل وحاتم صادق. كما أراد الرئيس أنور السادات أن يقوم بدور الوصي على الأسرة, ولكن الوقت لم يتأخر حتى نشبت الخلافات الحادة بين الأسرة والرئيس السادات, إذ حمّل خالد المسؤولية للرئيس السادات شخصياً عن حملات الكراهية والعداء المسعورة التي انتشرت في الصحافة المصرية بطريقة مريبة  منذ 1972على والده.

  تفاهمت العائلة على تجنب السياسة, واستغلال أو استثمار رصيد الوالد وإرثه, حتى كبر الأبناء, وصاروا رجالاً ناضجين, لكل منهم اختياراته الحرة, ومواقفه الخاصة في الحياة, فاتجهت الأنظار الى خالد تحديداً لأنه الأول بين الذكور فتعرض لإغراءات كثيرة عفوية من الناس, داخل وخارج مصر, تعبيراً عن محبتهم للزعيم الراحل, ووفاء له.

 كان الناس كل الناس يخصون خالد بحفاوة بالغة واستثنائية حيثما حلّ, وخصوصاً في لبنان واليمن وليبيا والخليج, بل وفي بريطانيا حيث أكمل تعليمه الأكاديمي وتخصصه.

كانت أرملة الرئيس الراحل السيدة تحية تبارك التفاهم , ولا تريد لأبنائها خوض غمار السياسة, خصوصا بعدما تعرضت الأسرة لإساءات وإسقاطات باطلة ومجحفة من المعادين والمناوئين للزعيم, وجوقات المنافقين بهدف الانتقام منه, وتصفية الحساب معه, بالانتقام من أولاده, وتبنت البنت البكر للزعيم  د. هدى وبعلها حاتم صادق الموقف نفسه. ودعمهما بعض الناصحين من الأصدقاء. ولكن التفاهم بدأ يتعرض للمراجعة مع الوقت.

 وكان الأمر بالنسبة لخالد مختلفاً عن بقية الأسرة, وقد شرحه لي ((كنت تحت شعور ضاغط  بالمسؤولية الثقيلة, وكنت مقتنعاً أن بعدي عن السياسة والشأن العام لا ينطوي على احترام لذكرى والدي, بل ينطوي على إساءة له ولنا كأبناء نحمل إسمه, لأنه لا يليق بعبدالناصر أن يخلف أولاداً لا تشغلهم قضايا أمتهم وبلادهم, ولا يهتمون بالشؤون العامة )).

 وقال لي ((أنا ناصري بالقناعة لا بالوراثة. أنا أؤمن بفكر عبد الناصر القومي مثلك, ومثل أي مصري أو عربي يؤمن بطريق النضال الذي اختطه وسار عليه القائد المعلم جمال عبدالناصر)) . وأكد لي أن شقيقيه عبدالحميد وعبدالحكيم كانا مع هذا الرأي من البداية الى النهاية.

كان للأشقاء الثلاثة موقف مختلف من تفاهم العائلة, يرى أنه لا بد أن يكون لهم رأي وموقف إزاء الأوضاع في بلادهم, لا سيما بعد انقلاب السلطة على النهج الوطني والقومي السابق, والحملات الظالمة على تجربة عبد الناصر. ورأوا أن من واجبهم ممارسة العمل السياسي, من دون استغلال لمكانة أبيهم, لا سيما وأن تقادم الزمن جردهم من شبهة الاستغلال السياسي لمكانة والدهم, بعد مرور سنوات غير قليلة على وفاته.

 لم يقرر خالد الانخراط الفعلي  في السياسة حين انحرف السادات عن خط ثورة 23 تموز/ يوليو, ولا حين انطلقت حملة التشهير المعادية لناصر, وتجربته ونضاله, وأمانته ونزاهته,  ووصلت الى النيل من أسرته أيضاً, إذ كان يعتبر ذلك شؤوناً عامة, يمكن تبريرها.

 أما بعد أن زار السادات اسرائيل, ثم وقع اتفاق كامب ديفيد فقد اختلف الأمر جذرياً, وأحس خالد أن ((النضال بكل الوسائل, بما فيها المقاومة المسلحة للعدو الاسرائيلي قد أصبحا فرض عين وواجباً وطنياً على كل مصري أو مصرية لا مناص منهما)) هكذا قال لي. وكان يتوقع ظهور مصريين كثيرين يفكرون مثله, ويبادرون للعمل ضد وكر الجواسيس الإسرائيليين في القاهرة عاصمة العرب الأولى. كما قال لي.

أنهى دراسة الهندسة المدنية في لندن, وحصل على الدكتوراه عام 1979, في العام نفسه الذي وقعت فيه مصر وإسرائيل تلك الاتفاقية المشؤومة التي أحلت ((السلام)) مع العدو, وحفرت هوة عميقة بين مصر والدول العربية. ومع عودته للقاهرة, وعمله استاذاً مساعداً في جامعة القاهرة, كان يسيطر عليه سؤال واحد هو ما الذي يجب عمله وكيف..؟, وكان يناقشه مع أصدقائه المقربين.

وفي هذه الفترة عزز صلاته وعلاقاته مع الناشطين السياسيين من كل الاتجاهات الوطنية بما فيها شخصيات محسوبة على حزب الوفد, أو جماعة الاخوان. وتمثلت خطواته الأولى في الإنخراط في كافة النشاطات الوطنية المناهضة لكامب ديفيد والصلح مع العدو, ولا سيما في الجامعة, والأوساط الطلابية والشبابية, وفي أوساط المجموعات الناصرية التي كانت تتحرك لإنشاء حزب, يضم جميع فرقها, ويوحد صفوفها, ويفعل قوة التيار الناصري وحضوره. وسخر خالد جهوده ورصيده دعماً لهذا الاتجاه, مع الحرص على ألا ينحاز لجماعة على حساب أخرى.

في هذه المرحلة, تكثفت حوارات خالد مع أصحابه بما يجب عمله رداً على كامب ديفيد, وتركزت بشكل معمق مع صديقه محمود نورالدين, إذ تطور الحوار بينهما من الأفكار المجردة الى الأفكار المحددة, واتفقا على أنه لا بد من إظهار رفض الشعب المصري الفعلي للاتفاق, وللتطبيع, بينما تواصل اسرائيل حروبها على بقية العرب, وخصوصاً الشعب الفلسطيني, واستقر رأي الاثنين على أنه لا بد من ترجمة الرفض المصري الى عمل مسلح ضد رجال الموساد الذين صاروا ((دبلوماسيين)) يتمتعون بالحصانة, ويقومون بمهامهم التجسسية, محميين بحصانتهم, وبدأ الرجلان خطواتهم العملية بعيداً عن الأعين والأضواء.

شرع خالد في العمل على مستويين, عسكري مع محمود, وسياسي مع بقية الأصدقاء والناشطين من كل اتجاه.

في الحلقة المقبلة

1984 خالد السياسي

1985 خالد المقاوم

 

 

 

 

 

 

 

الوسوم