بيروت | Clouds 28.7 c

زيتونة القدس

زيتونة القدس لـ أنور عبدالحميد الموسى 

ديوان تقليدي ذو اتجاه عروبـي

لم يعد الكلام على القضايا الوطنية أمراً متيسراً في زمننا الراهن، وكأن تناولها شعرياً ذنب ما بعده ذنب، سيصيب صاحبه في الصميم، وسيجعل منه جرحاً نازفاً ابداً. 

لقد أصبح تناول قضايا الإلتزام من المحظورات، من الأخطاء القاتلة، من الأفعال المشينة التي تودي بصاحبها الى مطارح لا تحمد عقباها، ولهذا يتجنب كثير من الشعراء المعروفين الخوض فيها، خوفاً من ردات الفعل السلبية التي يمكن ان يتعرضوا لها، وكأن هذا الفعل فعل مشين، وربما يعتبرونه من الكبائر التي لا تغتفر! 

هذا يحصل لأن الساحة الثقافية يهيمن عليها أعداء الفعل الملتزم، فيحاربونه بشراسة، وكأن المسألة مسألة شخصية بحتة، او كأن الكلام على القضايا الوطنية مسألة ضد الابداع شكلاً ومضموناً. 

لا حرية في الساحة الثقافية على الاطلاق، هناك هيمنة كلية لأمراء الميليشيات الثقافية، الذين لا يختلفون عن داعش بأي شيء، فيقتلون كل من لا يروق لهم، وكل من يخالف تعليماتهم، ولا يشعرون بأي ذنب، كأن سلوكهم هو الصواب الوحيد الذي لا يقبل الجدل او النقاش! 

إنهم أعداء الثقافة الملتزمة بامتياز، يعلنون ذلك، ويجاهرون به في كل مناسبة، ويعتبرون ان من يخالفهم صاحب تفكير قاصر، ولا يدرك ماذا يفعل، ولا ما يريد، ولهذا كلما ابتعد عنهم ابتعد في الآن نفسه عن الابداع! 

هم وحدهم الابداع، اذا اقتربت منهم كنت مبدعاً عظيماً، واذا ابتعدت فلا مكان لك في خارطة الإبداع. 

هم وحدهم لهم الحق في تصنيف المثقفين، وفي إعطاء صفة مبدع لهذا، وحجبها عن ذاك، لا على اساس موضوعي، ولا على اساس قراءة نقدية عميقة وصادقة، بل على اساس لا يمتّ الى العقلانية بأي صلة. 

يستسهلون نفي فلان مثلاً، على الرغم من كونه مبدعاً حقيقياً، ويلمّعون صورة فليتان، لأنه ابن الشلة، ويتقن مسح الجوخ، والتزلّف لهذا المسؤول او ذاك. 

وعلى هذا الاساس، غادر كثير من الشعراء ميدان الشعر الوطني خوفاً من هذا القلم او ذاك، وكي يحظوا بالثناء من هذا المنبر او ذاك، وفي أبسط الحالات كي يحافظوا على وجودهم في الساحة الثقافية. 

فعندما يكتب على سبيل المثال مسؤول احدى الصفحات الثقافية شعراً بمستوى الخواطر التي يكتبها طلاب البكالوريا، ويعتبرها هو وجماعته في الصفحات الثقافية الاخرى آخر ما جاد به الابداع في زمننا المعاصر! فكيف يمكن ان يتعاطى مع النصوص الاخرى الحقيقية والجادة؟ اذا كان هذا المبدع – اذا صحت التسمية – الفاشل هو خليف ابـي الطيب المتنبـي وأبـي تمام وابن الرومي والبحتري؟ وماذا يمكن ان يقول في النصوص الاخرى وكيف يمكن ان يتعاطى معها، وكيف يقبل الآخرون التصنيفات التي يجود بها؟ 

ساحة ثقافية عربية يسودها الزيف والخراب من أقصاها الى أقصاها، لأن ما يحدث فيها سريالية حقيقية او سريالية مقنعة، تتجاوز في أحيان كثيرة حدود الخيال. وخير مثال على ذلك يتمثل في السؤال التالي: كيف ينال شاعر قضى كل عمره يكتب الشعر بلا جدوى جائزة بصفته روائياً عظيماً، ويصفه البعض الوارث الشرعي لـ نجيب محفوظ، واللافت ان الساحة الثقافية هللت له وباركت، لا لشيء، بل لأنه كان يتولى مسؤولية احدى الصفحات الثقافية المعروفة. 

المم ان الزيف مهيمن، وأن الموقف المعادي لفن الالتزام جاوز كل حد، ولذلك أرى ان من يصرّ على موقفه، على الرغم من كل المعوقات الظاهرة والمستترة إنسان جدير بالاحترام، لا لشيء، إلا لأنه لا يأبه بردات الفعل المعادية. 

ضمن هذا السياق، يقتحم الدكتور عبدالحميد الموسى الساحة الثقافية بديوان صادر عن دار النهضة، بعنوان ((زيتونة القدس)) ويقع في مائة وخمسين صفحة من الحجم الوسط، ويتضمن مائة وستة وأربعين نصاً، ومن العناوين نختار: موتوا كراماً، لبنان، قلب الأم، العربـي الغارق، أحبك أكثر، ارفعوا التيجان للشهدا، مجزرة قانا، مدمن على الفسبكة، القدس، بيروت سمراء الجبين، لحارات دمشق سلامي، الحب الساحر، مدرس أنا، قدسنا والتهويد، رثاء المجد، وداد طرابلس، قصف الحسود، سيف الأسير، الصديق، مأتم المهر، امرأة أبية، ورد الحب، خبز الفقير، حين يشرّع اللواط، مهرجان ريما، عتاب صديق، أرخميدس، التكنولوجيا المتسرعة، الشيطان ابن الفساد، لهفة زوجة، وقبح ترسيس. 

لا بد من الاشارة في البداية الى ان الشاعر فاض واستفاض في عدد النصوص، وكأنه يريد ان ينشر ما كتبه خلال مختلف المراحل في كتاب واحد، وهذه الكثرة تربك القارىء الى حد ما. 

معظم نصوصه كتبت على طريقة الشعر الكلاسيكي، واللافت انه يكتب في أسفل كل قصيدة اسم البحر الذي التـزم به، ولست أدري ما المقصود بذلك؟ وما هي الإضافة التي يمكن ان يقدمها للقارىء؟ 
يبتعد أحياناً عن الشعر الكلاسيكي، ليس الى قصيدة التفعيلة، بل الى قصيدة النثر التي يعوّض عن  نثريتها باللجوء الى استخدام الاسجاع او القوافي التي تضفي شيئاً من الرونق الموسيقي المطلوب: ((انهض من جحيم الذل والعار/ وارم عدوك بحجر ونار/ ابق مكانك في الدار/ فالبديل خيمة خزي وعار/ ان صلبت فلملم أشلاءك بحجار..)). 

وأحياناً اخرى يتجاوز القوافي الى كتابة نص نثري خالص، فلا تزيين، ولا لجوء الى المحسنات البديعية برمتها، بل يسعى الى ان يكتب على سجيته، ليبدو تلقائياً، وكأن النص طازج، كتب البارحة. 

فإذا كانت الزيتونة تؤشر الى الخصوبة، وإلى الخيرات الفائضة، فإن القدس تؤشر الى ذلك الوطن المقدس، المحتل، الذي دنّسه الغازي بأفعاله المشينة. والذي يستمر في هذا السلوك، ليدفع الفلسطيني الى مغادرة هذا الفردوس المفقود، وليصبح الوطن مجرد صورة خيالية لا مكان لها على أرض الواقع. 

د. أنور الموسى المتفرغ في الجامعة اللبنانية يهيمن عليه الهمّ الفلسطيني من قمة رأسه الى أخمص القدمين. مأخوذ بمعاناة الشعب العربـي في فلسطين، منصهر بمعاناتهم اليومية، متابع دقيق لتفاصيل حياتهم، ومصرّ على مواصلة الجهاد من أجل فلسطين العربية، لكي يموت الانسان، وهو يشعر أنه ممتلىء بالعزة والكرامة: ((ولما لم أجد إلا سلاماً/ أشد من المصيبة او حماما/ رميت على حدود القدس جسمي/ وقلت لصحبتي موتوا كراما)). 

صحيح ان السمة الغالبة على هذا العمل هو القصائد الوطنية، إلا انه يتضمن كماً من القصائد ذات الموضوعات المتعددة، والتي يريد ان يعبر فيها عن موقف ما، كقصيدته في الحسين بن علي التي تشير الى التزام من نوع آخر، وإلى موقف الشاعر الواضح من الظلم، ومن الانحياز للفقراء، ضد كل حاكم غاشم. ((يحمي الفقير اذا ضاق السبيل به/ يهدي الرعيل.. اذا شاهدته جابا/ النبل حليته والمجد خصلته/ والصدق شعلته إن قرنه هابا/ أيا عزيزاً لقد جاهدت منتفضاً/ مدّت لك الجنة الموعودة البابا)). 

الديوان عودة الى القدس، الى الارض الأطهر، الى فلسطين حيث الجهاد الحقيقي، وحيث الاستشهاد من اجل التراب والعرض والشرف، وحيث الفعل المجدي ضد المحتل، الذي يطهّر الارض من دنس الاحتلال وقذاراته. ويعي الشاعر تماماً ان الاعتماد على قصور الحكام لا يفضي الى شيء، ولا يغير في واقع الحال شيئاً، ولهذا لا اعتماد الا على الشعب، الذي يناضل ويجاهد ايماناً بقضيته، ويستشهد انتصاراً لها، يقول: ((لا تسأليني عن الأنساب والذات/ أنا من القدس من شعب المروءات/ من منبع الصّيت من قدس مناضلة/ من معشر عرفوا معنى البطولات/ إنّـا لننجد من ذُلّوا ومن ظُلموا/ ولا نقول لقصر باعنا: هات)). 

وما يزال الشاعر على الرغم من كل التداعيات في الساحة العربية يحلم بالعودة الى القدس، الى المنبع الاول، الى دار الآباء والأجداد، لكن هذه العودة لا تتحقق إلا بالنصر المبين القادم، الذي ينقلنا من الظلمات الى النور الاسطع. 

ولا شك ان الحلم شيء والواقع شيء آخر، فمن حق الشاعر، وكل شاعر ان يحلم بالنصر، وأن يحلم بالعودة، وأن يتجول في حاراتها وأحيائها كما يروق له، لكن لغاية الآن ما تزال الأمور على حالها، وما يزال الحلم حلماً، وإن كان هناك بصيص أمل بأن يتحول الى حقيقة واقعة، تبصر النور، وتقلب الواقع الكائن رأساً على عقب، يقول: ((وفي القدس كان الملتقى بعد ظلمة/ فيا حبذا النبع الذي يشبه الخمرا/ تهاوى خرير الماء بين مشاعري/ وغردت الأغصان من فوقنا سكرا)). 

هذا وكان هناك عدد من الصور الفنية التي تستحق ان يشار اليها، ومنها: ((حكم سلاحك في رحاب المنـزل/ واذا بقيت بنار ذل فارحل)) و((موت الفتى في القدس فردوس له/ فوق الثريا والفضاء الأعزل)) و((فهل ثورة الغضبان إلا شرارة/ تطير عليها للكرام رقاب/ فكيف يجف الدمع او يكبت الفدا وقد بيع أشراف وعاش ذئاب)) و((زمان للإبا ودّعته/ ليته كان على العلاّت داما)) و((أججت نار حنيني في حدائقه/ شوقاً فكدت به أستنطق الحجرا/ فوشحت شعلتي في كل زاوية/ منها فطارت على أصحابها دررا)). 

وإن كان الشاعر الموسى يكتب الشعر الخليلي إلا ان اللافت انه حاول ان يتطرق الى موضوعات معاصرة تشغل بال الناس، وتأخذ حيزاً كبيراً من اهتمامهم، ومن أوقاتهم ايضاً، فمن منا يمكنه اليوم ان يتخلى عن الانترنت، ألم تصر حجر الزاوية في الحياة المعاصرة، لا مجال لتجاوزها او حتى التغاضي عنها لأنها باتت اكثر من ضرورية في زمننا المعاصر، وإن كان هناك من يضيع أوقاتاً طويلة بلا فائدة، وبلا طائل، عبر التسلي في ألعاب لا تجدي نفعاً، ولا تضيف الى المرء شيئاً. 

وكثير من الناس يتسلون بالـ((فايس بوك)) على سبيل المثال، فيقرأون باستفاضة بالغة ما كتبه الاصدقاء في هذه المسألة او تلك، ويبدون إعجابهم، وأحياناً وجهة نظرهم، او يقرأون عدداً من النكات التي تضحك من جهة، وتخفف عبء الحياة من جهة اخرى. 

كل ذلك واضح ومفهوم، لكن ان يكتب شاعر قصيدة في ((الانترنت))، ويعبر عن علاقته بالـ((فايس بوك))، ذلك الاختراع الكبير الذي قضى على الشعور بالوحدة، فذلك لم يسبقه إليه أحد، يقول: لفسبكة بعولمة لسان/ فبانت راحتي ومعي رهان/ لقد طعنت بذي وقت ثمين/ تنـزّه ان يشيئه الزمان/ ويوم فيه للألعاب نتّ/ يهان به لبيب قد يشان/ أنا أدمنت يا ويلي عليه/ وشاشته إذا خدع اللسان)). 

والشاعر الموسى صاحب اتجاه عروبي واضح فهو إضافة إلى لبنان وفلسطين يغني بلاد الشام بحب واضح وشغف كبير فالانتماء ليس انتماء اقليمياً بل هو انتماء قومي، يقوم على فهم عميق لحقيقة هذا الشعب الذي تآمرت عليه الدول الكبرى، وجعلته دولاً متعددة، ليبقى فريسة سائغة لهم، لكن الشاعر يتذكر دمشق وحاراتها كما يتذكر حارات القدس وزواريبها، يقول: ((يا صديقَيَ غنيا بدمشق/ حدثاها عن شوقي المستهام/ وطيور تنام في كل آن/ تحت تلك العيون والأحلام/ حبذا ريشتي التي رجعت لي/ من دمشق بعازف الأنغام)). 

((زيتونة القدس)) ديوان تقليدي مطبوع على الطريقة القديمة المتعلقة بالقصيدة الخليلية، وهذا ما يحدّ من الأفق المفترض أن يأخذه النص، لكي تظهر جمالياته للآخر بوضوح بالغ. 

والشاعر الموسى وعلى الرغم من كونه باحثاً أكاديمياً له إصدارات متعددة غير مهتم بشأن الحداثة، يكتب كأنها لا تعنيه، هو يغرّد في مكان، وهي في مكان آخر. 

يكتب ليفرغ شحنته الابداعية بالطريقة التي يراها مناسبة ولهذا يقفز من القصيدة العمودية إلى قصيدة النثر، دون أن يعرج بقوة على قصيدة التفعيلة، وهذا – لعمري – شأن لا مثيل له في الكتابات العربية. 

ولا بدّ من الاشارة إلى ان هناك كتابات له تخضع لنظام التفعيلة، وان كتبت على طريقة القصيدة النثرية كما هي الحال مع قصيدة ((ألقاك مع الحور العين)) التي اعتمدت على تفعيلة ((متفاعلن)) المستقاة من البحر الكامل. 

((زيتونة القدس)) ديوان يمكن أن يقسم إلى عدة دواوين، وقصائد ما تزال طازجة كأنها كتبت البارحة وظلت على ما هي عليه وكأنها ((التنـزيل)) الذي لا يُمسّ. 

ديوان فيه شعر كثير، وكان بالإمكان أن يكون أفضل بكثير، لو استخدم مقص الناقد، ولا شك ان أنور الموسى شاعر وهناك أكثر من قصيدة تشهد له بذلك، لكن كان عليه أن يكون أكثر دقة في عملية الاختيار، وأن يهتم بالشكل أيضاً، ليأخذ إصداره ما يستحق من قراءة واهتمام. 

 

لامع الحر 

 

 

 

الوسوم