بيروت | Clouds 28.7 c

أي ثَورةٍ.. لم تأكلْ رجالَها؟ / بقلم: رشيد الخيُّون

يكاد يكون تاريخ الدول السياسي سلسلة مِن الثورات والثورات المضادة، وما بينهما مِن حروب ومَقاتل، فمن كان قبل ساعات يوصف بالثَّوري المخلص أخذ يُقدم بالمتآمر العميل، هذه طبيعة الثَّورات، لا ترحم رجالها، ولا تحسب لهم الأعمار التي فُنيت في سبيل انتصارها.

حُصرت ممارسة ((الثَّورة تأكل رجالها)) بالثَّورة الفرنسية (1789)، حيث صدرت العبارة. قيل نُسبت إلى الثائر جورج دانتون (أعدم 1794)، الذي أعدمته الثورة بتهمة العمل على إعادة الملكية، لكن قائلها كان الكاتب والشاعر الألماني جورج بوشنه (ت1837)، ورد ذلك في مسرحيته ((موت دانتون)).

غير أن الممارسة كانت قديمة، ولم تنج منها ثورة مِن الثَّورات، من رفعت راية الدِّين أو راية الإصلاح والتَّحرر، فأول ثورة في تاريخ الإسلام، تشكل منها نظام سياسي، هي الثَّورة العباسية (132هـ)، ما أن مرَّ عام على انتصارها قُتل مدبرها السِّري أبو سلمة الخلال، بتهمة التآمر، وبعد بضعة أعوام قُتل قائدها العسكري، الذي أخضع لها الشَّرق، أبو مسلم الخراساني (137هـ)، خشية مِن تدبير ثورة مضادة، وقُتل محبوساً عمَّ الخلفاء عبدالله بن علي (140هـ)، وهو الذي أعلن الانتصار الكامل بقيادته الجيوش لقتل آخر خلفاء بني أُمية.

عندما بدأ عبيد الله العلوي (ت322هـ)، المعروف بالمهدي، بتنظيمه السِّري، أرسل عبد الله الداعي، فأسس مركزاً للدولة العبيدية بالقيروان، لكنه ما أن سَلمَ له كرسي الحُكم دبر قتله السنة(298هـ)، خشية مِن تدبير أمر ضده، قال المبعوث لقتله: ((الذي أمرتنا بطاعته أمرنا بقتلك)) (ابن الأثير، الكامل في التَّاريخ). كذلك أُهمل جوهر الصَّقلي (ت381هـ)، بعد توطئة مصر والشام للفاطميين، حتى احتاجوه في المعارك مع البويهيين، بعد دخولهم إلى الشَّام.

أتوقف هنا قليلاً مع الحروب بين البويهيين ((الشيعة الزيدية)) والفاطميين ((الشِّيعة الإسماعيلية)) فأجد فيها معلومة صادمة لمن يعتقد أن التَّاريخ عبارة عن صراع طائفي شيعة وسُنَّة، فيجعل من الحاضر امتداداً لذلك النِّزاع. فالبويهيون حاربوا الفاطميين لإعادة الشَّام ومصر للخلافة العباسية السُّنيَّة، ولم يوحد الولاء للعلويين بينهما، ولا إعلان عاشوراء في العاصمتين، بغداد والقاهرة، ولم ينفع الفاطميين رفع الأذان بـ((حي على خير العمل)) الشيعية!

ربَّما ليس هناك وازع روحي أو ديني يمنع الثَّوار غير الدينيين مِن البطش ببعضهم بعضاً، مِن الثورة الفرنسية إلى الروسية والمصرية والعراقية وغيرها، لكن الأمر يكون محرجاً مع الثَّورة الدينية، وقادتها رجال دين، فما أن انتصر انقلاب الإخوان المسلمين في السُّودان، عن طريق ضباطهم، حتى انقلبوا على شيخهم حسن التُّرابي (ت2016)، كذلك في الثورات الدِّينية يحضر بقوة النموذج الإيراني في أكل الثَّورة لرجالها.

اختفت أسماء كثيرة ممن عملوا سراً وعلناً من أجلها، أسماء لولاها ما وصل الخميني باريس، ولم يحظَ بدعم سياسي وإعلامي غربي، انتهى أولئك المخلصون له وللثورة، بينهم الشيخ علي تهراني، أحد أصحابه، وزوج شقيقة خامنئي، اختلف مع النظام الإسلامي، وحُكم عليه بالسجن والإقامة الإجبارية.

صادق قطب زاده، كان مع الخميني بباريس، صار أول وزير خارجية، أعدم (1982). أبو الحسن بني صدر أحد المقيمين مع الخميني بباريس، ومترجم له، هرب في طائرة قادها طيار الشَّاه الخاص، الذي طار به إلى المغرب ومصر، وعاد قبل وصول خميني إلى طهران ((ذكرياتي، زوج أحمد الخميني فاطمة طباطبائي)).

كان الشيخ مهدي كروبي، المعتقل في داره، أحد أبرز الثوار داخل إيران، وسجن عدة مرات، وهو الذي قام بتوزيع رسالة الخميني (1967) إلى رئيس الوزراء عباس هويدا (أعدم1979)، وتنقل من سجن إلى سجن، ناهيك عمَّا حصل لآية الله حسين منتظري نائب الخميني وخليفته.

لم توفر الثَّورات أجواء مستقرة، فبعد أيام تتحول إلى فتن ونزاعات بين قوى الثَّورة نفسها، سرعان ما يأخذ النَّاس بالنَّدم على تأييدها، وأفظع ما في الثورات هي المحاكم الثورية البعيدة عن تقاليد العدالة، وبهذا انتجت ضغائن، أخذت تتوارث، وبسبب ما حصل صار العراقيون على سبيل المثال لا الحصر، ينظرون إلى العهد الملكي بحنين، حتى الذين لم يعيشوا أيامه.

يغلب على الظَّن إنه لشدة المفاسد والاضطرابات التي شوهت الثَّورات، عبر التَّاريخ، جعلت العديد مِن الفقهاء يوصون بعد الثَّورة بطاعة المتغلب، وليس لنَّا وصفهم بالخنوع، بعد النَّظر في وقائع الثورات التي دفعت إلى هذا الرَّأي. يقول الشريف الرَّضي(ت406هـ)، وهو يرى كيف أخذت الثورات تعبث بالحكم، والسلاطين والغلمان ينزلون خليفة ويصعدون آخر، وقد سُحب الخليفة أمامه على الأرض:((أمسيت أرحم مَن قد كنت أغبطه/ لقد تقارب بين العزِّ والهونِ/ومنظر كان بالسَّراء يضحكني/ يا قرب ما عاد بالضَّراء يبكيني))، ((أبو الفداء، المختصر)). أي ثورة سياسية نالت السُّلطة، شيدت مجداً لشعبها، وسلم من أنيابها رجالها؟!

أقول: إذا كان لا بد مِن ثورة فهي ثورة الإصلاح والتَّنوير التي تخلق ثورة في داخل النظام نفسه، بلا هزات عاصفة، لكن ذلك لا ينطبق على الأنظمة المتزمتة التي لا تبذل جهداً للتغيير.

 

الوسوم