بيروت | Clouds 28.7 c

علوم الفلسفة في الأندلس من الإنفتاح الرحماني الى الإنغلاق المنصوري / بقلم عبد الهادي محيسن

مجلة الشراع 3 تشرين أول 2021

بعد قرن ونيف من فتح الأندلس ومع تحول الهاجس الجهادي الى هاجس عمراني بالمعنى الخلدوني للكلمة ، عرفت الفلسفة انفتاحها الأول على الفلسفة المشرقية المجلوبة من بغداد عاصمة الخلافة العباسية ، ففي عهد عبد الرحمن الثاني 206- 238 هجرية اتصلت إسبانيا الأموية (حسب قول المستشرق بروفنسال) بالشرق العباسي لأول مرة إتصالا مباشرا .

ذلك أن الأمير عبد الرحمن الثاني لم يكن يستلم الولاية حتى بعث الى المشرق جماعة من علماء عاصمته ليجلبوا له كتبا تتصل بما اشتهر من ميله الى العلم كالطب والفلسفة والعلوم الروحانية والتنجيم وتفسير الحلام ، فرأى أول فيلسوف إسلامي النور وهو عباس ابن فرناس الذي ارتبط إسمه بأسطورة محاولة الطيران الأولى للإنسان في الحضارة العربية الإسلامية .

وإن تكن مخترعاته العلمية كصناعة الزجاج من الحجارة والآلة الفلكية لقياس الوقت عُرفت بإسم الميقاتة تحيطه بهالة أكثر واقعية ، ومع أن ابن فرناس عانى من إضطهاد العامة والفقهاء الذين طعنوا مرارا في عقيدته ورموه بالزندقة ، ولكن بدون أدلة كافية لإدانته أمام القضاء وبذلك يكون ابن فرناس قد أرسى بداية تقليد في التعاطي مع علوم الأوائل ( فلاسفة اليونان) .

حركة الإنتاح الفلسفي بلغت ذروتها مع ابن مسرة المولود في قرطبة 269 – 319 حيث كانت الناس فيه فرقتان فرقة تبلغ فيه مبلغ الإمامة في العلم والزهد وفرقة تطعن فيه بالبدع وخروجه عن العلوم الجارية على مذهب أهل التقليد ، وإذا توقفنا عند مصائر مدرسة فلسفته المسرية بوصفها النموذج التاريخي الأول للفلسفة الأندلسية المقموعة .

وبالفعل لم يضطر ابن مسرة الى أن يقيم مدرسته في كهف في جبل فحسب ولا أن يفر الى المشرق عندما تزايد عليه ضغط الفقهاء الذين رموه بالزندقة فحسب ولا الى أن يلتزم التكتم في تعليم مذهبه حتى غدت المسرية مرادفة للسرية فحسب بل كان القمع الأشد هو الذي مني فيه بعد وفاته عندما أحرقت كتبه وأبيد تراثه وطورد تلاميذته ونكل بأتباعه .

بعد وأد المدرسة المسرية بأمر من عبد الرحمن الثالث كانت إنطلاقة ثانية في عهد الحكم الثاني المستنصر 350- 366  على يد حاجبه المنصور بن أبي عامر الذي أقام محرقة لخزائن الكتب تحببا منه الى عوام الأندلس والى فقهائها حيث كانت علوم الأوائل مذمومة على ألسنتهم وكل من قرأها متهما عندهم بالخروج من الملة مظنونا بالإلحاد في الشريعة .

يقول ابن طفيل في روايته (حي ابن يقظان) الفلسفية أن الملة الحنفية والشريعة الإسلامية قد منعتا من الخوض في علوم الفلسفة ، ونستطيع هنا أن نلاحظ تمايزا جذريا في الموقف بين ابن طفيل وابن رشد بصدد المشروعية الدينية للنظر الفلسفي فنقطة إنطلاق لأول أن فعل التفلسف محظور أو مكروه شرعا ، بينما هذا الفعل عند ابن رشد بمصطلح الأحكام الفقهية مندوب إليه بل مأمور به .

وفي عهد المرابطون الذي حكموا إسبانيا الإسلامية بين 483 – 540 أناخوا على الجو الثقافي بوطأة خانقة وفرضوا أحادية فقهية فقيرة ومقفرة ولم يدعوا من متنفس إلا للمذهب المالكي حصرا وأقاموا للفكر المختلف ما يشبه أن يكون محاكم تفتيش ، ودشنوا عهدهم بإحراق كتب ابن حزم وكتاب إحياء علوم الدين للغزالي .

والواقع أن المطاردة لم تقتصر على كتب أبي حامد الغزالي بل طالت كتب أشاعرة الأندلس ومتصوفيها فأقيمت المحارق في قرطبة وإشبيلية وغرناطة ، وإزاء هذا الحلف المعقود بين السلطة السياسية والسلطة الفقهية في العهد المربطي على حد قول الفيلسوف الفرنسي روجيه غارودي الذي يقدم عرضا لمحكمة التفتيش المرابطية ولدور الأوليغارشية الفقهية في قتل الإسلام في الغرب .

بدأ الموحدون الذين فرضوا سيطرتهم الشاملة على الأندلس ابتداء من العام 540 فبادروا أول الأمر الى رد الاعتبار الى الغزالي وشجعوه وأعلنوا الأشعرية عقيدة رسمية لدولتهم وفي عهدهم كلف ابن رشد بتلخيص كتب أرسطو وتفسيرها مترجما قرار التكليف بورشة عمل منقطعة النظير في تاريخ الفلسفة العربية لإعادة بناء المنظومة الأرسطية لكن ورشة العمل هذه بقيت فردية ومستورة فإبن رشد وحده من تصدى لهذا العمل على مدى ثلث قرن من خلافة أبي يعقوب وابنه المنصور .

أتم ابن رشد المرحلة الأولى من اشتغاله بالفلسفة بين 550 – 560 في سرية تامة وفي خوف دائم أن يُكتشف أمره وهي المرحلة التي أنجز فيها كتبه -المختصر في المنطق والمختصر في النفس ومختصر المجسطي وجوامع السماع الطبيعي وجوامع السلام والعالم وجوامع الكون والفساد وجوامع الآثار العلوية وجوامع ما بعد الطبيعة ، وهذا لا يعني أنه بعد لقائه الخليفة أبي يعقوب الموحدي قد كسر حواجز السرية .

لكن أهل قرطبة تأولوا في مصنفات ابن رشد الخروج عن سنن الشريعة ورفعوها الى الخليفة ابن منصور الذي أصم أذنيه عن دس السعاة  فجددوا وتابعوا سعايتهم وأعدوا ملفا ثانيا رصدوا فيه شنيع الهفوات ، ويبدوا أنه أسقط في يد المنصور ولم يكن له عند اجتماع الملأ إلا المدافعة عن شريع الإسلام فلم يجد بدا من نفيه الى أليسانة وهكذا بدأت نكبة ابن رشد ، ولكن لئن يكن المنصور قد أنقذ حياة ابن رشد فقد قضي بالمقابل بالإعدام النهائي على الفلسفة في الأندلس .

عبد الهادي محيسن ... كاتب وباحث

 

الوسوم