بيروت | Clouds 28.7 c

شكوى "فرتونة" والخليفة عمر بن عبد العزيز/ بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 6 أيار 2021

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم: {إن الله يأمركم أن تُؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكُموا بالعدل إن الله نعِمَّا يعظُكم به إن الله كان سميعًا بصيرا} سورة النساء.  

وجاء في حديث متشابهٍ لا يجوز حمله على الظاهر ونحن نورده ونشرح معناه فعن أبي مريم الأزدي قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من ولَّاه الله عزَّ وجلَّ شيئًا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخَلَّتهم وفقرهم احتجب اللهُ عنه دون حاجته وخَلَّته وفقره" رواه أبو داود. ورواه الطبراني بلفظ: "احتجب الله يوم القيامة عن خَلَّته وحاجته وفقره وفاقته". وليس المعنى أن الله يحتجب بحجاب يكون خلفه كما هو حال المخلوقين فإن الله لا يحويه مكان ولا يجري عليه زمان، وإنما المعنى أن من جعله الله واليًا لشىءٍ من شؤون المؤمنين فاحتجب أي امتنع من النظر في أمورهم عند احتياجهم إليه وامتنع من عرض شكايتهم عليه فلا هو اهتم لشأنهم ودفع فقرهم بما جعله الله لهم من حُقوق ولا قضى حوائجهم الضرورية احتقارًا لهم وعدم مبالاةٍ بأمرهم أبعده الله، فالمراد باحتجاب الوالي أو غيره من أصحاب النُفوذ بحسب ما أُنيط بهم من سلطة أن يمنع أصحابَ الحوائج أن يدخلوا عليه ويعرضوا حوائجهم عنده وبالتالي يتركهم بلا رعايةٍ ولا يصرف عمله لما وُضع له أصلًا في هذا المقام. وأما احتجاب الله تعالى فمعناه أن الله لا يُجيب دعوتَه وُيخَيِّب أملَه.

والحاجة هنا ما يهتم به الإنسان وإن لم يبلغ حد الضرورة. والخَلَّة: مأخوذةٌ من الخَلَل وهي الفقر والحاجة الشديدة. والفاقة: الفقر، والفقر أن يصل الإنسان إلى حالةٍ لا يجد فيها نصف كفايته كأن يحتاج لكفاية نفسه ومن تلزمه نفقتهم في اليوم عشرة فلا يجد خمسة.

وقد جاء ذكر هذه الألفاظ في الحديث وهي متقاربة المعنى للتأكيد والمبالغة في الاعتناء بأمر الناس ممن جعل الله له شيئًا من السلطة ففي الحديث وعيدٌ شديد لمن كان حاكمًا بين الناس فاحتجب عنهم (أي لم يقم بما وجب عليه من رعاية مصالحهم) لما في ذلك من تضييع الحُقوق فليحذر من وليَ شيئًا من أمر الناس فإنه كلما كان المنصب أكبر كلما كانت المسؤولية أكبر وليستعن على القيام بما كُلِّف به بالنظر في سيرة الخلفاء الصَّالحين.

الخليفة عمر و"فرتونة"

 وفي هذا المقام نورد قصة الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز مع امرأة كان يقال لها "فرتونة" فليتأمَّلها كل من كان في مواقع المسؤولية. جاء في "سيرة عمر بن عبد العزيز" لعبد الله بن عبد الحكم أن بريد عمر بن عبد العزيز كان لا يُعطيه أحدٌ من الناس كتابًا في شكوى أو حاجةٍ إلا حمله إلى عمر فخرج بريدٌ من مصر يومًا فدفعت إليه جارية يقال لها فرتونة السوداء، وكانت خادمةً عند رجلٍ يقال له ذو أصبح، كتابًا تذكر فيه أن جدار منزلها قصير وأنه يُقتحَم عليها منه فيُسرق دجاجُها فوصل كتابها إلى سيدنا عمر بن عبد العزيز فكتب لها: "بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى فرتونة السوداء مولاة ذي أصبح بلغني كتابك وما ذكرت من قِصرِ حائطك وأنه يُدخلُ عليك منه فيُسرق دجاجك، فقد كتبت لك كتابًا إلى أيوب بن شرحبيل (أمير عمر على مصر) آمرُه أن يبني لك ذلك حتى يُحَصِّنه لك مما تخافين إن شاء الله والسلام. وكتب إلى أيوب بن شرحبيل "أما بعد: فإن فرتونة مولاة ذي أصبح كتبت إليَّ تذكر قصرَ حائطها وأنه يُسرق منه دجاجُها وتسأل تحصينه لها، فإذا جاءك كتابي هذا فاركب أنت بنفسك إليه حتى تُحصِّنه لها". فلمَّا جاء الكتاب إلى أيوب ركب بنفسه حتى أتى الجيزة يسأل عن فرتونة فدُلَّ عليها فأتاها فأخبرها بما كتب أمير المؤمنين في شأنها وحصَّن لها الجدار".     

ولنا هنا كلمة: ليُعلم أولًا أن هذه القصة ما هي إلا سطر في سجل خلفائنا الراشدين ونقطة في بحر عظمة عظمائنا الكبار وهذه القصة وحدها عنوانٌ في تاريخ مجد أمتنا، ولا عجب أن يخرُج من أمةٍ قائدها محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثال عمر بن عبد العزيز في عدله وورعه وتقواه وحسن إدارته وسياسته، وإنما كان يقتفي في ذلك أثر جده لأمه سيدنا عمر بن الخطاب فجزى الله هذين العمرين عن أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم خير الجزاء.

سيد القوم خادمهم

لم يمنع اشتغال سيدنا عمر بن عبد العزيز بأمور أعظم دولة في ذلك الزمان، إذ كان يحكم الشام ومصر والحجاز والأندلس (أسبانيا) وإفريقيا وكل ما بين حدود فرنسا وحدود التيبت، أن ينظر في حاجة جاريةٍ سوداء ضعيفة بل وأمر عامله على مصر أن يُشرف بنفسه على النظر في شأنها وإتمام حاجتها، فلم يُعرض عنها ولم يُهمل شكواها ولم يُلق كتابها في أدراج النسيان كما هو حال كثير من أصحاب المواقع المتقدمة في بلادنا اليوم بل كان منه ما كان فحفظ له التاريخ ذلك، وها نحن اليوم نقرأ هذه القصة فنعجب من عظمة الخليفة عمر الذي كان لا يُهمل حتى مثل هذا، ولو قرأت سيرته لربما أخذك الذُّهول من شدة عنايته بأحوال الرَّعية، ومن لنا بمثل عمر اليوم والعباد تئن تحت وطأة البلاء والغلاء والناس تروح وتجيء ترجو عونًا من فلانٍ وغوثًا من آخر فلا من يسمع ولا من يجيب إلا النادر والقليل.

 وجديرٌ بالمؤمن إذ جعل الله له ولايةً من نحو رئاسةٍ أو ملكٍ أو وزارةٍ أن يتواضع ويهتم لرعاية شؤون الناس مثل سيدنا عمر وإلا فماذا تعني المناصب؟ وعن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سيد القوم خادمهم" رواه ابن عساكر في "تاريخ دمشق". فسيد القوم يُرجع إليه في النوائب فيكون موئلًا للمحتاجين فيقوم بأعبائهم وحفظ مصالحهم ومن يخدمهم هكذا هو السيد الحقيقي لا من يضطهدهم لتحقيق مآرب نفسه الدنيوية ثم يغلق بابه دونهم.

وإذا ما كان البدر يُفتقد في ظُلَم الليالي فكم نفتقد في ظُلَم الظُلْم إلى مثل عدل عمر، ونقول إن المفتون بالدنيا ومباهجها لا ينظر في دجاج فرتونة ولا بفرتونة نفسها.

 والحمد لله أولًا وآخرا.

 

الوسوم