بيروت | Clouds 28.7 c

رحل صديقي النجار الدكتور علي الملا / كتب حسن صبرا

رحل صديقي النجار الدكتور علي الملا / كتب حسن صبرا

 

رحل صديقي الحبيب علي الملا ابو محمد بعد ان ترافقنا في هذه الحياة 70 عاماً، منذ ان فتحت عيني على حديقة منـزلنا الخلفية الصغيرة التي أحالتها والدته الحاجة ام عمر الى جنة صغيرة فيها كل ما تشتهي الأنفس من خضار وفاكهة وشاي أخضر وزقزقة عصافير.. وأجمل الأصوات من نافذة منـزلها هو صوتها كأنها تعزف فيه عندما تتكلم بحنجرتها الصداحة رحمها الله.

ولدت عام 1948 وكان علي سبقني بست سنوات الى زاروب العانوتي الذي يشمل الآن مسجد سليم سلام.. وما مضى يوم في طفولتي لم أشاهد فيه علي الملا او لم أسمع صوته وطبعاً أصوات أهله وجدته وعمته وأشقائه عمر وعدنان وأحمد وحسن ووليد وشقيقاته المحروسات.

جمعنا زاروب العانوتي أطفالاً وصبية وفتية وشباناً وجمعتنا بيروت وحداثا ومصر وتركيا وطبرجا والمعيصرة وجبال الأرز وبيت الدين.. وكل ركن وزاوية حضنتنا سوية في الصيف وفي الشتاء، في الليالي ونهارات السهول والجبال، وأخيراً في شحتول وقد أمضينا سوية خمس سنوات كاملة كنا فيها ندماء وسهارى أيام الجمعة والسبت والأحد من كل اسبوع.. الى ان رمى علي الملا سلاحه وقال لقد تعبت وما عدت قادراً على مرافقتكم، ادعوا لي ان يخفف الله عني فقد هاجمني المرض الخبيث في كبدي ومن أين لي مقاومته وقد دخلت العقد الثامن وأنا الآن في السادسة والسبعين من عمري.

كانت أهم صفات الحاج علي هي خفة دمه.. الى حلاوة صوته عندما كان يغني لنا وهو في حالة عشق جميلة: ((ليه زعلانة قولي لي)).

الفن جزء من تركيبة مزاج علي الانسانية، فقد هواه حتى جمع من عمله ما يمكنه من شراء آلة البيانو في منـزله خلف منـزل أهلي القديم في الزاروب، وتخلى الحمالون عن أجرتهم بعد ان عجزوا عن ادخاله زواريب منـزل علي داخل زاروب العانوتي.. وما سمعنا عزفه إلا نادراً فقد كان مشغولاً في عمله من النجارة، وكان والده قاسياً، ووجدته أم عمر فرصة لتعتمده ((تشقيعة)) تضع الفرشات واللحف والمخدات فوقه؟

أتقن علي عمله كنجار، وكان عارفوه وزبائنه يرددون انه يعمل بمزاج وانه صاحب نزرية (أي نظرية أي كله نظر في عمله) كان يتصل بي في مكتبي في ((الشراع)) مطمئناً عني، وفي المرة الأولى التي سأل عني فيها، سألته أمل بنداق مين حضرتك قال لها قولي له الدكتور علي الملا، فلما نقلت لي أمل المكالمة انفجرت ضحكاً وقلت لها حولي الخط، وبعدها انفجرت أمل ضحكاً وأنا أشرح لها طبيعة علاقتي بالحاج علي، حتى انها كانت تضحك كلما حولت لي مكالمة منه، انه الدكتور علي الملا... الذي عمل أيضاً نجاراً في مستشفى المقاصد.

رفيق الدرب الى حداثا لعشر سنوات واسبوعياً، خصوصاً حين كانت تلالها محتلة من جهة الطيري ومن جهة رشاف وكنا نخرج ليلاً صيفاً شتاء، ونلتقط الصور الشخصية لنا تحت التلال المحتلة ونمشي في شوارع البلدة بالعرض حيث لا سيارات إلا ما ندر ولا ناس إلا اذا كان الأحد مناسبة لأسبوع فقيد او قتيل في سبيل الله، وفي اليوم الأول بعد التحرير في 25 – 5 – 2000، سمعنا منبه سيارة خلفنا ونحن نمشي في عرض الطريق عند الحسينية ومدخل منـزلي في حداثا، فالتفت علي نحو السائق مداعباً: هلق عم تزمر وين كنتو لما كنا لوحدنا هون؟

كان علي الملا رفيق لعبة الـ 14 بالورق – مع الحاج عبدالغني عيتاني ويوسف درويش صبرا وزهير عيتاني وأحمد ناصر وأحمد صيداني وغازي وحيدي وقاسم بدران وعبدالرحمان خانكان وشقيقي عيسى صبرا ومن أصدقائي في حداثا بهزاد منصور ابو حسن والمختار علي منصور و..

أزهدنا في اللعبة كان الحاج علي، وأسرعنا للخروج منها هو فلا يتعصب ولا يتذمر سيان عنده، سواء خسر او ربح، بل انه يسخر من الذي يزعل من اللعبة، ونريحه اذا قلنا له أنت مهزوم ولا يفيدك الاستمرار في اللعب، فيردد ((يلا))، وينسحب منتزعاً من جيبه علبة التبغ لإشعال لفافة، يستمتع بها، وقد رافقته حتى الاسبوع الأخير من حياته.

كان الحاج علي بطرافته الأقدر على توزيع الالقاب على الأصحاب، فعيسى صبرا هو إمامنا، لكثرة صلاته وطولها ونقاشاته الدينية، وأحمد ناصر (سجن في ايران وفي سورية) هو خريج الحبوس، ويوسف درويش صبرا هو خريج جامعة الرمل العالي (حيث كان يعمل رحمه الله) وهو صاحب التعابير الأكثر طرافة coveuse الذي يوضع فيه المولود قبل أوانه هو ((قوقاز))، والمتعلم كثيراً من وجهة نظر علي الملا هو صاحب الماجستير في ((البروفيه))..

بدأت آثار المرض على الحاج علي تظهر عندما كان يقول لأحمد ناصر: نفسي شايشة ولا أرغب في الطعام.. وعندما قال للحاج عبدالغني: الله أعلم يمكن يكون مرضي الآن بالسرطان هو طريقة موتي وانا لست خائفاً..

وكنت اذا تأخرت يوماً عن الاتصال به مطمئناً.. يردد يا الله شو اشتقتلك.. ابو احمد ضل اسأل عني يا خي الله يطول عمرك.

سبعون عاماً برفقتك يا حاج علي في هذه البسيطة هي أعمار أجيال، طحنتنا الدنيا بحلوها ومرها، برفقة أحباب ومغادرتهم وقد سبقك زهير عيتاني ويوسف درويش صبرا من مجموعتنا في رفقة العمر.. وقد صلينا عليك في جامع سليم سلام لكأن القدر أراد عودتك حتى وأنت مسجى الى زاروب العانوتي على بعد أمتار من مكان مولدك، وقرأنا الفاتحة في مقبرة الباشورة، والتقينا جمعاً تفرقت به السبل عبر عقود السنين، فجمعته في يوم رحيلك..

الى جنة الخلد يا صديقي الحبيب.

 

حسن صبرا

الوسوم