بيروت | Clouds 28.7 c

في ذكرى الإسراء والمعراج... فلسطين في ضمير الأمة  / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة الشراع 11 آذار 2021

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{سبحان الذي أسرى بعبده ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصا الذي باركنا حوله لنُريه من ءاياتنا إنه هو السميع البصير} سورة الإسراء.

لا يختلف مؤمنان أن السيرة النبوية العطرة مزدحمةٌ بالمناسبات الشاهدة على عظمة صاحبها أشرف الخلق رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وإن الكلام في شرح معاني أي مناسبة من هذه المناسبات يطول جدًا ولا نبالغ لو قلنا إننا لو أردنا أن نستفيض في ذلك لكلَّت البنان وجفَّت الأقلام ومن يُحصي بركات وفضائل أعظم العظماء نبينا  محمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا الله؟

كيف لا وهو أكرم الناس وأبرُّ الناس بل قد حاز من المكرُمات ودلائل السُّمو ما لم يتيسَّر لأحدٍ سواه من الإنس والجن والملائكة، وما أعطى اللهُ نبيًا معجزةً إلا وأعطى محمدًا صلى الله عليه وسلم مثلَها أو أعظمَ منها، وخصَّه ربنا تعالى بما لم يعطه لسواه قطُّ، ومن ذلك معجزة الإسراء والمعراج التي كانت وما زالت ذكرى طيبة تفوح بنسائم الشرف رغم مئات السنين فتعبق من أريجها الزكي وتستقي من معينها الهنيِّ أفئدةُ المؤمنين التي ما زالت تحنُّ شوقًا إلى مدد ونفحات رسول الله صلى الله عليه وسلم بنظرةٍ إلى مُحيَّاه الشريف في المنام فيطيب القلب وتقرُّ العين.  

الشَّرف العظيم

لقد أسرى الله القادر على كل شىءٍ بنبيه الأعظم سيدنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم يقظةً بروحه وجسمه صلى الله عليه وسلم من أُمّ القُرى مكة المكرَّمة من بيت بنت عمه أم هانئ بنت أبي طالب حيث كان صلى الله عليه وسلم يبيت عندها بين جعفر وحمزة إلى البيت الحرام الكعبة المشرَّفة ومنه إلى المسجد الأقصى. والإسراء لغة هو السير ليلًا. وقد رأى صلى الله عليه وسلم في أثناء سيره هذا من عجائب مخلوقات الله ما رأى مما يطول ذكره وشرحه وقد سبق وذكرنا بعضه في مقالاتٍ سابقةٍ تتعلَّق بالمناسبة فليراجعها مريد الفائدة،  وقد كانت الغاية من الإسراء والمعراج أصلًا تشريف نبينا صلى الله عليه وسلم بإطلاعه على جملة من عجائب مخلوقات الله كما دلَّت على ذلك الآية أعلاه وقوله تعالى أيضًا:{لقد رأى من ءايات ربه الكُبرى} سورة النجم.

وما لبث النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم أن وصل إلى المسجد الأقصى المبارك وإلى أرض الإباء والصمود فلسطين، وهناك تلألأت أركان المسجد الأقصى بالأنوار وازدهت أرجاؤه بالأعطار حيث جمع الله في رحاب المسجد الأنبياءَ الكرام صلوات الله وسلامه عليهم، وكان اللقاء المبارك لقاء أشرفِ الخلق بأشرفهم وأكرمِ الناس بأكرمهم وأزكى البرايا بإمامهم فتقدَّمهم وصلَّى بهم، وعن أبي هريرة في حديث الإسراء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ثم حانت الصلاة فأممتهم" رواه مسلم.

ويُستفاد من تقديم النبي محمدٍ صلى الله عليه وسلم للإمامة بالأنبياء عليهم السلام أنه أفضلهم، وإذا ما كان نبينا صلى الله عليه وسلم أفضل الأنبياء فإن أمته أفضل الأمم. ثم كان العُروج بعد ذلك إلى السموات العلا وهناك استقبله بعض الأنبياء الكرام في كل سماء ورأى من آيات ربه ما شاء الله له أن يرى، ثم جاوز السموات السبع حتى دخل الجنة التي وعد اللهُ المتقين بها، فقد روى البخاري ومسلم عن عمران بن الحصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"اطَّلعتُ في الجنة فرأيتُ أكثرَ أهلِها الفقراء" فأبشر أيها الفقير الصابر الصَّالح. ورأى  صلى الله عليه وسلم كثيرًا مما أكرمه الله تعالى برؤيته، ورأى ربَّه بقوة جعلها الله في قلب نبيه لا بعيني رأسه، رآه بلا كيف ولا جهة ولا مكان، ولا يقال إنه وصل إلى مكان التقى فيه برب العالمين كما يقول الجاهلون فالحق أن الله تعالى موجود بلا مكان لا يحويه مكانٌ ولا يجري عليه زمان كما دلَّ على ذلك النقل والعقل والإجماع، وقد أوضحنا حقِّية التنزيه أيضًا في مقالاتٍ سابقةٍ فلينظرها من شاء.

ثم أصبح صلى الله عليه وسلم في الأرض بعد ما أمسى في السماء فراح يُحدِّث الناسَ بما كان فازداد بذلك المؤمنون إيمانا وأبى الكافرون إلا طغيانًا ونفورًا. وليت شعري لماذا يأبى الملاحدة تصديق ذلك ويُقرُّون في نفس الوقت بأن الإنسان قد وصل إلى القمر أو المريخ! وإذا ما قبلت عقولهم هذا وهو ممكنٌ عقلًا ولا نقول باستحالته فما الذي يمنعهم من تصديق أن الله تعالى أيَّد نبيه صلى الله عليه وسلم بمعجزة الإسراء والمعراج وأدلةُ النقل والعقل تشهد بأن الله على كل شىءٍ قدير، ولكنَّ الله يُظهر أعلام النبوة ويُوضح دلالة الرسالة ويُثبت حقائق الإيمان فضلًا على أوليائه وحُجَّةً على المعاندين ليهلك من هلك عن بينةٍ أي بعد قيام الحُجَّة ويحيا من حيَّ عن بينة. 

فلسطين في ضمير الأمة

 وما زالت العقول النيِّرة تبث من فيض ما يتفجَّر فيها من بحار الفهم لدقائق ما اشتملت عليه هذه المعجزة الغرَّاء من المعاني العظام والأسرار الجسام الشاهدة على كذا وكذا من الأمور ابتداءً بإظهار شرف نبينا وسائر الأنبياء عليهم السلام وصولًا إلى المعاني الدَّالة على مكانة المسجد الأقصى حيث كان منتهى الإسراء ومبدأ المعراج، وما تمثِّله فلسطين في ذاكرة أمةٍ قائدها النبي العربي محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم.  

وفي هذا المقام نقول: يأبى الشرفاء المساومة على فلسطين ولو كانت حبة تُرابٍ واحدة ولا حقَّ في الأقصى لليهود الغاصبين، ومهما حاول العدو العمل على مسح فلسطين والقُدس من ذاكرة أمتنا فلن يجد إلى ذلك سبيلا، ومهما لبس العدو ثوبَ الحمَل يبقى ذئبًا ضاريًا لا أمان له، ومهما جرَّد الظلام جحافله السوداء فلن يلبث أن يُعسعس أمام طلائع الفجر، والأيام وإن طالت فلا تقلب الباطلَ حقًا فالقدس قدسنا وفلسطين أرضنا والإسلام ديننا ومحمدٌ صلى الله عليه وسلم نبينا، ودين الأنبياء جميعًا واحدٌ هو الإسلام والأرض قابعةٌ في حنايا القلب ولكن الأيام دُول.  

ولستِ بهيكلهم بل وإن                        سليمان كان سليمانَنَا

والحمد لله أولًا وآخرا.

 

الوسوم