بيروت | Clouds 28.7 c

في مديح لقمان وإختلاطه اللبناني/  بقلم نداء عودة

مجلة الشراع 7 شباط 2021

لا يمكن للمصاب بذهول صدمة غيابه ان يقرّر الكتابة عنه في حينها، فغير أسرته العظيمة، للقمان سليم أسرة من أصدقاء وزملاء الفكر والكلمة ممن إعتراهم مثلي الألم الكبير وجرح صدمة الإنتقام من عقله وفكره الذي يحمل أحلاماً بحجم وطن عبر إغتياله بالرصاص، والرصاص هذا الذي بات يسرح بيننا طليقاً في بلدٍ كان في ماضيه الجميل ملاذاً للحريات وملجأً للمفكرين الهاربين من قمع أنظمة الجوار الديكتاتورية.

في اللقاءات اليومية التي كانت منذ عقدين ونيف تجمعنا يوميّاً  كأصدقاء حالمين بالكلمة والحرية على فنجان قهوة في شارع الحمراء  كنا نجد بجوار طاولاتنا في" ويمبي " " ومودكا"مثقفين عرباً هاربين من قمع انظمتهم، لبنان كان برغم حكم المخابرات السورية قادراً على التوازن والوقوف بوجه كَتَبَة التقارير والواشين الصغار الذين كثيراً ما تلصّصوا على مجموعات يسارية  مستقلّة وكُتّاب أحرار في تطلّعاتهم. إمتدّت السهرة في يوم صيفيّ من المودكا إلى شي اندريه ثمّ  وايت دوف حيث كان لقمان مصطحباً قريبه القادم من السفر، المفارقة أنّ القريب إنسجم في الأحاديث السياسية والشخصية بما فيها من أجواء فرح، بينما لقمان صامت ومصغٍ كعادته وفي ذلك متعة اكتشفتها فيما بعد عند لقمان الذي لديه شغف معرفي في قراءة الناس كما قراءة الكتب، فكان يستمع إلى حكايا الناس ويستخلص عِبٌراً سياسية وإنسانية منها، كنا مجموعة أصدقاء ننتمي لبيئاتٍ متناقضة تسكنها ذهنية الحرب الأهلية، لكن توحّدها احلاماً يعيقها واقع طائفي وعنصري مقيت "، كنا نضحك ونسخر من واقعنا ونحكي ونغني  وكان لقمان يصغِي ويبدو سعيداً ومبتسماً  من كرسيه البعيد عن البار، فبدا لي كمن يسجّل في رأسه مشهداً مسرحيّاً، وإستخدم في نهاية السهرة كاميرا الزميلة ندى فارس ليلتقط صورة جماعية لنا، هكذا كان لقمان يراقب تناقضات المجتمع اللبناني الحامل لذهنية الحرب إلى ما بعدها، إنقضت الليلة وتطوّع الأصدقاء لتوصيلي إلى منزلي لكنّ الجملة الوحيدة التي نطقها لقمان ليلتها هي "ما حدا بوصلها غيري"، إستقلينا سيارة تاكسي وأيضاً لم ينطق لقمان بكلمة سوى أنه أشار للسائق وجهتهُ وإطمأنّ لوصولي وغادر.

بهذا النّبل عرفتهُ أكثر، وبقراءاتي لبعض من إنتاجاته الفكرية مثل ترجمته ونشره لسيرة من سِيَر الحرب الاهلية لجوزيف سعادة "أنا الضحية والجلاد انا" أدركت مدى اهتمام لقمان بالذاكرة الشفهية للحرب والصراعات الأهلية في لبنان لتوثيقها والإفادة من دروسها، وكم أنه كان مهتماً بتدوين تجارب الأفراد من ماضي الصراعات علّها لا تعود وعسى أن يصبح التناقض نعمة وإرهاصاً لدولة مدنيّة من شأنها أن تطوي صفحة الحروب العقيمة و صراعات دموية كان لقمان  قد وثّقَ من أرشيفها ما يعود إلى قرون خَلَت.

عام ٢٠٠٥ دخلت البلاد في مزيد من الشرذمة وأقفلت مقاهينا واصبحت لقاءات الأصدقاء رهينة المصادفة، وفي هجرتي الأميركية ظلت الحرب الأهلية اللبنانية هاجسي، فالنموذج الأميركي الكثير الإختلاط العِرقي والديني واللاديني لازال الدستور وقوانين المساواة يضبطان إيقاع توازنهُ من مخلّفات الحرب الأهلية الأميركية، كنت عام ٢٠١٧ أثناء زيارتي بيروت دُعيت إلى طاولة حوار للمركز الذي يرأسه لقمان"أمم" حول اللاجئين في لبنان وحينها أسسنا كحضور لجنة لمتابعة هذا الشأن، بعد فترة راسلني لقمان حيث انا في أميركا على أمل اللقاء عند عودتي إلى البلاد حيث طلب معاونتهُ في مشروع "... ولبنانيون أيضاً ولبنانيات.. في مديح الإختلاط اللبناني" ، عندما إلتقينا كان أوّل ما سألني إياه "هل خرجتِ من الحرب الأهلية أم لا؟" إرتبكت وأجبت بلا، فهزّ برأسه وقال "إذن أكتبي" وصار لقمان بطيبته المعهودة يحضر لي الدفاتر حتى املأها بالكتابة كما قال.

كان تفنيد الحرب الأهلية عند لقمان هو أساس لرتق شقوق المجتمع اللبناني وصولاً إلى لبنان الوطن ، من هنا

صبَّ مشروع عملنا  في قيام الهوية اللبنانية على الإختلاط بالعودة إلى أصول العائلات اللبنانية عبر شخصيات عامة، ولم يكن بعيداً عن لقمان شخصيات كثيرة لبنانية من أصول سورية او فلسطينية او يونانية وهو الذي عمل على توثيق لبنان  ككيان قائم على اللجوء وهجرات الأقليات المضطهدة إليه . كانت شخصياتي المختلطة تذهل فضول معرفتها عن كثب عنده فتستدعي  أسئلته ساعات من النقاش والأحاديث، وحتى نلتقي ونتحدث طويلاً عن فارس الخوري وليلى خالد وشفيق الحوت وال دوغان ذوي الأصل التركماني البلقاني والمطربة طروب ذات الأصل الشركسي وال الرومي وعرنيطة وغيرهم الكثير، كان لقمان احياناً  يستخدم الركوب وراء سائق دراجة تابعة ل "تاكسي كريم" للوصول إلى منزلي، فيما عدا استئجاره سيارة في حال اخترنا العمل في مكان عام على أن يكون شبه خالٍ من الرواد، واستنتجت أن ذلك لم يكن دافعهُ الحذر بقدر ما كان ينتمي لطباع حياة لقمان التي أراد أن يعيشها ببساطة وبعيداً عن الضجيج، فهو تماماً كما نصحني حين اشكو له قيود الحياة اللبنانية والتعامل مع هذا المجتمع الغارق في ذهنية الحرب والتمييز العنصري "هاجري بعقلك خارج هذا السرب"، ونعم كان لقمان مهاجراً بعقله اكثر من كونه حذراً الأمر الذي كان سبباً في تمايزه، وربّما كانت سبباً بوقوعه في فخّ الإغتيال...

هذا الكلام لا يعني ان لقمان كان مستهتراً بأمنهِ الشخصي، لأنه كان شديد الملاحظة فيما حوله من أشخاص او روّاد في الأماكن العامة، في الوقت عينه كان لقمان شجاعاً، متمسكاً بعلو جرأتهِ حين نقول له "ارجوك خفّف من جرعة جرأتك فنحن نخاف عليك " وكان يجيب "الخوف في التخفيف وليس في الجرعة" وحين شكوت له يوماً أن يعود ما شهدته في حياتي الصحفية من خوف وتهديد، اجابني بجملة لازالت تطرق ذهني عند كل موقف

"إن خِفتَ أمراً فقَعْ فيه".

تفاصيل ربما خرجت عن إرادة لقمان في مشروع "لبنانيون وأيضاً لبنانيات.. " أثارت حفيظتي و" زعلي" منه ولكن ظلّ لقمان في القلب والذاكرة المتجدّدة فهو الصديق الطيب الذي يهتمّ بأمور أصدقائه من" كيف الحيّ وجيران السكن وهل من مشكلات في هدوء الحياة والكتابة والفن؟ "....

وظلّ لقمان الذي تعشق منهُ لغته العربية وكتاباته الطالعة مثل شعاع منبعث من تراثها.

وظلّ لقمان الباحث عن مظلومي ومفقودي الحرب علّها تنطوى إلى غير رجعة، وظلّ الحقوقي المدافع عن اللاجئين وظلّ

ظلّ العقل الموسوعي والمعرفي المتوقّد الذي خسرناه بطلقات الرصاص؟ لأعود وأستخدم سؤال لقمان نفسه..

هل خَرَجَت الحرب الأهلية منّا؟

الوسوم