بيروت | Clouds 28.7 c

أضواء على علم الناسخ والمنسوخ / بقلم الشيخ أسامة السيد

مجلة  الشـراع 14 كانون الثاني 2021

الحمد لله وكفى وسلامٌ على عباده الذين اصطفى.

قال الله تعالى في القرآن الكريم:{ما ننسخْ من ءايةٍ أو نُنسها نأتِ بخيرٍ منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شىءٍ قدير} سورة البقرة.

لقد أنزل الله تعالى القرآن الكريم هدىً للناس ودليلًا لإخراجهم من الظلمات إلى النور وجعل فيه أحكامًا وعبرًا وقَصصًا، وهو المرجع الأول عند المؤمنين،قال تعالى:{وإنه لكتابٌ عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد} سورة فُصِّلت. قال الطبري في "تفسيره":"لا يستطيع الشيطان أن يُنقص منه حقَّا ولا أن يزيد فيه باطلا". فهو الكتاب الحق وهو المعجزة المستمرة عبر تعاقب الشهور والسنين، فما أثبته القرآنُ فهو ثابت وما جاء في القرآن أنه لا يكون فلا يكون، وكل ما خالف القرآن فهو باطل وإن قال به ألف قائل.

وعلوم القرآن غزيرةٌ وكثيرة وقد صنف كثير من أهل العلم في شتَّى العلوم القرآنية فكشفوا للناس عن تلك الجواهر المكنونة في هذا الكتاب العظيم، ولا يخفى أن من تلك العلوم الجليلة علم الناسخ والمنسوخ وهو علمٌ مبارك يُحتاج إليه في معرفة تفسير ما أنزل ربنا تعالى ليعرف الباحثُ مواضعَ الاستدلال على الأحكام المقررة، لأن بعض ما جاء في كتاب الله منسوخٌ أي كان العمل به مشروعًا في مدةٍ معيَّنة زمن حياة النبي صلى الله عليه وسلم ثم شَرَع الله حكمًا آخر بدله زمن حياة النبي أيضا ، ومن لم يعرف ذلك قد يحتجُّ بالمنسوخ فيثبت حكمًا قد رُفع العملُ به وهو لا يدري، وإليكم بعض الإيضاح لذلك:

النسخ في الكتاب والسنة

النسخ لغةً: الإزالة، وشرعًا: رفعُ حكمٍ شرعيٍ سابقٍ بحكمٍ شرعيٍ لاحق. وفي الآية أول المقال إثبات ذلك، والمراد بالنسخ المذكور فيها رفعُ الحكم وإقامةُ غيره مقامه، والمراد بقوله "نُنسِها" نسخ الحكم من غير إقامة غيره مقامه، قاله السَّمعاني في "تفسيره". أي أن بعض الأحكام تُنسخ فيحل محلَّها أحكامٌ أخرى وهذا يقال له نسخٌ إلى بدل، وبعض الأحكام تُنسخ ولا يُشرع بدلها شىءٌ آخر وهذا يقال له نسخٌ إلى غير بدل. وفي كتاب "القضاء والقدر"للبيهقي في تأويل قوله تعالى: {يمحوا الله ما يشآء ويُثبت}: "عن ابن عبَّاس يقول: "يُبدِّل الله ما يشاءُ من القرآن فينسخه ويثبت. يقول (ابن عباس): يثبت ما يشاء لا يُبدِّله". أي ينسخ الله ما يشاء ويُثبت ما يشاء فلا ينسخه.وفي كتاب "القضاء والقدر" أيضا: "هذا أصح ما قيل في تأويل هذه الآية وأجراه على الأصول وعلى مثل ذلك حملها الشافعي رحمه الله". ويعني بالأصول قواعدَ العقيدة أي أن هذا التفسير موافق لقواعد العقائد، ولا يجوز حمل هذه الآية على أن مشيئة الله تتغير بأن يُقدِّر شيئًا ثم يُغيِّر تقديره ومن اعتقد ذلك فقد ضلَّ ضلالًا بعيدا.

ثم إن النسخ ينقسم إلى أقسامٍ متعددة والكلام في تفصيله يطول ولكنني سأقف على بعض ذلك ليكون القارئ على معرفة بطرفٍ من هذا العلم ولو قليلًا فأقول: يجوز نسخُ الكتابِ بالكتاب أي نسخ آية بآية كما في آيتي العدة قال تعالى:{والذين يُتوفَّون منكم ويذرون أزواجًا وصيةً لأزواجهم متاعًا إلى الحول} سورة البقرة، ففي الآية أمر لمن توفي زوجها بالعدة حولًا أي سنةً ثم نُسخ هذا الحُكم بقوله تعالى:{والذين يُتوفَّون منكم ويذرون أزواجًا يتربَّصن بأنفسهن أربعة أشهرٍ وعشرا} سورة البقرة، فصارت مدة العدة للمتوفَّى عنها زوجها أربعة أشهرٍ وعشرة أيام ما لم تكن حاملًا فتنقضي عدَّتها بوضع الحمل.

ويجوز نسخُ السنةِ أي الحديث بالكتاب أي القرآن كما في نسخ استقبال بيت المقدس في الصلاة الثابت بالسنة الفعلية، فقد روى البخاري عن البراء بن عازب أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشرا شهرا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُحبُّ أن يُوجَّه إلى الكعبة فأنزل الله "قد نرى تقلُّب وجهك في السمآء". وتمام الآية: {فلنولينَّك قبلةً ترضاها فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولُّوا وُجوهكم شطره وإن الذين أُوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم وما الله بغافلٍ عمَّا يعملون} سورة البقرة.

ويجوز نسخُ السنةِ بالسُّنة أي الحديث بالحديث كما في حديث بُريدة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نهيتكم عن زيارة القُبور فزُوروها" رواه مسلم. فقد نهى أول الأمر النبي صلى الله عليه وسلم عن زيارة القُبور ثم رخَّص في زيارتها وكلٌ من النهي المتقدم والأمر المتأخر بوحي من الله.

وفوق ذلك فإن النسخ أنواعٌ، هذا النوع يندرج تحت عنوان كذا، وذاك النوع يندرج تحت عنوان كذا، والكلام في بيان ذلك طويل ولن نخوض فيه فإنه لا يكفي مقال واحدٌ لاستيعاب كل ما يتعلَّق بهذ الفن فإن الناسخ والمنسوخ علمٌ عريض صُنفت فيه كتبٌ خاصة ومن أراد التبحُّر فيه فليرجع إلى سؤال أهل العلم. 

النسخ لحكمة

وحيث عُلم هذا فليُعلم أيضًا أنه لا يلزم من النسخ البَداءُ على الله كما زعمت اليهود، وقالوا ببطلان النسخ. ومعنى البَدَاء ظُهورُ أمرٍ كان خافيًا وهذا مستحيل في حق الله، ومرادهم بذلك تأييد زعمهم أن شريعة موسى عليه السلام لا تُنسخ ليكفُروا بعيسى وبمحمدٍ عليهما السلام، وقد افتروا على موسى عليه السلام وزعموا أنه قال: "إن شريعتي باقية إلى يوم القيامة" وهذا كذبٌ على موسى عليه السلام وهم يعلمون أن موسى عليه السلام جاء بنسخ بعض ما جاء به من قبله من المرسلين. ونحن نقول: لا يستلزم من النسخ البَداءُ بل فيه حكمة تختلف باختلاف الأزمان كما أن الطبيب يصف الدواء في وقتٍ وينهى عنه في وقتٍ آخر لكون الوقت الأول مناسبًا لحال المريض لا الثاني، ومما ينبغي أن يُعلم في هذا الفن أنه لا نسخ بعد موت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن النسخ بالوحي والوحي من خصائص الأنبياء، ولا يدخل النسخ في العقائد كنحو تنزيه الله عن المكان والمثيل فإنما عقيدة كل المؤمنين واحدة وليست العقيدة شيئًا قابلًا للنسخ إنما كان النسخ في بعض الأحكام العملية فليُعلم هذا.

والحمد لله أولًا وآخر

الوسوم