بيروت | Clouds 28.7 c

خلاصة عهد دونالد ترامب / بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشـراع 14 كانون الثاني 2021

إذا عدّدنا مساوئ السنوات الأربع التي حكم دونالد ترامب فيها الولايات المتحدة الأمريكية فإنها لا تُحصى..

 وإذا أردنا إحصاء أكاذيبه فإنها لا تُعدّ..

 لكن،

في الوقت نفسه يمكن رؤية إيجابيات للعهد الترامبي هذا تخصّ المجتمع الأمريكي وأيضاً الأمم الأخرى من أقصى شمال الكرة الأرضية إلى أقصى الجنوب، وعلى رأسها فضح حقيقة النظام السياسي لأمريكا ورفع الغطاء عن الطبيعة الحقيقية لحكامها، وهذا الأمر لم يكن ممكناً في عهد رؤساء يتصرفون بمكر وحيلة ولا يُظهرون مكنون نواياهم، بل يغلفون جرائمهم بعبارات تبدو منطقية، ويُخفون سمومهم تحت غطاء من كلمات معسولة، وهذا ما جعل كثيرين في داخل أمريكا وخارجها ينخدعون بهذا البلد، ويرون فيها النموذج الأمثل شعباً وحكومة؛ لكن السنوات التي كان دونالد ترامب رئيساً للولايات المتحدة الأمريكية والتصرفات الرعناء والمواقف غير العقلائية التي صدرت منه مستندة كلها إلى المواد القانونية وبغطاء من عدد كبير من أعضاء السلطتين التشريعيتين في مجلسي النواب والشيوخ، يجعلنا نعتقد أن العلة الأساسية ليست في الرجل الأهوج الفاقد للتوازن العقلي الذي وصل عام 2016 إلى البيت الأبيض، بل المشكلة في أصل النظام الذي تسير عليه الولايات المتحدة، وهو الذي يسمح لأي شخص مهما كانت سوابقه الأخلاقية والإجتماعية والأسرية سيئة وفاضحة أن يصل إلى سدة الرئاسة...

وبالنتيجة،

يمكن لهذا الرجل التلاعب بمصير الدول والشعوب كافة مستعملاً القوة العسكرية تارة والحصار الإقتصادي مرة وسلسلة العقوبات القاسية حين يشاء، ولعله في مرحلة من المراحل ينفذ تهديده بإطلاق قنبلة نووية على بلد من دون أن يحتاج إلى إذن من أحد، أو يخشى من محاسبة من قبل أحد، فله حرية التصرف بدون أخذ موافقة مسبقة من أحد، وذلك بموجب أمر تنفيذي يصدر عن الرئيس فقط.

لقد رأينا طوال هذه السنوات الأربعة كيف كان يُصدر الرئيس الأمريكي القرار تلو القرار من دون ان يآبه بالسلطات التشريعية الأمريكية، ويبادر إلى طرد وعزل كل من لا يوافق رأيه من دون أدنى مناقشة واعتراض من زملائه وأعضاء إدارته، ويُلغي قرارات لأسلافه من الرؤساء دون التفات لمواقعهم، ويتحدى القرارات التي تصدر من مجلسي النواب والشيوخ مستعملاً الفيتو الذي من حقه بحسب القانون، وأخيراً الرئيس الذي عليه حفظ النظام العام والإلتزام قبل غيره بالقوانين والحفاظ على السلم الأهلي يدعو ومن على منصة البيت الأبيض المواطنين إلى الزحف نحو العاصمة، وبخطاب له أمام مقر رئاسته يحرضهم على الشغب والفوضى وانتهاك القانون ومداهمة مباني أهم المؤسسات الدستورية وهو مبنى " الكابيتول "، ما أدّى إلى خراب كبير ونهب الاموال والعبث بالمحتويات الثمينة الموجودة فيه، وعلى الرغم من كل هذا نجد أن بإمكان قلة من مؤيديه في السلطة التشريعية الحؤول من دون استكمال إجراءات مساءلته وعزله استناداً إلى القانون.

ما يحدث في الداخل الأمريكي ينعكس على الشعب الأمريكي نفسه، ونحن نهتم بما يحدث هناك ونتعاطف مع المظلومين والمضطهدين في تلك البلاد بحكم الفطرة الإنسانية فحسب، لكن ما يعنينا هو تأثيرات وجود رئيس مجنون كدونالد ترامب مثلاً على رأس السلطة في الولايات المتحدة وتأثيرات هذا الرئيس على بلادنا كون أمريكا مع الأسف الآن هي مركز الإقتصاد العالمي، وفيها مراكز القرار كمبنى الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي وكثير من المؤسسات الأخرى ذات الطابع الدولي، وإن ما شاهدناه طوال الأربع سنوات الماضية كشف لنا كيف يمكن للرئيس الأمريكي التلاعب بجميع تلك المؤسسات والخروج عن قراراتها ساعة يشاء، بل وفرض العقوبات على مسؤولين فيها لا يوافقون على إملاءات الرئيس الأمريكي، وكذلك وضع سيف العقوبات بالجملة على رقاب الدول والشعوب التي لا ترضخ لإرادة سيد البيت الأبيض خلافاً للقرارات الدولية والأصول الإنسانية من دون أن يعارضه أحد في الداخل ويوقف تصرفاته الإستكبارية الرعناء، فالإعتراف بالقدس المحتلة عاصمة للدولة الصهيونية جاء خلافاً للقرارات الدولية، وإعلان الجولان المحتل جزءاً من الكيان الصهيوني كان على الرغم  من القرارات الدولية أيضاً، والإعتراف بالصحراء الغربية جزءاً من المغرب تم بمعزل عن المنظمة الدولية، كل هذا التصرف الإستكباري للرئيس الأمريكي والتجاهل التام للمؤسسات الدولية الموجودة أغلبها على الأراضي الأمريكية، وحتى إمكانية خروج الرئيس الأمريكي " بشخطة قلم " عن معاهدات دولية بين بلاده وأية دولة في العالم لمجرد أن بينه وبين الرئيس الذي سبقه مشكلة خاصة ويحمل عقدة نفسية تجاهه، وحتى العمل على سدّ الطريق على من يخلفه بقرارات عشوائية في الفترة الفاصلة بين انتخاب الرئيس وتسليم السلطة له، لا لشيء سوى التنفيس عن أحقاده والتعبير عن العقد الكامنة في داخله، كونه كان يتوقع أولاً ويقول جازماً أنه سيبقى لدورة ثانية في البيت الأبيض وهو فشل في ذلك، وكان يأمل أن يجعل الجمهورية الإسلامية ترضخ أمامه وتجلس على طاولة واحدة معه، وقدم تنازلات لأجل حصول مجرد لقاء عابر، وتوسل في سبيل تحقيق ذلك بوسطاء، وأخيراً أعلن أنه وضع رقم هاتفه الخاص بتصرف الإيرانيين على أمل أن يهاتفه أحد من المسؤولين، فيجعل من ذلك انتصاراً لنفسه وتعويضاً عن خروجه عن الإتفاق الذي أبرمه سلفه باراك أوباما، وهو لم يوفق في أي من محاولاته تلك، فعمل بكل جهده للتعويض عن فشله مع الجانب الإيراني بنصر في الملف النووي لكوريا الشمالية...

 لكنه،

 صار ألعوبة بيد الزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ اون، حيث قلب الطاولة في أخر لحظة، وبعد أن جرّ الرئيس الامريكي ثلاث مرات للقائه، إذ رفض التوقيع على اتفاق كان جاهزاً وموضوعاً على الطاولة، وتمت كافة التحضيرات، وتهافتت مختلف وسائل الإعلام الأمريكية والعالمية لتغطية الحدث، وكانت الخيبة الكبرى للرئيس الأمريكي والإستهزاء بأجلى صوره من جانب الزعيم الكوري...

وقرر دونالد ترامب أيضاً إسقاط الرئيس الشرعي في فنزويلا، واستعمل كل الوسائل حتى بلغ مرحلة الإعلان وبكل وقاحة عن تقديم رشاوى بعشرات الملايين لمن يتخلى عن الرئيس مادورو، وأعلن اعترافه بخصم الرئيس رئيساً شرعياً للبلاد وضغط بكل قوة لينال هذا الرجل اعترافاً من دول العالم، وأخيراً حاول إرسال مرتزقة من دول الجوار لإثارة الفوضى في البلاد والقيام بعمليات اغتيال، وفرض العقوبات القاسية على تلك البلاد، وقامت قطع البحرية الأمريكية بفرض الحصار الكامل على فنزويلا لمنع وصول النفط والغذاء والدواء على أمل أن ينقلب الشعب على رئيسه، لكن الإنتخابات الأخيرة أعطت الأكثرية لمن حاربه الرئيس الأمريكي بكل إمكاناته، وأسقطت خصمه رئيس مجلس النواب الذي راهن عليه ترامب ووضع تحت تصرفه ملايين الدولارات...

فكانت نتيجة سلسلة الصدمات تلك،

أن تحول هذا الرئيس من إنسان غير متزن عقلياً في الأساس باعتراف كثير من المسؤولين الأمريكيين أنفسهم إلى شخص مجنون في أعلى درجات الجنون يفعل كل شيء من دون أن يفكر في عواقبه، ويقوم بتصرفات لا يمكن تبريرها حتى من اقرب مساعديه في إدارته وأشد مؤيديه في حزبه، فخسر أكثر العاملين معه والمقربين منه، وكذلك كتلة الحزب الجمهوري في مجلس الشيوخ الذي كان السند والحامي له في وجه الحملات المتكررة لخصومه في مجلس النواب من الحزب الديمقراطي.

وأخيراً،

ظهرت حقيقة الرئيس الأمريكي أمام شعبه والعالم مسانداً للهجمات العنصرية، ومحرضاً على الشغب، ومتمرداً على القانون، وزعيماً للعصابات الإجرامية، ومسؤولاً عن اقتحام مناصريه لأهم مبنى يرمز إلى الديمقراطية الأمريكية، وذلك لمجرد أن رغبته في البقاء سنوات أخرى في الحكم لم تتحقق، وأن آماله في قيادة دفة الحكم قد تبخرت، وأن أعضاء الكونغرس سيجتمعون في المبنى للتصديق على النتائج المعلنة قبلاً من جانب المجمع الإنتخابي وذلك في خطوة رمزية.

لكن،

المهم في كل المشهد أن قسماً كبيراً من الشعب الأمريكي وبعشرات الملايين يقف خلف هذا الرجل المجنون، ويستجيب لنداءاته وينفذ تعليماته، ولا يبالي بنتائج تصرفاته والآثار الكارثية على اقتصاد بلاده وسوء السمعة أمام العالم، والذي كان يتوهم الكثيرون فيه رقيّ الشعب الأمريكي، وينظرون إليه أنه أمة متحضرة وسباقة في الرشد كما هي متقدمة في التكنولوجيا، ويبذل بجد النخبة المخدوعة في بلاد عديدة الجهود في سبيل التشبه بهذا الشعب والتأسي بنظامه وحتى التحالف مع دولته والسير في ركبه، أملاً في تحقيق الرفاهية للشعب والعيش في رحاب الحرية، لكن تلك الصورة قد تحطمت، والآمال تبخرت، والحقيقة انكشفت، ولم يجرؤ أحد بعد التطورات الأخيرة على الدعوة للإستفادة من هذا النموذج من أجل تسيير أمور العباد وإدارة شؤون البلاد..

وهذه كانت خلاصة عهد دونالد ترامب...

وما لم يكن ممكناً إيضاحه من قبل بأي حال، وإقناع المسحورين المتأثرين بالضخّ الإعلامي الهائل لتلميع صورة الكيان الذي تأسس على إبادة عشرات الملايين من السكان الأصليين، واستقدام الملايين من أفريقيا بالخداع لاستعمالهم عبيداً مغلولين يُباعون ويُشترَون، وقد بيّن الله سبحانه في كتابه كيف أباد دولة المستكبرين وفضى على كيان الظالمين بقوله:

(قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد فخرّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون) صدق الله العلي العظيم.

السيد صادق الموسوي

 

الوسوم