بيروت | Clouds 28.7 c

ارتدادات الحرب الآذرية ـ الأرمنية / بقلم السيد صادق الموسوي

مجلة الشراع 15 كانون الأول 2020

 كانت جمهورية آذربايجان الحالية جزءاً من إيران حتى العام 1813  قبل أن يتخلى عنها فتحعلي شاه القاجاري بموجب اتفاقية "'گلستان " الذي عقده مع الحكم القيصري في روسيا على أرض " قره باغ "، وحتى مساحات كبيرة من جمهورية أرمينيا الحالية وكذلك أجزاء من " جورجيا " كانتا ضمن السيادة الإيرانية، وبموجب نفس الإتفاقية وإتفاقية " تركمنجاي " تم سلخها من الأراضي الإيرانية، حيث بلغ مجموع المساحات المقتطعة حوالي 250000 كيلومتر مربع..

  ومن جهة أخرى كانت افغانستان الحالية جزءاً من الأراضي الإيرانية حتى تم فصلها في العام 1863  حيث تم التنازل عن مناطق منها واحدة بعد واحدة خلال عهد الملوك الصفويين والقاجاريين، وآخرها على عهد ناصر الدين شاه قاجار بناءً على معاهدة عُقدت مع الحكومة البريطانية في العاصمة الفرنسية باريس، وقد بلغت المقاطعات المنسلخة عن السيادة الإيرانية في منطقة القوقاز فحسب 16 ولاية، إضافة إلى مناطق شاسعة تشمل جمهورية الشيشان وابخازيا وداغستان، عدا عن فقد إيران سيادتها الكاملة على بحر قزوين والتي تبلغ مساحتها 120000 كيلومتر مربع، وأيضاً تواجدها على ساحل البحر الأسود.

لكن،

 بعد سقوط الحكم القيصري وقيام النظام الشيوعي حنّ المواطنون في أكثر المناطق المنتزعة من إيران حسب معاهدة " گلستان " إلى وطنهم الأم، وأرسلوا برقيات إلى العاصمة الإيرانية طهران وقدموا عرائض عديدة إلى مؤتمر الصلح الذي انعقد عام 1918 في باريس عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية مطالبين فيها بإعادة الأجزاء المنتزعة سابقاً إلى إيران.

لكن،

 الحكام الشيوعيين حينذاك رفضوا التجاوب مع المطالبات الشعبية وأصروا على إبقاء السيطرة على تلك المناطق عنوة ومارسوا القمع الشديد بحق المواطنين أصحاب الأرض، بل حاولوا اقتطاع مناطق جديدة في شمال إيران وإلحاقها بالإتحاد السوفياتي لكنهم واجهوا مقاومة شرسة من الإيرانيين أفشلت خططهم.

لقد تم إلحاق آذربايجان الحالية بالخصوص بروسيا القيصرية بموجب عقد إيجار لمدة 99 عاماً انتهى منذ سنوات، كما كانت هونغ كونغ مستأجرة من قبل بريطانيا لمدة 99 عاماً واستردتها الصين بعد انتهاء المدة، ويحق لإيران أيضاً وطبقاً للقوانين الدولية المطالبة باستعادة المناطق المستأجرة وفرض سيادتها عليها.

هذا من الناحية الجغرافية..

 أما من الناحية العقائدية،

 فإن 90%  من مواطني جمهورية آذربايجان هم من الشيعة الإثني عشرية، حيث تمسك الشعب الآذري بهويته الشيعية طوال الحكم الشيوعي الذي دام أكثر من 70 عاماً  على الرغم من إصرار السلطات الشيوعية على محو كل انتماء ديني وبث روح الإلحاد بين المواطنين..

لكن،

 بمجرد انهيار الإتحاد السوفياتي اتجهت الجموع الآذرية بعشرات الألوف نحو الأراضي الإيرانية وعبرت نهر " أرس " الفاصل بين الحدود متحدين البرد القارص في تلك الفترة، وتجاوزت الحدود وتلاقى الأقارب بعد طول فراق، وانهمرت دموع الشوق من عيون الذين فضّلوا اللجوء إلى إيران عقب تخلي ملوك إيران عن مناطقهم وهرباً من عمليات الإبادة والقمع التي واجهوها، وذلك لحظة احتضانهم إخوانهم الذين بقوا هناك طوال أكثر من قرن من الزمان، والتحق عدد كبير من النخبة الآذريين بالحوزات العلمية في الجمهورية الإسلامية في إيران وهم اليوم من كبار العلماء والدعاة الناشطين في جمهورية آذربايجان..

والجدير ذكره،

أن آية الله خامنئي هو أساساً من " خامنه " وهي قرية صغيرة تقع ضمن محافظة آذربايجان الشرقية، وقد هاجر والده السيد جواد وسكن مدينة مشهد المقدسة في جوار مقام الإمام علي الرضا عليه السلام، واللغة الأصلية لآية الله خامنئي هي التركية.

إن  حيدر علييف الأمين العام للحزب الشيوعي في آذربايجان السوفياتية سرعان ما أظهر الإنقلاب على الشيوعية بمجرد تزعزع أركان النظام في موسكو، واظهر الحماس لاستقلال آذربايجان في مواجهة الموجة الشعبية المطالبة للعودة إلى حضن وطنهم السابق، وعمل بكل طاقته على إثارة النزعة القومية التركية، وتوجه من أجل ذلك نحو تركيا العلمانية قبل تسلم الإسلاميين مقاليد الحكم فيها، وفي الوقت نفسه  عمل على مواجهة التوجه الديني ومنع إقامة الشيعة لشعائرهم، لكن الناس تحدوا إجراءات السلطة وأحيوا مراسم عاشوراء حاشدة في كل عام بمشاركة مئات الألوف، وأيضا واظبوا على المشاركة الكثيفة بالمناسبات في شهر رمضان وأيام ولادات أئمة أهل البيت ووفياتهم في المساجد والحسينيات.

ولقد تمادى حيدر علييف في بعض المراحل في مواجهة إيران حتى أنه نادى بوحدة آذربايجان ما يعني فصل محافظتين ومناطق أخرى يقطنها الأتراك في إيران، وذلك بتحريض ودعم من الولايات المتحدة الأمريكية والكيان الصهيوني.

لكن،

 الموقف الإيراني في الحرب الآذرية ـ الأرمنية أفشل الخطة الصهيو ـ الأمريكية، ولم تنفع كل محاولات تركيا يومذاك لتغيير المعادلة على الأرض، بل كانت الهزيمة الآذرية أمام أرمينيا، وتم احتلال مناطق من آذربايجان؛ ومنذ ذلك الوقت ضعف الموقف الآذري وفشلت سياستها المعادية لإيران، وهذا ما فرض التغيير في التوجه الرسمي لحكومة جمهورية آدربايجان، خصوصا بعد موت حيدر علييف وتسلم ابنه إلهام علييف مقاليد السلطة، وكذلك بفعل انتهاء سلطة العلمانيين في تركيا وإمساك حزب العدالة والتنمية بزعامة عبد الله غول ومن بعده طيب أردوغان مقاليد الأمور هناك، ونتيجة التقارب الشديد بين الحكام الجدد في تركيا والجمهورية الإسلامية حيث كان كثيرون منهم في حمى إيران لفترة طويلة يقطنون في العاصمة طهران لما أدانتهم المحاكم التركية بعد وقوع الإنقلاب العسكري والذي أطاح بنجم الدين أربكان أول رئيس حكومة إسلامي في تركيا.

لقد بدأ عهد من التعاون على صعيد المنطقة كلها بين الحكام الإسلاميين في تركيا والجمهورية الإسلامية حيث الإنتماء المذهبي لتركيا متعدد على الرغم من وجود الغالبية السنية إذ يوجد فيها حوالي 20 مليون من الطائفة العلوية، وأيضاً حوالي 5 ملايين من الشيعة الإثني عشرية، إضافة إلى التوجه الصوفي لأغلب أهل السنة هناك..

وهنا يتلاقى الجميع في موضوع حب آل بيت النبي صلى الله عليه وآله..

 وهذا ما يجعل الغالبية السنّية أيضاً قريبة من الشيعة والعلويين الأتراك..

 وقد حضرت شخصياً احتفالات عديدة أقامها أهل السنة في تركيا في مناسبات تتعلق بأهل البيت عليهم السلام، وألقيت خطابات في الحشود لاقت تشجيعاً قوياً وتصفيقاً حاداً من الحضور، وقدمت نسخة من كتاب " تمام نهج البلاغة " للبروفسور حيدر باش زعيم حزب تركيا المستقلة والمعارض لأردوغان في حضور حشد كبير من المشاركين خلال إحدى تلك الإحتفالات، وكانت 16 قناة فضائية تركية تبث وقائع الإحتفال مباشرة، وهو قام بتقبيل الكتاب ووضعه على رأسه على مرأى من الحاضرين والمتابعين على القنوات الفضائية، وحضر الرئيس طيب أردوغان أيضا في أكثر من عام مراسم الشيعة في يوم عاشوراء بمدينة إسطنبول، وألقى خلالها كلمة بثتها بصورة مباشرة القنوات التلفزيونية التركية الحكومية والخاصة كلها، وقام أردوغان كذلك أثناء سفره إلى العراق بزيارة مرقد الإمام علي عليه السلام في النجف الأشرف، يُضاف إلى ذلك الزيارات المتبادلة بين مفتي عام تركيا وعلماء الدين والمسؤولين في المؤسسات الدينية في إيران والعراق.

إن الخلاف الفكري يقع في الأساس بين التوجه التركي القائم على الطريقة الصوفية وبين التوجهات التكفيرية التي تستند في عقيدتها على منهج ابن تيمية، وعلى الرغم من المشاركة التركية لسنوات في التحالف الدولي في سوريا، والإستفادة من حشود المقاتلين القادمين من أطراف المعمورة، واستغلالهم في الحرب الدائرة حالياً في ليبيا، فإن مقام الصحابي أبي أيوب الأنصاري صاحب منزل الرسول صلى الله عليه وآله أول قدومه إلى المدينة المنورة والواقع في مدينة إسطنبول يعجّ دائماً بالزائرين من مختلف المناطق التركية في وقت يرى أصحاب العقيدة الوهابية التكفيرية أن زيارة القبور بدعة وهي ضلالة، وقد قاموا بتفجير وهدم مئات من المزارات للأئمة والصالحين في المناطق التي سيطروا عليها في سوريا والعراق، وكان أهمها تفجير مرقد الإمامين من أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله علي الهادي والحسن العسكري عليهما السلام في مدينة سامراء العراقية.

أما التعامل التركي مع جمهورية آذربايجان فإنه يتم بالتنسيق المستمر مع المسؤولين في الجمهورية الإسلامية في إيران..

والموقف الذي اتخذته طهران كان موضع تقدير للرئيس علييف، وقد سارع أئمة الجمعة وممثلو آية الله خامنئي في أربع محافظات ناطقة باللغة التركية إلى مساندة الموقف الآذربايجاني، واستعملت وسائل الإعلام الإيرانية مصطلح " استعادة المواقع " أثناء تغطية أنباء الحرب ما يعني تبني الموقف الرسمي لجمهورية آذربايجان..

 واغلقت إيران الحدود مع أرمينيا ومنعت وصول أية إمدادات للطرف الأرمني، ما سرّع التقدم العسكري الآذري على الأرض وتقهقر الجيش الأرمني..

 لكن،

 كان لا بد للقيادات الإيرانية مراعات العلاقات التاريخية مع الطائفة الأرمنية منذ الإبادة الأرمنية ولجوء عشرات الآلوف منهم إلى إيران وتوطنهم فيها بعد ذلك، حيث بطريركية الأرمن في تقع في مدينة إصفهان، ولأبناء الطائفة أيضاً نواب في مجلس الشورى الإسلامي، وكذلك الأخذ في الإعتبار العلاقات الحسنة القائمة بين النواب والقيادات الأرمنية مع حزب الله في لبنان، والآذريون من الجهة الأخرى يجمعهم مع الإيرانيين المذهب الشيعي وبلادهم في الأساس جزء مقتطع عنوة من إيران بموجب عقد الإيجار لمدة 99 سنة، ويوجد في العاصمة الآذرية ممثل خاص دائم لآية الله خامنئي معترف به من السلطات الآذرية، وهذا ما يفرض التعامل بدقة متناهية مع التطورات العسكرية في منطقة"  قره باغ ".

إن الشيعة الذين يشكلون الأغلبية للشعب في جمهورية الآذربايجان قد ثبتوا على عقيدتهم طوال فترة الحكم الشيوعي، وتحملوا حملات القمع، وقاوموا محاولات التأثير على معتقداتهم الدينية، وهم تحدوا السلطة القمعية لحيدر علييف وأصروا على ممارسة شعائرهم الدينية، وهم لا يزالون متمسكين بالعقيدة غير متأثرين بالإشاعات حول تحول بعضهم عن المذهب الجعفري إلى غيره من المذاهب..

 وهذا التأكيد،

 هو ما أبلغني إياه عدد من الإخوة من داخل العاصمة الآذرية " باكو " ومدن أخرى ومن المتابعين للشأن الآذري في تركيا، بل أكدوا لي أن جميع المقاتلين الآذريين كانوا دوماً ينادون يا " حيدر " و " يا حسين " وهم يتجهون في أرتال إلى ساحات المواجهة، والرئيس الآذري أيضاً تقرب كثيراً في الآونة الأخيرة من التيار الديني بعد استعادة المقاتلين للمناطق المحتلة، حيث كان الحافز الديني وحده الذي يدفع الشباب إلى التضحية بأرواحهم الغالية لدحر المعتدين وتحرير أرضهم من المحتلين، ويؤكد المطلعون والذين هم على الأرض أن الإشاعات بحضور المرتزقة التكفيريين في ساحات القتال روّجها الإعلام الأرمني أثناء المعركة، إذ كيف يمكن أن يقف القائلون بكفر الشيعة إلى جانب المنادين باسم حيدر والحسين وهم يقتحمون صفوف الأعداء، ثم إن المزاعم بتحول بعض الشيعة عن المذهب الجعفري يكذبها الموجودون على الأرض هناك مؤكدين ميول البعض نحو السياسة التركية لدورها المساند في جبهات الحرب.

 لكن،

 هذا الأمر لا يعني أبداً التخلي عن العقيدة التي تشبث بها الآذريون طوال الحكم الشيوعي لبلادهم وثباتهم عليها على الرغم من قمع حكم علييف الأب، فهل تزعزع إيمانهم هذا خطوة تهدف إلى كسب سياسي للتغطية على الأزمة الداخلية بين رجب طيب أردوغان وخصومه، ودفع الساحة التركية للتوحد خلف الرئيس عبر إثارة العصبوية القومية للشعب التركي، وإن زيارة اردوغان للعاصمة الآذربايجانية ومشاركته في العرض العسكري هناك أتى لقطف الثمار واستغلال النتائج في الميدان العسكري لتلميع صورة الرئيس وتضييق الخناق على معارضيه السياسيين..

 لكن،

 زيارة وزير الخارجية الآذري إلى طهران قبل انطلاق العرض العسكري موفداً خاصاً من قبل الرئيس علييف ولقاءه الرئيس روحاني ووزير الخارجية الدكتور ظريف وتقديم الشكر رسمياً من قبل الرئيس الآذري لموقف الجمهورية الإسلامية تجاه الحرب لهو تعبير صريح عن الموقف المتوازن للحكومة الآذرية، والغيمة العابرة التي مرت في العلاقة الإيرانية ـ التركية عقب قراءة الرئيس التركي أشعاراً تعبر عن النزعة التوسعية التركية انتهت نتيجة اعتذار رسمي تركي للحكومة والشعب الإيرانيين قدمها باسم الرئيس وزير الخارجية التركي في اتصال هاتفي مع وزير الخارجية الإيراني، وعادت المياه إلى مجاريها وصدرت تأكيدات من الطرفين على ضرورة تجاوز الخلافات الهامشية والتزام الوحدة الإسلامية، ووجوب الحفاظ على التعاون بين البلدين في مواجهة المخططات المعادية للأمة الإسلامية وذلك التزاماً بامر الله سبحانه:

( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون ) صدق الله العلي العظيم.

السيد صادق الموسوي

الوسوم